درء تعارض العقل والنقل/36

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


كلام الأشعري[عدل]

فقال الأشعري في بعض كتبه: ( قال بعض أصحابنا: أول الواجبات الإقرار بالله تعالى وبرسله وكتبه ودين الإسلام وقال أيضا: لو سأل سائل عمن ورد من الصين ورأى الاختلاف ماذا يلزمه؟ فقال: عنه جوابان: أحدهما: أن يلزمه النظر ليعرف الحق فيتبعه

والثاني: يلزمه اتباع الحق وقبول الإسلام ثم تصحيح المعرفة بالنظر والاستدلال على أقل ما يجزئه )

وقد تنازع أصحابه وغيرهم في النظر في قواعد الدين: هل هو من فروض الأعيان أو من فروض الكفايات؟ والذين لا يجعلونه فرضا على الأعيان منهم من يقول: الواجب هو الاعتقاد الجازم ومنهم من يقول: بل الواجب العلم وهو يحصل بدونه كما ذكر ذلك غير واحد من النظار من أصحاب الأشعرية وغيرهم ك الرازي والآمدي وغيرهما

والذين يجعلونه فرضا على الأعيان متنازعون: هل يصح الإيمان بدونه وتاركه آثم أم لا يصح؟ على قولين والذين جعلوه شرطا في الإيمان أو أوجبوه ولم يجعلوه شرطا اكتفوا بالنظر الجملي دون القدرة على العبارة والبيان ولم يوجب العبارة والبيان إلا شذوذ من أهل الكلام

ولا ريب أن المؤمنين على عهد رسول الله والصحابة والتابعين لم يكونوا يؤمرون بالنظر الذي ذكره أهل الكلام المحدث كطريق الأعراض والأجسام لكن هل يقال: مجرد الاعتقاد الجازم كان كافيا لهم؟ أم لا بد من علم يحصل بالنظر؟ أم يحصل علم ضروري بغير الطريقة النظرية؟ فهذا مما تنوزع فيه

رد ابن حزم[عدل]

قال ابن حزم: ( فاحتج من أوجب الاستدلال بالإجماع على أن التقليد مذموم وما لم يعرف بالاستدلال فهو تقليد ) ( قالوا والديانات لا يعرف حقها من باطلها بالحس لا يعلم إلا بالاستدلال ومن لم يحصل له العلم فهو شاك واحتجوا بقول النبي فيما حكاه من المسؤول في قبره قال: [ فأما المؤمن - أو الموقن - فيقول: هو عبد الله ورسوله وأما المنافق أو المرتاب فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ]

وقال في الجواب: ( التقليد أخذ المرء قول من هو دون الرسول ممن لم يأمرنا الله باتباعه وأخذ قوله بل حرم علينا ذلك وأما أخذ قول الرسول الذي فرض الله تصديقه وطاعته فليس تقليدا بل إيمان وتصديق واتباع للحق وطاعة الله ورسوله )

قال: ( فموه هؤلاء الذين أطلقوا على الحق - الذي هو اتباع الحق - اسم التقليد الذي هو باطل والقرآن إنما هو ذم فيه تقليد الآباء والكبراء والسادة في خلاف ما جاءت به الرسل وأما اتباع الرسل فهو الذي أوجبه لم يذم من اتبعهم أصلا )

قال: ( وأما احتجاجهم بأنه لا تعرف الأشياء إلا بالدلائل وبأن ما لم يصح به دليل فهو دعوى ولا فرق بين الصادق والكاذب بنفس قولهما فإن هذا ينقسم قسمين فمن كان من الناس تنازعه نفسه إلى تصديق ما جاء به الرسول حتى يسمع الدلائل فهذا فرض عليه طلب الدليل إلا أنه مات شاكا أو جاحدا قبل أن يسمع من البرهان ما تثلج به نفسه فقد مات كافرا وهو مخلد في النار بمنزلة من لم يؤمن ممن شاهد النبي حتى رأى المعجزات فهذا أيضا لو مات قبل أن يرى المعجزات مات كافرا بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام وإنما أوجبنا على من هذه صفته طلب البرهان لأن فرضا عليه طلب ما فيه نجاته من الكفر والقسم الثاني: من استقرت نفسه إلى تصديق ما جاء به رسول الله وسكن قلبه إلى الإيمان ولم تنازعه نفسه إلى طلب دليل توفيقا من الله له وتيسيرا له لما خلق له من الخير والحسنى فهؤلاء لا يحتاجون إلى برهان ولا إلى تكليف استدلال وهؤلاء هم جمهور الناس من العامة والنساء والتجار والصناع والأكراه والعباد وأصحاب الحديث الأئمة الذين يذمون الكلام والجدل والمراء في الدين )

قال: ( وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: { حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون * فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم }

وقال تعالى: { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء }

قال: ( فقد سمى الله راشدين القوم الذين زين الإيمان في قلوبهم وحببه إليهم وكره إليهم المعاصي فضلا منه ونعمة وهذا هو خلق الله الإيمان في قلوبهم ابتداء وعلى ألسنتهم ولم يذكر الله في ذلك استدلالا أصلا وليس هؤلاء مقلدين لآبائهم ولا لكبرائهم لأن هؤلاء مقرون بألسنتهم محققون في قلوبهم أن آباءهم ورؤساءهم لو كفروا لما كفروا هم بل كانوا يستحلون قتل آبائهم ورؤسائهم والبراءة منهم ويحسون من أنفسهم النفار العظيم عن كل من سمعوا منه ما يخالف الشريعة ويرون أن حرقهم بالنار أخف عليهم من مخالفة الإسلام )

قال: ( وهذا أمر قد عرفناه من أنفسنا حسا وشاهدناه في ذواتنا يقينا فلقد بقينا سنين كثيرة لا نعرف الاستدلال ولا وجوهه ونحن - ولله الحمد - في غاية اليقين بدين الإسلام وكل ما جاء به محمد وفي غاية سكون النفس إليه وفي غاية النفار عن كل ما يعترض فيه بشك وكانت تخطر في قلوبنا خطرات سوء في خلال ذلك ينبذها الشيطان فنكاد لشدة نفارنا عنها أن نسمع خفقان قلوبنا استبشاعا لها كما أخبر رسول الله إذ سئل عن ذلك فقيل له: إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يقدم فتضرب عنقه أحب إليه من أن يتكلم به فأخبر النبي بأن ذلك محض الإيمان وأخبر أنه وسوسة الشيطان ثم تعلمنا طرق الاستدلال وأحكمناها - ولله الحمد والمنة - فما زادنا يقينا على ما كنا بل عرفنا أننا كنا ميسرين للحق وصرنا كما عرف وقد أيقن يكون - الفيل سماعا ولم يره ثم رآه فلم يزدد يقينا بصحة إنيته أصلا لكن أرانا صحيح الاستدلال رفض بعض الآراء الفاسدة التي نشأنا عليها فقط )

قال: وإن المخالفين لنا ليعرفون من أنفسهم ما ذكرنا إلا أنهم يلزمهم أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر قبل استدلالهم ولا بد فصح بما قلنا أن كل من محض اعتقاد الحق بقلبه وقاله بلسانه فهم مؤمنون محققون ليسوا مقلدين أصلا وإنما كانوا مكذبين مقلدين لو أنهم قالوا واعتقدوا أننا إنما نتبع في الدين آباءنا وكبراءنا فقط ولو أن آباءنا وكبراءنا تركوا دين محمد لتركناه فلو قالوا هذا واعتقدوه لكانوا مقلدين كفارا غير مؤمنين لأنهم إنما اتبعوا آباءهم وكبراءهم الذين نهوا عن اتباعهم لم يتبعوا النبي الذي أمروه باتباعه )

قال: ( وإنما كلق الله الإتيان بالبرهان - إن كانوا صادقين - الكفار المخالفين لما جاء به النبي وهذا نص الآية ولم يكلف قط المسلمين الإتيان بالبرهان ولا أسقط اتباعهم حتى يأتوا بالبرهان والفرق بين الأمرين واضح وهو أن كل من خالف النبي فلا برهان له أصلا فكلف المجيء بالبرهان تبكيتا وتعجيزا وإن كانوا صادقين - وليسوا صادقين - فلا برهان لهم وأما من اتبع ما جاء به رسول الله فقد اتبع الحق الذي قامت البراهين بصحته ودان بالصدق الذي قامت الحجة البالغة بوجوبه فسواء علم هو بذلك - أي البرهان - أو لم يعلم حسبه أنه على الحق الذي صح البرهان به ولا برهان على سواه فهو محق مصيب )

قال: ( وأما قولهم: ما لم يكن علما فهو شك وظن والعلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو استدلال قالوا: والديانات لا تعرف صحتها بالحواس ولا بضرورة العقل فصح أنه لا تعرف صحتها إلا بالاستدلال فإن لم يستدل المرء فليس عالما وإذا لم يكن عالما فهو جاهل شاك أو ظان وإذا كان لا يعلم الدين فهو كافر قال: فهذا ليس كما قالوا لأنهم قضوا قضية باطلة فاسدة بنوا عليها هذا الاستدلال وهي إقحامهم في حد العلم قولهم عن ضرورة أو استدلال هذه زيادة فاسدة لا نوافقهم عليها ولا جاء بتصحيحها قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا لغة ولا طبيعة ولا قول صاحب وحد العلم على الحقيقة أنه اعتقاد الشيء على ما هو به فقط وكل من اعتقد شيئا على ما هو به ولم يتخالجه شك فيه فهو عالم به وسواء كان عن ضرورة حس أو عن بديهة عقل أو عن برهان استدلال أو عن تيسير الله عز وجل له وخلقه لذلك المعتقد في قلبه ولا مزيد ولا يجوز البتة أن يكون محقق في اعتقاد شيء كما هو ذلك الشيء وهو غير عالم به وهذا تناقض وفساد وتعارض )

قال: وقول النبي في مساءلة الملك حجة عليهم لأن النبي إنما قال فيه: [ فأما المؤمن أو الموقن فيقول: هو رسول الله ] ولم يقل: فأما المستدل فحسبنا نور المؤمن الموقن كيف كان إيمانه ويقينه و[ قال : وأما المنافق أو المرتاب ] - ولم يقل: غير المستدل - فيقول: [ سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ] فنعم هذا هو قولنا لأن المنافق والمرتاب ليسا موقنين ولا مؤمنين وهذا مقلد للناس لا محقق فالخبر حجة عليهم كافية

وأما قولهم: إن الله قد ذكر الاستدلال في غير موضع من كتابه وأمر به وأوجب العلم به والعلم به لا يكون إلا عن استدلال فهذا أيضا زيادة أقحموها وهي قولهم: وأمر به

فهذا لا يجدونه أبدا ولكن الله ذكر الاستدلال وحض عليه ونحن لا ننكر الاستدلال بل هو فعل حسن مندوب إليه محضوض عليه كل من أطاقه لأنه مزيد من الخير وهو فرض على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق وإنما ننكر كونه فرضا على كل أحد لا يصح إسلام أحد دونه فهذا هو الباطل المحض

وأما قولهم: إن الله أوجب العلم به فنعم

وأما قولهم: والعلم لا يكون إلا عن استدلال فهذا هو الدعوى الكاذبة التي أبطلناها آنفا وأول بطلانها أنه دعوى بلا برهان )

قال: ( فسقط قولهم إذ تعرى من البرهان وكان دعوى منهم مفتراه لم يأت بها نص قط ولا إجماع ونحن ذاكرون البراهين على بطلان قولهم يقال لمن قال: لا يكون مسلما إلا من استدل أخبرنا: متى يجب عليه فرض الاستدلال؟ أقبل البلوغ أو بعده؟ فأما الطبري فإنه أجاب بأن واجب قبل البلوغ قال ابن حزم: وهذا خطأ لأن من لم يبلغ ليس مكلفا ولا مخاطبا )

قال: وأما لاأشعرية فإنهم أتوا بما يملأ الفم وتقشعر منها جلود أهل الاسلام وتصطك منه المسامع ويقطع ما بين قائلها وبين الله وهو أنهم قالوا: لا يلزم طلب الأدلة إلا بعد البلوغ ولم يقنعوا بهذه الجملة حتى كفونا المؤونة وصرحوا بما كنا نريد أن نلزمهم فقالوا غير مساترين: لا يصح إسلام أحد بأن يكون بعد بلوغه شاكا غير مصدق قال: وما سمعنا قط في الكفر والانسلاخ من الإسلام بأشنع من قول هؤلاء القوم: إنه لا يكون أحد مسلما حتى يشك في الله عز وجل وفي صحة النبوة وفي هل رسول الله صادق أو كاذب؟ ولا سمع قط سامع في الهوس والمناقضة والاستخفاف بالحقائق بأقبح من قول هؤلاء: إنه لا يصح الإيمان إلا بالكفر ولا يصح التصديق إلا بالجحد ولا يوصل إلى رضا الله عز وجل إلا بالشك فيه وأن من اعتقد موقنا بقلبه ولسانه أن الله ربه لا إله إلا هو وأن محمد رسول الله وأن دين الله الذي لا دين غيره - فإنه كافر مشرك نعوذ بالله من الخذلان فوالله لولا خذلان الله - الذين هو غالب على أمره - ما انطلق لسان ذي مسكة بهذه العظيمة )

تعليق ابن تيمية[عدل]

قلت: هذا القول هو في الأصل من أقوال المعتزلة وقد أوجب أبو هاشم وطائفة معه الشك وجعلوه أول الواجبات ومن لم يوجبه من الموافقين على أصل القول قال إنه لابد من حصوله وإن لم يؤمر به

وهذا بناء على أصلين: أحدهما: أن أول الواجبات النظر المفضي إلى العلم والثاني: أن النظر يضاد العلم فإن الناظر طالب للعلم فلا يكون في حال النظر عالما

وكلا الأصلين باطل أما الأول فقد عرف الكلام فيه وأما الثاني فإن النظر نوعان: أحدهما: النظر المتضمن طلب الدليل وهو كالنظر في المسؤول عنه ليعلم ثبوته أو انتفاؤه كالنظر في مدعي النبوة: هل هو صادق أو كاذب؟ والنطر في رؤية الله تعالى: هل هي ثابتة في الآخرة أم منتفية؟ والنظر في النبيذ المسكر: أحلال هو أم حرام؟

فهذا الناظر طالب وهو في حال طلبه شاك وليس هذا النظر هو النظر المقتضي للعلم فإن ذلك هو النظر فيما يتضمن النظر فيه للعلم وهو النظر في الدليل كالنظر في الآية والحديث أو القياس الذي يستدل به فهذا النظر مقتض للعلم مستلزم له وذلك النظر مضاد للعلم مناف له

ولما كان في لفظ ( النظر ) إجمال كثر اضطراب الناس في هذا المقام وتناقض من تناقض منهم فيوجبون النظر لأنه يتضمن العلم ثم يقولون: النظر يضاد العلم فكيف يكون ما يتضمن العلم مضادا له لا يجتمعان

فمن فرق بين النظر في الدليل وبين النظر الذي هو طلب الدليل تبين له الفرق والنظر في الدليل لا يستلزم الشك في المدلول بل قد يكون في القلب ذاهلا عن الشيء ثم يعلم دليله فيعلم المدلول وإن لم يتقدم ذلك شك وطلب وقد يكون عالما به ومع هذا ينظر في دليل آخر لتعلقه بذلك الدليل فتوارد الأدلة على المدلول الواحد كثير لكن هؤلاء لزمهم المحذور لأنهم إنما أوجبوا عليه النظر فإذا أوجبوه لزم انتفاء العلم بالمدلول فيكون الناظر طالبا للعلم فيلزم أن يكون شاكا فصاروا يوجبون على كل مسلم: أنه لا يتم إيمانه حتى يحصل له الشك في الله ورسوله بعد بلوغه سواء أوجبوه أو قالوا: هو من لوازم الواجب

ومن غلطهم أيضا أنه لو قدر أن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر فليس من شرط ذلك تأخر النظر إلى البلوغ بل النظر قبل ذلك ممكن بل واقع فتكون المعرفة قد حصلت بذلك النظر وإن لم يكن واجبا كما لوتعلم الصبي أم الكتاب وصفة الصلاة قبل البلوغ فإن هذا التعلم يحصل به مقصود الوجوب بعد البلوغ والنظر إنما هو واجب وجوب الوسائل فحصوله قبل وقت وجوبه أبلغ في حصول المقصود ونظير ذلك: إن يتوضأ الصبي قبل البلوغ والبالغ قبل دخول وقت الصلاة فيحصل بذلك مقصود الوجوب بعد البلوغ والوقت

والكلام في هذه المسألة له شعب كثيرة وقد تكلم عليها في غير هذا الموضع

والمقصود هنا بيان طرق كثير من أهل العلم في تصديق الرسول وتحقيق هذه المسألة يتعلق بمسائل: منها: أن الاعتقاد الجازم بلا ضرورة ولا استدلال: هل يمكن أم لا؟ وإذا أمكن: فهل يسمى علما أم لا؟

ومنها: أن لفظ ( الضرورة ) فيه إجمال فقد يراد به مايضطر إليه الإنسان من المعلومات الظاهرة المشتركة بين الناس وقد يراد به ما يحصل في نفسه بدون كسبه وقد يراد به ما لا يقبل الشك وقد يراد به ما يلزم نفس الإنسان لزوما لا يمكن الانفكاك عنه

ومنها: أن حصول العلم في النفس قد يحصل لكثير من الناس حصولا ضروريا مع توهمه أنه لم يحصل له كما يقع مثل ذلك في القصد والنية فإن الأمة متفقة على أن الصلاة ونحوها من العبادات لا تصح إلا بالنية من جنس القصد والإرادة محلها القلب باتفاقهم فلو لفظ بلسانه غير ما قصد بقلبه أو بالعكس كان الاعتبار بقصده الذي في قلبه

ثم إن كثيرا من الناس اشتبه عليهم أمر النية حتى صار أحدهم يطلب حصولها وهي حاصلة عنده ويشك في حصولها في نفسه وهي حاصلة لا سيما إذا اعتقد أنه يجب مقارنة النية للصلاة فيرى في أحدهم من الوسواس في حصولها ما يخرجه عن العقل والدين حتى قيل: الوسوسة لا تكون إلا عن خبل في العقل أو جهل بالشرع

وأصل ذلك جهلهم بحقيقة النية وحصولها مع خروجهم عن الفطرة السليمة التي فطر الله عليها عباده ومن المعلوم أن كل من علم ما يريد أن يفعله فلا بد ان ينويه ويقصده فيمتنع أن يفعل العبد فعلا باختياره مع علمه به وهو لا يريده فالمصلي إذا خرج من بيته وهويعلم أنه يريد الصلاة امتنع أن لا يقصد الصلاة ولا ينويها وكذلك الصائم إذا علم أن غدا من رمضان وهوممن يصومه أمتنع أن لا ينويه وكذلك المتطهر إذا أخذ الماء وهو يعلم أن مراده الطهارة أمتنع أن لا يريدها

وإنما يتصور عدم النية مع الجهل بالمفعول أو مع أنه ليس مقصوده المأمور به مثل من يظن أن وقت الصلاة أو الصيام قد خرج فيصوم ويصلي ظانا أن ذلك قضاء بعد الوقت فهذا نوى القضاء فإذا تبين له بعد ذلك أن الصوم والصلاة إنما كانا في الوقت إذا فهذا يجزئه الصلاة والصيام بلا نزاع

وكذلك من اغتسل بالماء لقصد لقصد إزالة الوسخ أو لتعليم الغير فهذا لم يكن مراده بما فعله الطهارة المأمور بها ولهذا تنازع الفقهاء في صحة الصلاة بمثل هذه الطهارة وأمثال ذلك

ولهذا يجد المسلم في نفسه فرقا بين ليلة العيد الذي يعلم أنه لا يصومه وبين ليالي رمضان الذي يعلم أنه يصومه ويجد الفرق بين ما إذا كان مقيما أو مسافرا يريد الصيام وبين ما إذا كان مسافرا لا يريد الصيام

فكما أن الإرادة تكون موجودة في نفس الإنسان وقد يشك في وجودها أولا يحسن أن يعبر عن وجودها أو يطلب وجودها فهكذا العلم الضروري وغيره قد يكون حاصلا في نفس الإنسان وهو يشك في وجوده أو يطلب وجوده أو لا يحسن أن يعبر عنه لأن وجود الشيء في النفس شيء والعلم بوجوده في النفس شيء آخر فالتمييز بينه وبين غيره والتعبير عن ذلك شيء آخر

فهكذا عامة المؤمنين: إذا حصل أحدهم في سن التمييز يحصل له من الأسباب التي توجب معرفته بالله وبرسوله ما يحصل بها في نفسه علم ضروري ويقين قوي كحصول الإرادة لمن علم ما يريد فعله ثم كثير من أهل الكلام يلبسون عليه ما حصل له ويشككونه فيه كما أن كثيرا من الفقهاء يلبسون على المريد الناوي ما حصل له ويشككونه فيه

والعلم الحاصل في النفس لا تنضبط أسبابه ومنه ما يحصل دفعة كالعلم بما أحسه ومنه ما يحصل شيئا بعد شيء كالعلم بمخبر الأخبار المتواترة والعلم بمدلول القرائن التي لا يمكن التعبير عنها

وكذلك حصول الإرادة فإن من الأشياء ما تحصل إرادته الجازمة في النفس كإرادة الأشياء الضرورية التي لا بد له منها كإرادة دفع الأمور الضارة له وكإرادة الجائع الشديد الجوع والعطشان الشديد العطش لتناول ما تيسر له من الطعام والشراب

ومنه ما يحصل شيئا بعد شيء كإرادة الإنسان لما هو أكمل له وأفضل فإن هذا قد تحصل إرادته شيئا بعد شيء

وكذلك إرادته لما يشك في كونه محتاجا إليه أو كونه نافعا له فإن الإرادة قد تقوى بقوة العلم وقد تضعف بضعفه وقد تقوى بقوة نفس محبة الشيء المطلوب وضعف محبته

ومن عرف حقيقة الأمر تبين له أن النفوس فيها إرادات فطرية وعلوم فطرية وأن كثيرا من أهل الكلام في العلم قد يظنون عدم حصولها فيسعون في حصولها وتحصيل الحاصل ممتنع فيحتاجون أن يقدروا عدم الموجود ثم يسعون في وجوده ومن هنا يغلط كثير من الخائضين في الكلام والفقه

وقد يكون العلم والإرادة حاصلين بالفعل أو بالقوة القريبة من الفعل مع نوع من الذهول والغفلة فإذا حصل أدنى تذكر رجعت النفس إلى ما فيها من العلم والإرادة أو توجهت نحو المطلوب فيحصل لها معرفته ومحبته

والله تعالى فطر عباده على محبته ومعرفته وهذه هي الحنيفية التي خلق عباده عليها كما في الحديث الصحيح عن النبي : قال: [ يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ]

وقد قال تعالى: { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم }

وقال : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ]؟ والكلام في هذه الأمور مذكور في غير هذا الموضع

ومن المسائل المتعلقة بهذا الباب أن العلم والإيمان واجب على الناس بحسب الإمكان فالجمل التي فرض الله تعالى على الخلق كلهم الإقرار بها مما يمكنهم معرفتها وأما التفاصيل ففيها من الدقيق ما لا يمكن أن يعرفه إلا بعض الناس فلو كلف بقية الناس بمعرفته كلفوا ما لا يطيقون ولهذا لم يجب على كل أحد أن يسمع كل آية في القرآن ويفهم معناها وإن كان هذا فرضا على الكفاية

ومن المعلوم أنه في تفاصيل آيات القرآن من العلم والإيمان ما يتفاضل الناس فيه تفاضلا لا ينضبط لنا والقرآن الذي يقرأه الناس بالليل والنهار يفاضلون في فهمه تفاضلا عظيما وقد رفع الله بعض الناس على بعض درجات كما قال تعالى: { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } بل من الأخبار ما إذا سمعه بعض الناس ضرهم ذلك وآخرون عليهم أن يصدقوا بمضمون ذلك ويعلموه قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسول؟ وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم

فمثل هذه الأحاديث التي سمعت من الرسول أو ممن سمعها منه وعلم أنه قالها يجب على من سمعها أن يصدق بمضمونها وإذا فهم المراد كان عليه معرفته والإيمان به وآخرون لا يصلح لهم أن يسمعوها في كثير من الأحوال وإن كانوا في حال أخرى يصلح لهم سماعها ومعرفتها

والقرآن مورد يرده الخلق كلهم وكل ينال منه على مقدار ما قسم الله له قال تعالى: { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال }

وهذا مثل ضربه الله سبحانه لما أنزل من العلم والإيمان والقلوب التي تنال ذلك شبه الإيمان بالماء النازل والقلوب بالأودية فمنها كبار ومنهاصغار وبين أن الماء كما يختلط بما يكون في الأرض كذلك القلوب فيها شبهات وشهوات تخالط الإنسان وأخبر أن ذلك الزبد بجفأ جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض كذلك الشبهات تجفوها القلوب وما ينفع يمكث فيها

وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي أنه قال: [ مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أمسكت الماء فشرب الناس وسقوا ورعوا وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ]

وما ذكره ابن حزم من أن العلم قد يحصل في القلب لا عن ضرورة ولا نظر ورده على من يحصره في النوعين فمثل هذا قد يكون النزاع فيه لفظيا وذلك أن نافي الحصر قد يريد بالضرورة ما كان عن ضرورة حس وأولئك يجعلون ما يحصل من العلم الضروري بالحس أحد أنواع العلم الضروري وقد يريد بالضرورة ما يضطر إليه الإنسان بدون نظر في تصوره وأولئك يريدون بالعلم الضروري والبديهي ما اضطر إليه الإنسان إذا تصور طرفيه سواء كان ذلك التصور ضروريا أو لم يكن بل كثير من الناس يقول: إن جميع العلوم ضرورية باعتبار أسبابها فإن العلم الحاصل بالنظر والكسب والاستدلال هو بعد حصول أسبابه ضروري يضطر إليه الإنسان وهذا اختيار أبي المعالي وغيره

وللناس في هذا الباب اصطلاحات متعددة من لم يعرفها يجعل بينهم نزاعا معنويا وليس كذلك كما أن طائفة منهم يجعلون العلم البديهي هو الضروري والكسبي هو النظري ومنهم من يفرق بينهما فيجعلون الضروري ما اضطر إليه العبد من غير عمل وكسب منه لا في تصور المسألة ولا دليلها ويجعلون البديهي ما بدهه وإن كان عن نظر اضطر إليه من غير كسب منه فإن العبد قد يضطر إلى أسباب العلم وقد يختار اكتساب أسبابه وهذا في الحسيات وغيرها كمن يفجأه ما يراه ويسمعه من غير قصد إلى رؤيته وسمعه ومن يسعى في رؤية الشيء واستماعه والأول لا يدخل تحت الأمر والنهي

والثاني يدخل تحت الأمر والنهي

وأيضا فمن الناس من يقول: العلوم الضرورية والبديهية يشترك فيها عامة العقلاء ويجعل ما يختص به بعضهم ليس من هذا القسم ومنهم من يسمى كل ما اضطر إليه الإنسان وبدهه ضروريا وبديهيا وإن كان ذلك مختصا بنوع من الناس كما يختص بالأنبياء والأولياء وأهل الفراسة والإلهام

وعلى هذا فالعلم الحاصل بتيسير الله تعالى وهدايته وإلهامه وجعله له في قلب العبد بدون استدلال يسميه هؤلاء علما ضروريا وإن كان ابن حزم وأمثاله لا يسمونه ضروريا فهذا نزاع لفظي

ومن حد الضروري بأنه العلم الذي يلزم نفس العبد لزوما لا يمكنه الانفكاك عنه جعل هذا كله ضروريا وكذلك يقول كثير من شيوخ أهل المعرفة لكثير من أهل النظر: إن علمنا ضروري كما في الحكاية المعروفة التي ذكرها أبو العباس أحمد بن محمد بن خلف المقدسي ورأيتها بخطه عن الشيخ أحمد الحيوقي المعروف بالكبرى قال: دخل علي فخر الدين الرازي ورجل آخر من المعتزلة كبير فيهم فقالا: يا شيخ بلغنا أنك تعلم علم اليقين فقلت نعم أنا أعلم علم اليقين فقالا لي: كيف تعلم علم اليقين ونحن نتناظر من وقت كذا إلى وقت كذا وكلما أقام حجة أبطلتها وكلما أقمت بجة أبطلها؟ فقلت: ما أدري ما تقولان ولكن أنا أعلم علم اليقين فقالا: فبين لنا ما هذا اليقين فقلت: واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها فجعلا يرددان هذا الكلام ويقولون: واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها

وتعجبا من هذا الجواب لأنه رحمه الله بين أن ذلك من العلوم الضرورية التي تلزم القلب لزوما لا يمكنه مع ذلك دفعها قالا له: كيف الطريق إلى هذه الواردات؟ فقال لهما: بأن تسلكا طريقتنا التي نأمركم بها فاعتذر الرازي بما له من الموانع وأما المعتزلي فقال: أنا محتاج إلى هذه الواردات فإن الشبهات قد أحرقت قلبي فأمر الشيخ بما يفعله من العبادة والذكر وما يتبع ذلك ففتح الله عليه بهذه الواردات

والمعتزلة ينفون العلو والصفات ويسمون من أثبت مجسما حشويا فلما فتح الله تعالى عليه بذلك قال: والله ما الحق إلا فيما عليه هؤلاء الحشوية والمجسمة أو كما قال فإن عهدي بالحكاية من زمان وكان هذا الشيخ الكبرى إذا قيل له: من قال: { الرحمن على العرش استوى } فهو مجسم يقول: فخذ إني حنيئذ مجسم وكان من أجل شيوخ وقته في بلاده بلاد جرجان وخوارزم

تابع كلام ابن حزم[عدل]

قال أبو محمد بن حزم: ( ومن البرهان الموضح لبطلان هذه المقالة الخبيثة أنه لا يشك أحد ممن يدري شيئا من السير من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمنانية والدهرية في أن رسول الله صلى لله عليه وسلم منذ بعث لم يزل يدعو الناس الجم الغفير إلى الإيمان بالله تعالى وبه وبما أتى به ويقاتل من أهل الأرض من يقاتله ممن عند ويستحل سفك دمائهم وسسبي نسائهم وأولادهم وأخذ أموالهم متقربا إلى الله تعالى بذلك وأخذ الجزية وإصغاره ويقبل من آمن به ويحرم ماله ودمه وأهله وولده ويحكم له بحكم الإسلام ومنهم المرأة البدوية والراعي والراعية والغلام الصحراوي والوحشي والزنجي والمسبي والزنجية المجلوبة والرومي والرومية والأغثر الجاهل والضعيف في فهمه فما منهم من أحد ولا من غيرهم قال عليه السلام: إني لا أقبل إسلامك ولايصح لك دين إلا حتى تستدل على صحة ما أدعوك إليه قال: ولسنا نقول: إنه لم يبلغنا أنه قال ذلك لأحد بل نقطع - نحن وجميع أهل الأرض - قطعا كقطعنا على ما شاهدنا: أنه عليه السلام لم يقل هذا قط لأحد ولا رد إسلام أحد حتى يستدل ثم جرى على هذه الطريقة جميع الصحابة أولهم عن آخرهم ولا يختلف أحد في هذا الأمر ومن المحال الممتنع عند أهل الإسلام أن يكون عليه السلام يغفل أن يبين للناس ما لا يصح لأحد الإسلام إلا به ثم يتفق على إغفال ذلك أو تعمد ترك ذكره جميع أهل الإسلام ويبينه هؤلاء الأشقياء ومن ظن أنه وقع من الدين على ما لا يقع عليه رسول الله فهو كافر بلا خلاف فصح أن هذه المقالة خرق للإجماع وخلاف لله ولرسوله ولجميع أهل الإسلام قاطبة )

تعليق ابن تيمية[عدل]

قلت: قبول الإسلام الظاهر يجري على صاحبه أحكام الإسلام الظاهرة: مثل عصمة الدم والمال والمناكحة والموروثة ونحو ذلك وهذا يكفي فيه مجرد الإقرار الظاهر وإن لم يعلم ما في باطن الإنسان

كما قال : [ فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ]

وقال: [ إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم ]

ولهذا يقاتل الكافر حتى يسلم أو يعطي الجزية فيكون مكرها على أحد الأمرين ومن قال: لا تؤخذ الجزية من وثني قال: إنه يقاتل حتى يسلم وأما الإيمان الباطن الذي ينجي من عذاب الله في الآخرة فلا يكفي فيه مجرد الإقرار الظاهر بل قد يكون الرجل مع إسلامه الظاهر منافقا وقد كان على عهد رسول الله منافقون وقد ذكرهم الله تعالى في القرآن في غير هذا موضع وميز سبحانه بين المؤمنين والمنافقين في غير موضع

كما في قوله: { يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب * ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور * فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير }

وقال تعالى: { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم * إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون }

وهؤلاء قد قالت طائفة: إنهم أسلموا ظاهرا مع كونهم منافقين وقال الأكثرون: بل كانوا مسلمين غير منافقين ولا واصلين إلا حقيقة الإيمان فإنه قد قال فيهم: { وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم }

والمنافق عمله حابط لا يتقبله الله ومن هذا الباب قوله : [ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولايسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ] وغير ذلك من الأحاديث التي تكلم عليها في غير هذا الموضع فإن مسألة الإيمان والكفر والنفاق متعلقة بمسألة أول الواجبات ووجوب النظر بالفاسق الملي وتكفير أهل البدع وغير ذلك من المسائل التي تكلم عليها الناس

وبهذا أجابوا عن هذه الحجة فإنه لما قيل لهم: أجمع المسلمون على أن الكافر إذا أراد أن يسلم يكتفي منه بالإقرار بالشهادتين قالوا: إنما نجتزىء منه بذلك لإجراء الإسلام عليه فإن صاحب الشرع جعل ذلك أمارة لإجراء الأحكام

ولو كان ذلك إيمانا حقيقيا لما قال في حق النسوة المهاجرات: { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن } ثم يقول: من ترك ملة من الملل وعاد إلى ملتنا فلا بد له من حامل يحمله عليه فإن كان الذي يحمله عليه ما علمه من فساد ملته وعقيدته وصحة دين الإسلام فهذا القدر كاف من النظر والاستدلال على الجملة وإن كان الذي يحمله رهبة منا أو رغبة فيما أعطانا الله من المال وغيره فهجرته إلى ما هاجر إليه

تابع كلام ابن حزم[عدل]

قال أبو محمد: ( فإن قالوا: فما كانت حاجة الناس إلى الآيات والمعجزات؟ وإلى احتجاج الله عليهم بالقرآن وإعجازه؟ وبدعاء اليهود إلى تمني الموت ودعاء النصارى إلى المباهلة وشق القمر؟ قلنا وبالله التوفيق قد قلنا: إن الناس قسمان: قسم لم تسكن نفوسهم إلى الإسلام ولا دخلها التصديق فطلبوا منه عليه السلام البراهين فأراهم المعجزات فانقسموا قسمين: طائفة آمنت وطائفة عندت وجاهرت فكفرت وأهل هذه الصفة اليوم هم الذين يلزمهم طلب الاستدلال فرضا ولابد وقسم وفقهم الله تعالى لتصديقه عليه السلام وخلق في نفوسهم الإيمان كما قال تعالى: { بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } فهؤلاء آمنوا له عليه السلام بلا تكليف آية وأهل هذه الصفة هم اليوم المعتقدون للإسلام حقا بلا معرفة باستدلال قال أبو محمد ويلزم أهل هذه المقالة أن جميع أهل الأرض كفار إلا الأقل وقد قال بعضهم: إنهم مستدلون قال: وهذه مجاهرة هو يدري أنه فيها كاذب وكل من سمعه يدري أنه فيها كاذب لأن أكثر العامة من حاضرة وبادية لايدري ما معنى الاستدلال فكيف يستعمله؟ )

تعليق ابن تيمية[عدل]

قلت: لفظ الاستدلال فيه إجمال فإن أريد العبارة عن نظم الأدلة والجواب عن الممانعات والمعارضات فهذا قد يقال: إنه لا يحسنه إلا من يحسن الجدل وأما الاصطلاح المعين والترتيب المعين أو اللفظ المعين فهذا بمنزلة اللغات لا يعرفه إلا من يعرف تلك اللغة وليس هذا واجبا بلا ريب

وإن أريد به نفس طلب العلم بالشيء بالدليل والنظر فيما يدل على الشيء فهذا مركوز في فطرة جميع الناس فإنه مامنهم من أحد إلا وعنده من نوع النظر والاستدلال بل ومن الجدال بحسب ما هداه الله إليه من ذلك

وقد قال تعالى: { وكان الإنسان أكثر شيء جدلا } والإنسان يجادل بالباطل ليدحض به الحق من غير معرفة بقوانين الجدل فكيف لا يجادل بالحق؟

وللناس من النظر والمناظرة في صناعتهم وأمور دنياهم ما يبين أن النظر والمناظرة مركوز في فطرهم فكيف في أمور الدين؟

والله سبحانه يقول: { الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى } وقال تعالى: { قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى }

وهذا الذي ذكره ابن حزم هو قول كثير من الأشعرية فإنهم متنازعون في النظر: هل هو فرض على الأعيان أو على الكفاية؟ وفي الواجب: هل هو المعرفة أو الاعتقاد الجازم المصمم؟ وهل يسمى ذلك علما أم لا؟

كلام الجويني في نفي وجوب النظر[عدل]

وكان أبو المعالي يقول: ( لم يكلف الناس العلم فإن العلم في هذه المسائل عزيز لا يتلقى إلا من النظر الصحيح التام فتكليف ذلك عامة الناس تكليف ما لا يطاق وإنما كلفوا الاعتقاد السديد مع التصميم وانتفاء الشك والتردد ولو سمى مسم مثل هذا الاعتقاد علما لم يمنع من أطلاقه )

قال: ( وقد كنا ننصر هذه الطريقة زمانا من الدهر وقلنا: مثل هذا الاعتقاد علم على الحقيقة فإنه اعتقاد يتعلق بالمعتقد على ما هو به مع التصميم ثم بدا لنا أن العلم ما كان صدوره عن الضرورة أو الدليل القاطع )

قال: ( وهذا الاعتقاد الذي وصفناه لا يتميز في مبادىء النظر حتى يستقر ويتميز عن اعتقاد الظان والمخمن )

كلام أبي إسحاق الإسفراييني[عدل]

وقال أبو إسحاق الإسفراييني في آخر مصنفاته: ( من اعتقد ما يجب اعتقاده هل يكتفي به؟ اختلف الأصحاب فيه: فمنهم من اكتفى به ومنهم من شرط إقرار هذه العقائد بالأدلة )

تعليق ابن تيمية[عدل]

قلت: والذين أوجبوا النظر من الطوائف العامة نوعان: أحدهما: من يقول: إن أكثر العامة تاركوه وهؤلاء على قولين فغلاتهم يقولون: إن إيمانهم لا يصح وأكثرهم يقولون يصح إيمانهم تقليدا مع كونهم عصاة بترك النظر وهذا قول جمهورهم

قد ذكر هذا طوائف من الحنفية وغيرهم كما ذكر من ذكر من الحنفية في شرح الفقه الأكبر فقالوا: قال أبو حنيفة وسفيان ومالك والأوزاعي وعامة الفقهاء وأهل الحديث بصحة إيمان المقلد ولكنه عاص بترك الاستدلال

كلام شارح الفقه الأكبر لأبي حنيفة[عدل]

وقال الشارح: ( هذا يفيد فائدتين: إحداهما: أن الإيمان بالتقليد صحيح وإن لم يهتد إلى الاستدلال خلافا للمعتزلة والأشعرية فإنهما لا يصححان إيمان المقلد والإيمان بالتقليد ويقولان بكفر العامة )

وقال: ( وهذا قبيح من أقبح القبائح لأنه يؤدي إلى تفويت حكمة الله تعالى في الرسالة والنبوة لأن من أعطي الرسالة والنبوة أمر بعرض الإسلام أولا على الكفرة فلو كان الإسلام لا يصح بالعرض والتقليد لفات الحكمة في الرسالة إلا أن درجة الاستدلال أعلى من درجة التقليد ألف مرة وكل من كان في الاستدلال والاستنباط أكثر كان إيمانه أنور )

وذكر كلاما آخر

تعليق ابن تيمية[عدل]

قلت: القول القبيح الباطل تكفير من حكم الشارع بإيمانه وهم المؤمنون من العامة وغيرهم الذين لم يسلكوا الطرق المبتدعة كطريق الأعراض ونحوها وأما كون إيمان العامة تقليدا أو ليس تقليدا؟ وهل هم عصاة أو ليسوا عصاة؟ فهذا كلام آخر

وأما المعتزلة والأشعرية فلهم في ذلك نزاع وتفصيل معروف

والنوع الثاني من موجبي النظر - وهم جمهورهم - يقولون: إنه متيسر على العامة كما يقوله القاضي أبو بكر والقاضي أبو يعلي وغيرهما ممن يقول ذلك

كلام أبي يعلى في وجوب النظر[عدل]

قالوا: ( فإن قيل: فتقولون بوجوب معرفة الله ومعرفة نبوة رسله في حق كل مكلف من أهل النظر والعامة وجفاة الأعراب والأكراد وأهل القصبة والرستاق ومن يقصر فهمه عن معرفة الدقيق وأدلة التفصيل؟ قيل: نعم لأنه ليس في جميع من ذكرت من يعرف فهمه ويقصر علمه عن معرفة الحدث والمحدث عند مشاهدة تغيير العالم وما يحدث ويتجدد في أجسامه من الزيادة والنقصان والنماء وتغير الحالات وما تجد عليه النطفة من التصور والانتقال من حال إلى حال وإن قصرت عبارته عن أن يقول: إن هذه أمور متجددة طارئة إنه لا بد للصنعة من صانع وللكتابة من كاتب وقد علم أن انتقال النطفة إلى أن تصير إنسانا أو بهيمة أعظم في الأعجوبة من تحول الفضة خاتما والخشبة سريرا وبابا والغزل ثوبا منسوجا وإن لم يعبر عن ذلك بعبارات المتكلمين وألفاظ الناظرين وكما يفرق بين خبر الوحد الذي لا يوجب العلم وبين خبر التواتر الموجب للعلم وكما تجد في أنفسها الفرق بين الظن والتقليد وبين المشاهدة وعلم اليقين وإن تعذر عليها الفصل بين ذلك أجمع من طريق العبارة وإذا كان كذلك وجب أن يكون لجميعهم سبيل إلى معرفة الحدوث والمحدث ) هذه عبارة القاضي أبي يعلي وغيره من هؤلاء الذين وافقوا القاضي أبا بكر على طريقته

كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر[عدل]

وكذلك قال ابن الزاغوني وهو من القائلين بوجوب النظر والاستدلال وحكى ذلك عن عامة العلماء كما ذكره القاضي أبو يعلي وابن عقيل وأبو الخطاب وغيرهم

قال: ( والذي فرضه الله على الأعيان على ضربين: أحدهما: ما لا يتم الإيمان إلا به وهو معرفة الله وتوحيده وأنه صانع الأشياء وأن الكل عبيده وأمثال ذلك فهذا يستوي في لزومه العالم والعامي ونعني بقولنا: العالم الذي تبصر وتدرب وعرف الحجة من الشبهة وتبحر في مواقف الاجتهاد للمعرفة وانتصب دافعا بالحق شبه أهل الاعتراض على وجه يترجح به الثقة ويساعده بالفهم اليقين والمعرفة ونعني بالعامي من فصل عن أرباب الاختصاص في أحراز العلم وكثرة التبحر وإنما سمي عاميا من جهة قلة العدد في خواص العلماء بالإضافة إلى من بقي فخواص العلماء في كل زمان آحاد يسير عددهم والناس غيرهم أعم وجودا وأكثر عددا فلهذا سمي من قل علمه عاميا ومن جملة العامة ولسنا نريد بالعامي من لا معرفة له بشيء من العلم بحال فإذا ثبت هذا فسائر العامة مؤمنون عارفون بالله في عقائدهم وديانتهم غير مقلدين في شيء قدمناه ذكره )

قال: ( وذهبت طوائف من المعتزلة والقدرية إلى أنه لا يعرف الله إلا العلماء فإما العوام فلا يحكم بصحة إيمانهم ولا بمعرفتهم لله )

قال: ( والدليل على إبطال قولهم هو أنا نقول: حقيقة الإيمان العائد إلى المعتقد هي طمأنينة النفس وسكون القلب إلى معرفة مايعتقد بإسناد ذلك إلى دليل يصلح له وهذا لا يعدم في حق أحد من العامة وبيان ذلك: أنه لو قيل لأحد من العوام: بم عرفت ربك؟ لقال: بأنه انفرد ببناء هذه السماء ورفعها فلا يشاركه في هذا موصوف بجسم ولا جوهر وهذا مأخوذ من قوله تعالى: { وإلى السماء كيف رفعت } ومن سائر الآيات التي فيها ذكر السماء والاعتبار بها وهذا الآيات هي الأصل عند العلماء وإنما ينفردون عن العامة في هذا ببيسط البيان المليح والتشقيق والغامض الدقيق وفي بيان حكم يدركها العامي فهما بجنانه ويقصر عن شرحها بلسانه فهما في ذلك كرجلين اتفقا في العلم بمسألة وأحدهما في الكشف أبسط باعا وأفصح شرحا وهذا يرجع إلى شيء وذلك أنه قد ثبت أن الله تعالى كلف الكل معرفته وضمن فيما أن لا يزيد تكليفه على مقدار الوسع بقوله: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وقوله: { لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } فحقيقة المعرفة بالشيء إنما هي الوقوف عليه بالعلم على ما هو به ولا يوصل إلى ذلك في حق الله إلا باستناد المعتقد فيه إلى دليله فلو كان الدليل لا يدخل الوقوف عليه في طوق العامي لأدى ذلك إلى تكليفه ما ليس في وسعه وهذا خلاف ما نص الله عليه

دليل آخر: وهو أنا إذا تأملنا أدلة التوحيد وما يجب على العامي ترك التقليد فيه وجدناه سهلا في مأخذه قريبا في تناوله تشتاق النفوس إليه بأنسها ويستند ذلك إلى شيئين: أحدهما: أن ذلك منوط بالعقل ولأجل هذا ادعى خصومنا أن المعرفة وجبت بالعقل والعوام عقلاء

ويظهر ذلك شرعا وعقلا: أما الشرع فلا يكلف إلا عاقلا وهو تسليم أموالهم إليهم لرشدهم ولا رشيد إلا عاقل وأما طريق العقل فيما يظهر من ذلك في تدبيرهم وتدقيق حيلهم وخفي مكرهم في تقاسيم أحوال الدنيا

وقد سطر الناس في ذلك كتبا وصنفوا فيها من فنون المكر والحيل وتدقيق الآراء في أنواع التدبير ما فيه غنية لمن تأمله

والثاني: أن أدلة ذلك جلية في أعلى مقامات الإيضاح والكشف حتى تجد النفوس بها مستأنسة وذلك مثلما يستدل العامي على معرفة أن له خالقا فيعلم عند تأمل نفسه أنه جسم مجموع مفعول مصنوع وهو عاجز في نفسه عن صنع ذاته وصفاته من وجوه

أيسرها: أن الصانع من شرطه أن يتقدم على المصنوعات فإذا ثبت ذلك في نفسه واستقر ذلك في أمثاله من جنسه واستوى العالم كله عنده في أنه يشاركه في صفات نفسه اقتضى ذلك إثبات صانع آخر يخالفهم في استحقاق الجمع لحقيقة الوحدة ويتحقق فيه شرط السبق إلى غير غاية

وهذا وأمثاله معروف عند العامة لا يخفى عليهم وإن عجزوا في بعضه عن الإفصاح بشرحه والمأخوذ على المكلف فهمه ومعرفته على وجه يزول عنه الشك ويبعد فيه الريب ويستضيء به العقل وتثق به النفس

وهذا سهل لا تقصر العامة عن معرفته فلهذا قضينا لهم بالإيمان والمعرفة وهذا جلي واضح ولكونه حقا في نفسه صحيحا في معناه سوى الله في أحكامه بين العالم والعامي في احكام ذلك العامة وهي الخطاب بالأمر والنهي وإقرارهم على حكم القبول في المعقود من الأنكحة والبيوع وأداء الفرائض واجتناب المحارم والغسل والتكفين والصلاة عليهم والدفن في مقابر المسلمين إلى قبلتهم والتوارث منهم وذلك يوجب لهم القضاء بالإيمان والمعرفة )

قال: ( واحتج المخالف بأن حقيقة المعرفة هو العلم بالشيء أو العلم بالمعلوم وإنما يكون ذلك إذا وصل صاحبه إلى اليقين فيه وإذا لم يكن قادرا على بصيرة دليل يكشفه ولا على دفع شبهة يحلها لم يكن على يقين فيما علمه لأنه قد يعترض عليه فيما عنده شك ما يوجب نقلته عما كان عليه أو يعرض له من الشكوك ما يزيل الثقة بما عنده

ومن هو على هذه الصفة فهو ناقص المعرفة وتجويز النقصان في هذا يوجب أنه لم يتعلق بما مثله يصلح أن يكون كافيا في مقصوده شافيا في مراده وإلا فحقيقة المعرفة لا تدخلها التجزئة فيثبت منها بعض دون بعض فبان بهذا أن كل من كان في عداد العامة فهو غير عارف على الحقيقة ومن ليس بعارف لم يثبت له تسمية ما يستحقه أهل المعرفة من ذلك )

قال: ( والجواب أن ما أسلفناه في أول المسألة هو جواب عما ذكروه وهو أنه إذا أضاف ما علمه إلى دليل مثله لا يفسد وقد استحكمت ثقة المعترف به في مدة حياته لا يعتريه فساد ولا يدخله نقص واتفق على ذلك من يساويه في معرفته ومن يزيد عليه في مقام العلم والاجتهاد فقد استحكمت ثقته به من وجهين: أحدهما: علمه وتجربته والثاني: اتفاق أهل الملة على صحته ومثل هذا لا يعارضه شك يخرج المتمسك به عن الثقة فإنه قد ثبت عند العامة عموما لا يختلف فيه أحد منهم أن كل جسم مبني مجموع محدث كان بعد أن لم يكن ويتوهم نقضه كما يتحقق بناؤه وإن كان كل واحد منهم ليس بفاعل نفسه ولا فعله مثله ويتحقق أن من شرط الفاعل أن يكون سابقا على المفعول فإذا تساوت الأجسام في هذا دل على أن الفاعل لها غيرها وهو من لا يشاركها فيما أوجب بها العجز وهذا جلي واضح لا يمكن دفعه ولا تقابله شبهة تؤثر فيما استقر عند العالم به وهذا كاف لا يقصر عنه عامي ولا يقدر على الزيادة فيه عالم إلا بتحسين العبارة فيه أو حذف مواد الشبهة عنه وهذا أمر زائد على مقدار فهمه والثقة بصحته ولهذا كان من فرائض الكفايات )

تعليق ابن تيمية[عدل]

قلت: ولقائل أن يقول: إن جمهور العامة لا يعرف هذا الدليل بل ولا يعرف مسمى الجسم في اصطلاح المستدلين به ولا يعرف أن الهواء يسمى جسما بل أكثر الناظرين في العلم من أهل الفلسفة والكلام والفقه والحديث والتصوف لم يعرفوا صحة هذا الدليل بل قالوا: إن باطل والسلف والأئمة جعلوا هذا من الكلام المبتدع الباطل ولم يدع أحد من الأنبياء وأتباعهم أحدا إلى الاستدلال على معرفة الله بهذا الطريق وإنما ابتدعه في الإسلام من كان مبتدعا في الإسلام من الجهمية والمعتزلة ونحوهم ولكن الذي يعرفه العامة والخاصة إن كل واحد من الآدميين محدث كان بعد أن لم يكن وأنه ليس بفاعل نفسه ولم يفعله مثله

ولهذا استدل سبحانه بذلك في قوله تعالى: { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } وكذلك يعلمون حدوث ما يشهدون حدوثه ويعلمون أنواعا من الادلة غير هذا

تابع كلام ابن الزاغوني[عدل]

قال أبو الحسن بن الزاغوني: ( وأما قولهم: إنه قد يعترض عليه من الشبهة ما يوجب تفلته ويرفع ثقته فليس كذلك من وجهين: أحدهما: أن خيالات الشبه لا تكافي فيما ذكرنا فما يقصر من الشبه فتقصيره يظهر سريعا والنثاني: أنه إذا طرأ على العامي شبهة فإنه لا يزال يسأل عنها ويبالغ في التفتيش والتنقير حتى يخبره العلماء الربانيون في ذلك بما تقوى به ثقته )

قال: ( وأما قولهم: إن المعرفة ناقصة في حقه فإن أردتم أنها ناقصة من حيث إنه لا يصل إلى مطلوب المسألة فهذا محال لا فهذا مما لا يدخله نقص وذلك لأن الإنسان: إما عارف بالمسألة أو غير عارف ولا واسطة بينهما وإن أردتم بالنقص من طريق العدد في المسائل أو في الدلائل فصحيح غير أنه يفصل به بين علم الأعيان وعلم الكفاية وذلك غير قادح في ثبوت المسألة بدليلها الذي لا غنى عنه ولا زيادة عليه )

تعليق ابن تيمية[عدل]

قلت: هذا مبني على أن المعرفة بالله تعالى لا تتفاضل وأن الشيء لا يكون معلوما من وجه مجهولا من وجه وهذا أحد القولين للناس في هذه المسألة وهو قول طائفة من أهل الحديث والفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم وقول كثير منهم من أصحاب الأشعري أو أكثرهم وهو قول جهم بن صفوان وكثير من المرجئة

لكن جمهور الناس على خلاف هذا وقد ذكر القاضي أبو يعلى في ذلك عن أحمد في روايتين وهذا يشبه تنازع الناس في العقل: هل يتفاضل؟ فمذهب الجمهور أنه يتفاضل وهو قول أكثر أصحاب أحمد وغيرهم من العلماء ك التميمي والقاضي وأبي الخطاب وغيرهم من العلماء

وقالت طائفة: لا يتفاضل وهو قول أكثر أصحاب الأشعري وابن عقيل وغيرهم

وهو يشبه تنازعهم في أن بعض الواجبات: هل تكون أوجب من بعض؟ ف ابن عقيل وغيره ينكرون التفاضل في هذا وجمهور الفقهاء يجوزون التفاضل في هذا والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أن الذين يقولون بوجوب النظر والاستدلال على الأعيان أو يقولون: إن الإيمان لا يصح إلا به لأن المعرفة واجبة والمعرفة لا تتم إلا به فقول جمهورهم: إن المراد بذلك هو العلم الذي يقوم بالقلب لا العبارة عنه ولا يوجبون نظم الدليل بالعبارة ولا القدرة على جواب المعارض ويقولون: إن العلم بالدليل أمر متيسر على العامة وإن العامة المؤمنين قد حصل لهم في قلوبهم النظر والاستدلال المفضي إلى العلم وإن لم يكونوا قادرين على نظم الدليل وبيانه بالعبارة

وهذا موجود في عامة ما يقوم بالنفس من علم وحب وبغض ولذة وألم وغير ذلك يكون ذلك موجودا في النفس يعلم به الإنسان ولكن وصف ذلك وبيانه والتعبير عنه شيء آخر

وليس كل من علم شيئا أمكنه أن يصفه ولهذا يسمى مثل هذا متكلما ومعلوم أن العلم ليس هو الكلام ولهذا يقال: العلم علمان: علم في القلب وعلم على اللسان فعلم القلب هو العلم النافع وعلم اللسان هو حجة الله على عباده وقد روي ذلك عن الحسن عن النبي مرسلا وقد قيل: إنه من كلام الحسن وهو أقرب

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إنكم في زمان كثير فقهاؤه قليل خطباؤه كثير معطوه قليل سائلوه وسيأتي عليكم زمان كثير خطباؤه قليل فقهاؤه قليل معطوه كثير سائلوه

فالفقيه الذي تفقه قلبه غير الخطيب الذي يخطب بلسانه وقد يحصل للقلب من الفقه والعلم أمور عظيمة ولا يكون صاحبه مخاطبا بذلك لغيره وقد يخاطب غيره بأمور كثيرة من معارف القلوب وأحوالها وهو عار عن ذلك فارغ منه

وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي أنه قال: [ مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة: طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل الثمرة: طعمها طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة: ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة: طعمها مر ولا ريح لها ]

فبين إن الإنسان قد يقرأ القرآن فيتكلم بكلام الله وهو منافق ليس في قلبه إيمان وآخر يكون مؤمنا قلبه فيه من معرفة الله تعالى وتوحيده ومحبته وخشيته ما هو من أعظم الأمور وهو لا يتكلم بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى

ولهذا قال جندب بن عبد الله وابن عمر وغيرهما: تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا وأنتم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان

وقد قال تعالى: { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور }

وفي الصحيحين عن حذيفة بن اليمان عن النبي أنه قال: [ إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال فعلموا من القرآن وعلموا من السنة ]

فأخبر انه أنزل الإيمان في القلوب وقد تقدم قوله تعالى: { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال } وهذا مثل ضربه الله لما أنزله في القلوب من الإيمان والقرآن وشبه القلوب بالأودية وشبه ما يخالط القلوب من الشهوات والشبهات بالزبد الذي يذهب جفاء يجفوه القلب ويدفعه وشبه ما يبقى في الأرض من الماء النافع بما يبقى في القلوب من الإيمان النافع

وتقدم أيضا حديث أبي موسى عن النبي أنه قال: [ مثل بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أمسكت الماء فشرب الناس وسقوا وزرعوا وكانت منها طائفة إنما هي قيعان: لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ]

فقسم الناس فيما بعث به من الهدى والعلم الذي شبهه بالغيث إلى ثلاثة أقسام: فقسم قبلوه فانتفعوا به في نفوسهم علما وعملا وقسم حفظوه وأوده إلى غيرهم وقسم ثالث لا هذا ولا هذا

وقوله تعالى: { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } نظير قوله: { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي }

ففي هاتين الايتين بين سبحانه أن الإيمان والهدى حصل بالوحي النازل لا بمجرد العقل الذي كان حاصلا قبل الوحي

والناس متنازعون في المعرفة: هل حصلت بالشرع أو بالعقل؟ وهل وجبت بهذا أو بهذا؟

والنزاع في هاتين المسألتين موجود بين عامة الطوائف من اصحاب أحمد وغيره

فإن الناس لهم في العقل: هل يعلم به حسن الأشياء وقبحها؟ والوجوب والتحريم قولان مشهوران: أحدهما: أنه لا يعلم به ذلك وهو قول الأشعري وأصحابه وابن حامد والقاضي أبي يعلى والقاضي يعقوب وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم من أصحاب أحمد وكثير من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما

والثاني: أنه يعلم به ذلك وهذا قول المعتزلة والكرامية وغيرهم وهو قول أبي الحسن التميمي وأبي الخطاب وغيرهما من أصحاب أحمد وذكر أبو الخطاب أنه قول جمهور العلماء وهو قول كثير من أئمة الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم ك أبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وأبي نصر السجزي وقول كثير من أصحاب مالك والشافعي وهو الذي ذكره أصحاب أبي حنيفة وذكروه عن أبي حنيفة نفسه

وقد بسط الكلام على هذه المسألة وما فيها من التفصيل في غير هذا الموضع وكذلك المعرفة: هل تحصل بالعقل أو بالشرع؟ فيها نزاع بين العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم من العلماء

وحقيقة المسألة: أن المعرفة منها ما يحصل بالعقل ومنها ما لا يعرف إلا بالشرع فالإقرار الفطري: كالإقرار الذي أخبر الله به عن الكفار قد يحصل بالعقل كقوله تعالى: { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله }

وأما ما في القلوب من الإيمان المشار إليه في قوله تعالى: { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } فلا يحصل إلا بالوحي كما في قوله: { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي }

ومما يتعلق بهذه المسألة الكلام فيما يلهمه الله تعالى المؤمنين من الإيمان كقوله تعالى: { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي }

وقوله: { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } وقوله: { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه }

وقوله: { الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح } إلى قوله: { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور }

وقوله: { حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم }

وقوله: { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } وقوله: { والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }

وأمثال ذلك مما يبين أن ما يحصل في القلوب من الهدى والنور الإيمان هو من الله تعالى بفضله ورحمته

وهذا يتعلق بمسألة القدر ولما كانت المعتزلة قدرية تنكر أن يكون الله تعالى خالقا لأفعال العباد ويقولون: إن ما يحصل للعبد من الإيمان لم يحصل من الله تعالى بل قد أعطى الكافر من أسباب الإيمان مثل ما أعطى المؤمن وليس له نعمة على المؤمن أعظم من نعمته على الكافر ولكن نفس القدرة التي بها آمن هذا بها كفر هذا وكل منهما رجح أحد مقدوريه بلا سبب يوجب الترجيح لأن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح وأما من قال منهم بقول أبي الحسين: إن الفعل لا يحصل مع القدرة إلا بالداعي وإن الله يخلق الداعي وأنه يجب وجود المقدور عند وجودهما فهذا موافق لأهل السنة في المعنى وإن أظهر نزاعهم

والمعتزلة كانوا هم أئمة الكلام في وجوب النظر والاستدلال بطريقة الأعراض والأجسام وما يتبع ذلك وصاروا يقولون: إن الإيمان لا يمكن أن يحصل للعبد بدون اكتسابه له لا يمكن عندهم أن يحصل بعلم ضروري يجعله الله في قلب العبد ولا بإلهام وهداية منه يختص بها من يشاء من عباده

ولهذا خالفهم المثبتون للقدر ك الأشعري وغيره وقالوا: يمكن أن يعلم بالاضطرار ما يعلم بالنظر فإن هذا عندهم ليس أمرا لازما لكنه بحسب العادة

والمعتزلة يقولون: إن الإيمان إذا كان موهبة من الله تعالى لعبد وتفضلا منه عليه لم يستحق العبد الثواب

وأهل السنة يقولون: هو محسن إلى العبد متفضل عليه بأن أرسل إليه الرسول وأن جعل له السمع والبصر الفؤاد الذي يعقل به وأن هداه للإيمان وأن أماته عليه فكل هذا إحسان منه إلى المؤمن وتفضل عليه وإن كان هو قد كتب على نفسه الرحمة وكان حقا عليه نصر المؤمن وحق العباد عليه إذا وحدوه ألا يعذبهم فذاك حق أوجبه بنفسه بكلماته التامات وبما تستحقه نفسه المقدسة من حقائق الأسماء والصفات لا أن شيئا من المخلوقات أوجب عليه شيئا أو حرم عليه شيئا والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر

فلما صار من أخذ ما أخذه من الكلام المحدث عنهم ك الأشعري ومن سلك سبيله من أصحاب أحمد ومالك والشافعي يسلكون مسلكهم في مسألة إيجاب النظر وأن الإيمان لا يحصل إلا به قال أبو جعفر السمناني أحد أئمة الأشعرية: ( هذه المسألة بقية بقيت في المذهب من الأعتزال لمن اعتقدها وذلك لكون الأشعري كان معتزلا تلميذا لأبي علي الجبائي ثم رجع عن ذلك إلى مذهب ابن كلاب وأمثاله من الصفاتية المثبتين للقدر والقائلين بأن أهل الكبائر لا يخلدون ونحو ذلك من الأصول التي فارق بها المعتزلة للجماعة

وأصل الكلام المحدث المخالف للكتاب والسنة المذموم عند السلف والأئمة كان أئمة الجهمية والمعتزلة وأمثالهم والمعتزلة قدرية جهمية وجهم وأتباعه جهمية مجبرة ثم الأشعري كان منهم ولما فارقهم وكشف فضائحهم وبين تناقضهم وسلك مسالك أبي محمد بن كلاب وأمثاله ناقضهم غاية المناقضة في مسائل القدر والوعيد والأسماء والأحكام كما ناقضهم في ذلك الجهمية والضرارية والنجارية ونحوهم

وكان الأشعري أعظم مباينة لهم في ذلك من الضرارية حتى مال إلى قول جهم في ذلك لكنه كان عنده من الانتساب إلى السنة والحديث وأئمة السنة ك الإمام أحمد وغيره ونصر ما ظهر من أقوال هؤلاء ما ليس عن أولئك الطوائف

ولهذا كان هو وأمثاله يعدون من متكلمة أهل الحديث وكانوا هم خير هذه الطوائف وأقربها إلى الكتاب والسنة ولكن خبرته بالحديث والسنة كانت مجملة وخبرته بالكلام كانت مفصلة فلهذا بقي عليه بقايا من أصول المعتزلة ودخل معه في تلك البقايا وغيرها طوائف من المنتسبين إلى السنة والحديث من أتباع الأئمة من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد

وعامة هؤلاء يقولون الأقوال المتناقضة ويقولون القول ولا يلتزمون لوازمه ومن أسباب ذلك أنهم يقولون القول المأثور عن الصحابة والسلف الموافق للكتاب والسنة ولصريح المعقول ويسلكون في الرد على بعض الكفار أو بعض أهل البدع مسلكا سلكته المعتزلة ونحوهم وذلك المسلك لا يوافق أصول أهل السنة فيحتاجون إلى التزام لوازم ذلك المسلك المعتزلي وإلى القول بموجب نصوص الكتاب والسنة والمعقول الموافق لذلك فيحصل التعارض والتناقض

وهكذا المعتزلة ردوا على كثير من الكفار ردا بطرق سلكوها متى التزموا لوازمها عارضت حقا آخر معلوما بالشرع أو العقل ومن تدبر هذه الأبواب رأى عجائب وما ثم ما يثبت على السبر والتقسيم ويسلم عن التناقض إلا ما جاء من عند الله

كما قال تعالى: { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }

وكثير من هذه الطوائف يتعصب على غيره ويرى القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع المعترض في عينه ويذكر من تناقض أقوال غيره ومخالفتها للنصوص والمعقول ما يكون له من الأقوال في ذلك الباب ما هو من جنس تلك الأقوال أو أضعف منها أو أقوى منها

والله تعالى يأمر بالعلم والعدل ويذم الجهل والظلم كما قال تعالى: { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما }

وقال تعالى: { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا }

وقال النبي : [ القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة فرجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ] رواه أهل السنن

ومعلوم أن الحكم بين الناس في عقائدهم وأقوالهم أعظم من الحكم بينهم في مبايعهم وأموالهم

وقد قال تعالى: { فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير }

وقد رأيت من كلام الناس في هذا الباب وغيره ألوانا لا يسعها هذا الموضع وكثير من نزاع الناس يكون نزاعا لفظيا أو نزاع تنوع لا نزاع تناقض

فالأول مثل أن يكون معنى اللفظ الذي يقوله هذا هو معنى اللفظ الذي لا يقوله هذا وإن اختلف اللفظان فيتنازعان لكون معنى اللفظ في اصطلاح أحدهما غير معنى اللفظ في اصطلاح الآخر وهذا كثير

والثاني أن يكون هذا يقول نوعا من العلم والدليل صحيحا ويقول الآخر نوعا صحيحا

وكثير من نزاع الناس في هذا الموضع من هذا الباب وكثير منه نزاع في المعنى والنزاع المعنوي: إما أن يكون في ثبوت شيء وانتفائه وإما أن يكون في وجوب شيء وسقوطه

فالنزاع في صحة دليل الأعراض ونحوه نزاع معنوي وكذلك النزاع في وجوب الاستدلال بهذا الدليل على الإيمان أو توقف صحة الإيمان عليه ونحو ذلك

ولما كان الكلام في هذه الأبواب المبتدعة مأخوذ في الأصل عن المعتزلة والجهمية ونحوهم وقد تكلم هؤلاء في أول الواجبات: هل هو النظر أو القصد أو الشك أو المعرفة؟ صار كثير من المنتسبين إلى السنة المخالفين للمعتزلة في جمل أصولهم يوافقونهم على ذلك ثم الواحد من هؤلاء إذا انتسب إلى إمام من أئمة العلم ك مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وصنف كتابا في هذا الباب يقول فيه: ( قال أصحابنا ) و( اختلف أصحابنا ) فإنما يعني بذلك أصحابه الخائضين في هذا الكلام وليسوا من هذا الوجه من أصحاب ذلك الإمام فإن أصحابه الذين شاركوه في مذهب ذلك الإمام إنما بينهم وبين أصحابه المشاركين له في ذلك الكلام عموم وخصوص فقد يكون الرجل من هؤلاء دون هؤلاء وبالعكس وقد يجتمع فيه الوصفان

وهذا موجود كثيرا في أتباع جميع الأئمة فتجد الواحد من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد يقول: اختلف أصحابنا في أول الواجبات ونحو ذلك ولا يصح كلامه إلا على هذا الوجه

كلام أبي الفرج المقدسي[عدل]

كما يقول أبو الفرج المقدسي الحنبلي في تبرصته فإنه قال: ( فصل ): في أول ما أوجب الله على العبد المكلف وفي ذلك وجهان لأصحابنا: أحدهما: أن أول ما أوجب الله على العبد معرفته والثاني: أن أول ما أوجب الله على العبد النظر والاستدلال المؤديان إلى معرفة الله تعالى )

قال: ( وقال قوم: أول ما أو جب الله على العبد الطهارة والصلاة وغير ذلك )

ثم قال: ( دليلنا أن معرفة الله يجب أن تتقدم على عبادته لأنه لا يجوز للمكلف ان يعبد ما لا يعرف وإذا ثبت هذا وجب تقدم المعرفة على العبادة )

قال: ( وإلى ذلك دعانا الباري بقوله تعالى: { أولم يتفكروا في أنفسهم } وقال: { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض }

قال: ( ولم يندبنا إلى النظر والتفكر إلا لكي نستدل على معرفته )

قال: ( دليل ثان: أن النبي أول ما أرسل به إلى الأمة التوحيد ومعرفة الله تعالى بالوحدانية ونفى الإليهة عما سواه ولهذا قال النبي : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ] ثم فرض عليهم بعد ذلك الفرائض فدل على ما قلناه )

تعليق ابن تيمية[عدل]

قلت: فهذا الكلام وأمثاله يقوله كثير من أصحاب الأئمة الأربعة ومعلوم أن الأئمة الأربعة ما قالوا لا هذا القول ولا هذا القول وإنما قال ذلك من أتباعهم من سلك السبل المتقدمة والنبي لم يدع أحدا من الخلق إلى النظر ابتداء ولا إلى مجرد إثبات الصانع بل أول ما دعاهم إليه الشهادتان وبذلك أمر أصحابه

كما قال في الحديث المتفق على صحته لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن: [ إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فإعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ]

وكذلك سائر الأحاديث عن النبي موافقه لهذا كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وابن عمر: [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ]

وفي حديث ابن عمر: [ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ]

وهذا مما اتفق عليه أئمة الدين وعلماء المسلمين فإنهم مجمعون على ما علم بالاضطرار من دين الرسول أن كل كافر فإنه يدعى إلى الشهادتين سواء كان معطلا أو مشركا أو كتابيا وبذلك يصير الكافر مسلما ولا يصير مسلما بدون ذلك

كما قال أبو بكر بن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر إذ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأن كل ما جاء به محمد حق وأبرأ إلى الله من كل دين يخالف دين الإسلام - وهو بالغ صحيح يعقل - أنه مسلم فإن رجع بعد ذلك فأظهر الكفر كان مرتدا يجب عليه ما يجب على المرتد

لكن تنازعوا فيما إذا قال: أشهد أن محمدا رسول الله: هل يتضمن ذلك الشهادة بالتوحيد أو لا يتضمن؟ أو يفرق بين من يكون مقرا بالتوحيد ومن لا يكون مقرا على ثلاثة أقوال معروفة من مذهب أحمد وغيره من الفقهاء ولهذا قال غير واحد ممن تكلم في أول الواجبات كالشيخ عبد القادر وغيره: أول واجب على الداخل في ديننا هو الشهادتان

واتفق المسلمون على أن الصبي إذا بلغ مسلما لم يجب عليه عقب بلوغه تجديد الشهادتين

والقرآن العزيز ليس فيه أن النظر أول الواجبات ولا فيه إيجاب النظر على كل أحد وإنما في الأمر بالنظر لبعض الناس وهذا موافق لقول من يقول: إنه واجب على من لم يحصل له الإيمان إلا به بل هو واجب على كل من لا يؤدي واجبا إلا به وهذا أصح الأقوال

فقوله تعالى: { أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون } وهذا بعد قوله: { ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون }

ثم قال تعالى: { أولم يتفكروا في أنفسهم } فالضمير عائد إلى الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون

وقوله تعالى: { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين * أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون }

فهذا مذكور بعد قوله: { والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم إن كيدي متين }

ثم قال: { أولم يتفكروا ما بصاحبهم } فالضمير عائد إلى المكذبين فإنه قال تعالى: { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة } ثم قال تعالى: { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون } فقول هؤلاء كأبي المعالي وغيره: ( أول ما يجب على العاقل البالغ باستكمال سن البلوغ أو الحلم شرعا القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدث العالم ) هو في الأصل من كلام المعتزلة وهو كلام مخالف لما أجمع عليه أئمة الدين ولما تواتر عن سيد المرسلين بل لما علم بالاضطرار من دينه

وإذا قدر أن أول الواجبات هو النظر أو المعرفة أو الشهادتان أو ماقيل فهذا لا يجب على البالغ أن يفعله عقب البلوغ إلا إذا لم يكن قد فعله قبل البلوغ فأما من فعل ذلك قبل البلوغ فإنه لا يجب عليه فعله مرة ثانية لا سيما إذا كان النظر مستلزما للشك المنافي لما حصل له من المعرفة والإيمان فيكون التقدير: اكفر ثم آمن واجهل ثم أعرف وهذا كما أنه محرم في الشرع فهوممتنع في العقل فإن تكليف العالم الجهل من باب تكليف ما لا يقدر عليه فإن الجاهل يمكن أن يصير عالما فإذا أمر بتحصيل العلم كان ممكنا أما العالم فلا يقدر أن يصير جاهلا كما أن من رأى الشيء وسمعه لا يمكن أن يقال لا يعرفه فمن كان الله قد أنعم عليه وشرح صدره للإسلام قبل بلوغه فحصل له الإيمان المتضمن للمعرفة لم يمكن أن يؤمر بما يناقض المعرفة من نظر ينافي المعرفة أو شك أو نحو ذلك بل الأمر لمن حصل له علم ومعرفة أن يقدم ذلك ثم يحصله مثل تكليف من حصل له قصد الصلاة ونيتها بأن يقدم ذلك ثم تحصل النية وهذا مع أنه من باب الجهل والسفه والضلال فهو من باب تكليف العباد ما يعجزون عنه ولهذا يقال: الوسوسة لا تكون إلا من خبل في العقل أو جهل بالشرع

وقد اتفق الفقهاء على أن الصبي إذا تطهر قبل البلوغ لم يجب عليه إعادة الوضوء إذا بلغ وكذلك لوكان عليه ديون فقضاها أو قضاها وليه لم يجب عليه إعادة القضاء بعد البلوغ بل لو صلى الفرض في أول الوقت ثم بلغ ففي إعادة الصلاة عليه نزاع معروف بين العلماء ومذهب الشافعي لا تجب الإعادة وهو قول في مذهب أحمد ومن الناس من يضعف هذا القول ولعله أقوى من غيره فإن النبي لم يأمر أحدا من الصبيان بإعادة الصلاة مع العلم بأن كثيرا منهم يحتلم بالليل وقد صلى العشاء مع بقاء وقتها

والمقصود هنا أن السلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتان ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقب البلوغ

والشهادة تتضمن الإقرار بالصانع تعالى وبرسوله لكن مجرد المعرفة بالصانع لا يصير به الرجل مؤمنا بل ولا يصير مؤمنا بأن يعلم أنه رب كل شيء حتى يشهد أن لا إله إلا الله ولا يصير مؤمنا بذلك حتى يشهد أن محمدا رسول الله ثم كون ما يجب من العرفة لا يحصل إلا بالنظر أو يمكن حصوله بدونه؟ وهل أصل المعرفة فطرية ضرورية أو نظرية؟ أو يحصل بهذا تارة ولهذا تارة؟ والنظر المحصل لها: هل يتعين في طريق معين أو لا يتعين؟ هذه مسائل أخر

ومما يتعلق بهذا تنازعهم في المعرفة الواجبة: هل تحصل بالعقل أو بالشرع؟ وكثير من النزاع في ذلك لفظي وبعضه معنوي فمن ادعى أن المعرفة لا تحصل إلا بطريقة الأعراض والتركيب ونحو ذلك من الطرق المبتدعة التي للمعتزلة والمتفلسفة ومن وافقهم كان النزاع معه معنويا

ونحن نعلم بالاضطرار من دين الرسول وسلف الأمة بطلان قول هؤلاء وأن الرسول لم يأمر أحدا بهذه الطرق ولا علق إيمانه ومعرفته بالله بهذه الطرق بل القرآن وصف بالعلم والإيمان من لم يسلك هذه الطرق ولم ابتدع بعض هذه الطرق من ابتدعها أنكر ذلك سلف الأمة وأئمتها ووسموا هؤلاء بالبدعة والضلالة

ثم القول بأن أول الواجبات هو المعرفة أو النظر لا يمشي على قول من يقول: لا واجب إلا بالشرع كما هو قول الأشعرية وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم فإنه على هذا التقدير لا وجوب إلا بعد البلوغ على المشهور وعلى قول من يوجب الصلاة على ابن عشر سنين أوسبع لا وجوب على من لم يبلغ ذلك وإذا بلغ هذا السن فإنما يخاطبه الشرع بالشهادتين وإن كان لم يتكلم بهما وإن كان تكلم بهما خاطبه بالصلاة

وهذا هو المعنى الذي قصده من قال: أول الواجبات الطهارة والصلاة فإن هذا أول ما يؤمر به المسلمون إذا بلغوا أو إذا ميزوا كما [ قال : مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ]

ولهذا قال الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما: يجب على كافل الصبي أن يأمره بالطهارة والصلاة لسبع ولم يوجب أحد منهم على وليه أن يخاطبه حينئذ بتجديد شهادتين ولا نظر ولا استدلال ونحو ذلك ولا يؤمر بذلك بعد البلوغ وإن كان الإقرار بالشهادتين واجبا باتفاق المسلمين ووجوب ذلك يسبق وجوب الصلاة لكن هو قد أدى هذا الواجب قبل ذلك: إما بلفظه وإما بمعناه فإن نفس الإسلام والدخول فيه إلتزام لذلك

وهنا مسائل تكلم الفقهاء فيها فمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين أو أتى بغير ذلك من خصائص الإسلام ولم يتكلم بهما؟ والصحيح أنه يصير مسلما بكل ما هو من خصائص الإسلام

فإن قال هؤلاء: يعني بكونه أول الواجبات: أنه أول العبد من الواجبات؟ قيل: قد يؤدي قبل ذلك واجبات: من قضاء الديون وأداء الأمانة وصلة الأرحام والعدل وغير ذلك

فإن قيل: لكن هذا أول واجب يتعلق به الثواب في الآخرة بخلاف ما أدي بدونه فإنه لا ثواب فيه في الآخرة؟

قيل: مع قولنا بأنه لا وجوب ولا ثواب في الآخرة إلا بالشرع فلا يثاب لا على هذا وعلى هذا قبل مجيء الشرع ولا يجب لا هذا ولا هذا إلا بالشرع وإذا خاطبه الشارع الناس فإنما يأمر العبد ابتداء لما لم يؤده من الواجبات دون ما أداه فلم يخاطب المشركين ابتداء بالمعرفة إذ كانوا مقرين بالصانع وإنما أمرهم بالشهادتين ولو لم يكونوا مقرين بالصانع فإنه لم يأمرهم بإقرار مجرد عن الشهادتين بل أمرهم بالشهادتين ابتداء

والشهادتان تتضمن المعرفة فلو أقروا بالصانع وعرفوه من غير إقرار بالشهادتين لم يقبل ذلك منهم ولم يخرجوا بذلك من الكفر ولم يرتب خطابهم بذلك شيئا بعد شيء بل خاطبهم بالجميع ابتداء

وهنا تكلم الناس في وجوب إمهال الكافر إذا طلب الإمهال للنظر فأوجبه من أوجبه من المتكلمين من المعتزلة ومن تبعهم على هذه الطريقة كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى في المعتمد وغيرهما

وأما الفقهاء أئمة الدين فلا يوجبون ذلك مطلقا أما في حال المقاتلة فيقاتلون حتى يسلموا أو يقروا بالجزية إن كانوا من أهلها فإذا أسر الرجل منهم فهذا لا يتعين قتله فإذا طلب مثل هذا الإمهال ورجى إسلامه أمهل وأما المرتد فلا يؤخر عند الجماهير أكثر من ثلاث وأما من له عهد فذلك لا يكره على الإسلام فهو في مهلة النظر دائما

ولوطلب أهل دار ممتنعين من الإمام أن يمهلهم مدة ورجا بذلك إسلامهم ولم يخف مفسدة راجحة أمهلهم

والحربي إذا طلب الأمان حتى يسمع القرآن وينظر في دلائل الإسلام أمناه كما قال تعالى: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه }

وأما من قال بالوجوب العقلي كما هو قول المعتزلة والكرامية ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم فهؤلاء هم الذين قالوا ابتداء: أول ما يجب المعرفة أو النظر المؤدي إليها لكن أخد كلامهم من أراد أن يبنية على أصوله من الأشعرية ونحوهم فتناقض كلامه

ومن قال بالوجوب العقلي إذا قال: أول الواجبات المعرفة كان ذلك أقرب ثم له أن يقول: الرسول إذا أوجب الشهادتين ابتداء فقد ضم إلى الواجب العقلي ما يجب بالشرع وجعل أحدهما شرطا في الآخر فلا يقبل لأحدهما دون الآخر ومن أدى هذا الواجب أو بعضه لم يخاطبه إلا بفعل ما لم يؤده وعلى هذا فيكون خطاب الشارع للناس بحسب أحوالهم

وأول الواجبات الشرعية يختلف باختلاف أحوال الناس فقد يجب على هذا ابتداء ما لا يجب على هذا ابتداء فيخاطب الكافر عند بلوغه بالشهادتين وذلك أول الواجبات الشرعية التي يؤمر بها وأما المسلم فيخاطب بالطهارة إذا لم يكن متطهرا وبالصلاة وغير ذلك من الواجبات الشرعية التي لم يفعلها

وفي الجملة فينبغي أن يعلم أن ترتيب الواجبات في الشرع واحدا بعد واحد ليس هو أمرا يستوي فيه جميع الناس بل هم متنوعون في ذلك فكما أنه قد يجب على هذا ما لا يجب على هذا فكذلك قد يؤمر هذا ابتداء بما لا يؤمر به هذا فكما أن الزكاة يؤمر بها بعض الناس دون بعض وكلهم يؤمر بالصلاة فهم مختلفون فيما يؤمرون به ابتداء من واجبات الصلاة فمن كان يحسن الوضوء وقراءة الفاتحة ونحو ذلك من واجباتها أمر بفعل ذلك ومن لم يحسن ذلك أمر بتعلمه ابتداء ولا يكون أول ما يؤمر به هذا من أمور الصلاة هو أول ما يؤمر به هذا

وهكذا الواجبات العقلية: إذا قيل بالوجوب العقلي يتنوع الناس في ترتيبها فهذا يؤمر بقضاء ما عليه من الديون وهذا يؤمر برد ما عنده من الودائع وهذا يؤمر بالعدل في حكمه والصدق في شهادته وأمثال ذلك وكما أنهم متنوعون في ترتيب الوجوب فهم متنوعون في ترتيب الحصول علما وعملا

كلام أبي الحسين البصري عن العلم[عدل]

وقد سلك طائفة من أهل الكلام من المعتزلة ومن وافقهم ترتيبا معينا في العلم الواجب على كل مكلف وزعموا أنه لايمكن حصول المعرفة لأحد إلا على ذلك الترتيب الخاص كما ذكرناه من كلام أبي الحسين البصري وأمثاله حيث قالوا: ( ليس يثق أحد بصحة ما جاءت به الرسل إلا بعد المعرفة بصدقهم ولا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات التي تميزهم عن غيرهم وليس تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لا يفعل القبيح لكي يؤمن أن يصدق الكذابين وليس يعلم أنه لا يفعل القبيح إلا إذا عرف أنه عالم بقبحه عالم باستغنائه عنه ولا يعرف غناه إلا بعد أن يعلم بأنه غير جسم ولا يعرف أنه غير جسم إلا إذا عرف أنه قديم ولا يعلم أنه قديم ولا يعلم أنه عالم بكل قبيح إلا إذا علم أنه عالم بكل شيء ولا يعلم ذلك إلا إذا علم أنه عالم لذاته ولا يعلم أنه يثبت ويعاقب إلا إذا علم أنه قادر حي ولا نعرف موصوفا بهذه الصفات إلا إذا عرفت ذاته وإنما تعرف ذاته إذا استدل عليها بأفعاله لأنها غير مشاهدة ولا معروفة باضطرار ولا طريق إليها إلا أفعاله )

قال: ( فيجب أن يتكلم في هذه الأشياء ليعلم صحة ما جاءت به الرسل )

ثم إنه تكلم في حدوث الأجسام وبنى الأمر في ذلك على أن ما لم يسبق الحوادث فهو محدث وبنى ذلك على أنه إذا كان كل من الحوادث له أول استحال أن لا يكون له أول لأنها ليست سوى آحادها كما يستحيل أن يكون كل واحد من الزنج أسود ولا يكونوا كلهم سودا

تعليق ابن تيمية[عدل]

فقد جعل الدين كله مبنيا على هذا الترتيب المبني على هذه المقدمة التي ينازعه فيها جمهور العقلاء من أهل الملل وغيرهم وهذا هي أصول الدين عندهم وهذا مما يخالفهم فيه جماهير المسلمين بل جمهور عقلاء العالمين بل يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول لم يوجب هذه الطريق ولا دعا إليها ولا كان إيمان السابقين الأولين موقوفا عليها

وعامة ما ذكره من الترتيب ممنوع فقوله: لا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات ينازعه فيه طوائف كثيرون بل أكثر الناس

وقوله: ( لا تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لا يفعل القبيح ) ينازعه فيه أيضا طوائف كثيرون وقوله: ( لا يعلم غناه إلا إذا علم أنه ليس بجسم ) ينازعه فيه أيضا طوائف كثيرون وكذلك ما ذكره من قوله: ( ولا يعلم ذلك إلا إذا علم أنه عالم لذاته ) ومراده نفي الصفات والقول: بأن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة ونحو ذلك مما ينازعه فيه طوائف كثيرون

وقوله: ( إنما يعرف ذاته إذا استدل عليها بأفعاله لأنها غير مشاهدة ولا معرفة باضطرار ) ينازعه فيه طوائف آخرون

فهذا ترتيب المعتزلة للعلم بالله ورسله ولغيرهم من طوائف المتكلمين ترتيب آخر وفيه من الممانعات والمعارضات من جنس ما في ترتيب هؤلاء

ونظير هذه التراتيب التي أحدثها أهل الكلام وادعوا أنه لا يحصل العلم إلا بها تراتيب ذكرها طوائف من الصوفية المصنفين في أحوال القلوب وأعمالها لما تكلموا في المقامات والمنازل وترتيبها فهذا يذكر عددا من المنازل والمقامات وترتيبا وهذا يذكر عددا آخر وترتيبا ويقول هذا: إن العبد لا ينتقل إلى مقام كذا حتى يحصل له كذا وأنه ينتقل إلى كذا بعد كذا ويقول هذا: عدد المنازل مائة ويقول الآخر عددها أكثر وأقل ثم هذا يقسم المنازل أقساما يجعلها الآخر كلها قسما ويذكر هذا أسماء وأحوالا لا يذكرها الآخر

وغاية الواحد من هؤلاء أن يكون ما ذكره وصف حاله وحال أمثاله وسلوكهم وترتيب منازلهم فإذا كان ما قالوه حقا فغايته أن يكون وصف سلوك طائفة معينة أما كون جميع أولياء الله تعالى لا يسلكون إلا على هذا الوجه المرتب وهذه الانتقالات فهذا باطل

وكذلك أيضا نظير هذا ما يذكره من المتفلسفة وأهل المنطق في ترتيب العلم وأسباب حصوله وما يذكرونه من الحدود والأقيسة والانتقالات الذهنية فغاية كلامهم - إذ كان صحيحا - أن يكون ذلك وصفا لما تسلكه طائفة معينة أما كون جميع بني آدم لا يحصل لهم العلم بمطالبهم إلا بهذه الطرق المعينة فهذا كلام باطل فحصر هؤلاء لمطلق العلم في ترتيب معين وحصر هؤلاء العلم بالله وبصدق رسله في ترتيب معين وحصر هؤلاء للوصول إلى الله في ترتيب معين كل هذا مع كونه في نفسه مشتملا على حق وباطل فالحق منه لا يوجب الحصر ولكن هو وصف قوم معينين وطرق العلم والأحوال وأسباب ذلك وترتيبه أوسع من أن تحصر في بعض هذه الطرائق

ولهذا كانت الرسل صلوات الله عليهم وسلامه يأمرون بالغايات المطلوبة من الإيمان بالله ورسوله وتقواه ويذكرون من طرق ذلك وأسبابه ما أقوى وأنفع وأما أهل البدع المخالفون لهم فبالعكس يأمرون بالبدايات والأوائل ويذكرون من ذلك ما هو أضعف وأضر فمتبع الأنبياء لا يضل ولا يشقى ومتبع هؤلاء ضال شقي إذ كانت قضايا هؤلاء فيها من الباطل الذي هو كذب وإفك وإن لم يعلم صاحبه أنه كذب وإفك بل يظنه صدقا ما لا يحصيه إلا الله

وإذا كان الناس يتنوعون في الوجوب وترتيب الواجبات ويتنوعون في الحصول وترتيب الحاصلات لم يمكن أن يجعل ما يخص بعضهم شاملا لجميعهم وكثير من الغلط في هذا الباب إنما دخل من هذا الوجه: يصف أحدهم طريق طائفة ثم يجعله عاما كليا ومن لم يسلكه كان ضالا عنده ثم ذلك الطريق إما أن يكون خطأ وإما أن يكون صوابا ولكن ثم طرق أخرى غير ذلك الطريق فيجيء من سلك غير ذلك الطريق: يبطله بالكلية ويرد ما فيه من الصواب

وقد تكلمنا على مسألة تحسين العقل وتقبيحه في غير هذا الموضع وفصلنا القول فيها وبينا منشأ الغلط فإن الطائفتين اتفقوا على أن الحسن والقبح باعتبار الملائمة والمنافرة قد يعلم بالعقل والملائمة تتضمن حصول المحبوب المطلوب المفروح به والمنافرة تتضمن حصول المكروه المحذور المتأذى به

وهذا الذي اتفقوا عليه حق لكن توهموا بعد هذا أن الحسن والقبح الشرعي خارج عن ذلك وليس الأمر كذلك بل هو في الحقيقة يعود إلى ذلك لكن الشارع عرف بالموجود وأثبت المفقود فتحسينه: إما كشف وبيان وإما إثبات لأمور في الأفعال والأعيان

وعلى قول من يجعل الأحكام صفات ثابتة للأفعال وللأعيان فالتحسين الشرعي يتضمن أن الحسن ما حصل به الحمد والثواب والقبح ما حصل به الذم والعقاب ومعلوم أن الحمد والثواب ملائم للإنسان والذم والعقاب مناف للإنسان

وكذلك توهم من توهم من الطائفتين أن إثبات ذلك في حق الله تعالى ممتنع لكون هؤلاء المتوهمين لم يفرقوا بين الإرادة والمحبة والرضا بل جعلوا كل مراد محبوبا مرضيا ثم قال هؤلاء: الكفر والفسوق والعصيان ليس محبوبا باتفاق المسلمين فلا يكون مرادا فيكون وقوع ذلك بدون إرادته فيكون في ملكه ما لا يريده فيكون ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون

وقال هؤلاء بل هو مريد لكل حادث فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والكفر والفسوق والعصيان مراد له فيكون محبوبا مرضيا فيكون محبا راضيا فيكون محبا راضيا بالكفر والفسوق والعصيان فهؤلاء سووا بين المأمور والمحظور في أن الجميع محبوب مرضي فلزمهم تعطيل الأمر والنهي والوعد والوعيد وإن لم يلتزموه

وأولئك قالوا: يكون ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون فلزمهم أن يكون عاجزا مغلوبا وإن كانوا لا يكرمون عجزه فهؤلاء لم يجعلوا لله الملك وأولئك لم يجعلوا الحمد والله تعالى له الملك وله الحمد هؤلاء أرادوا إثبات إلهيته وأنه معبود محمود حكيم عادل فقصروا في ذلك ونقصوه موجب ربوبيته وقدرته ومشيئته وهؤلاء أثبتوا موجب ربوبيته وقدرته ومشيئته لكنهم نقصوا موجب إلهيته وحكمته ورحمته وحمده وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع

والمقصود هنا التنبيه على منشأ النزاع في الوجوب كما نبهنا على النزاع في ترتيب الوجوب وأما الحصول فكثير من الناس يقول: المعرفة لا تحصل إلا بالعقل وقد يسرف هؤلاء حتى لا يثبتوا أشياء من صفات الله تعالى لا نفيا ولا إثباتا إلا بالعقل وصرح هؤلاء بأنه لا يستدل بنصوص الرسل على شيء من صفات الله تعالى لا إثباتا ولا نفيا كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ومن اتبعهم من متأخري الأشعرية ويجعلون أصول الدين هي: العقليات المحضة التي لا تعلم بالسمع ثم قد يعينون من الطرق العقلية ما هو باطل عقلا وشرعا كطريقة الأعراض وطريقة التركيب وطريقة الاختصاص وإلى هذه الثلاث تعود جميع أصول النفاة ويقابلهم آخرون فيقولون: المعرفة لا تحصل إلا بالسمع ولا تحصل بالعقل وربما قالوا: إنه لا يمكن حصولها بالعقل وقد بينا في غير هذا الموضع أن الأدلة العقلية والسمعية متلازمة كل منهم مستلزم صحة الآخر فالأدلة العقلية تستلزم صدق الرسل فيما أخبروا به والأدلة السمعية فيها بيان الأداة العقلية التي بها يعرف الله وتوحيده وصفاته وصدق أنبيائه

ولكن من الناس من ظن أن السمعيات ليس فيها عقلي والعقليات لا تتضمن السمعي ثم افترقوا فمنهم من رجح السمعيات وطعن في العقليات ومنهم من عكس

وكلا الطائفتين مقصر في المعرفة بحقائق الأدلة السمعية والعقلية ثم تجد هؤلاء وهؤلاء في أتباع الأئمة: مالك والشافعي وأحمد وغيرهم

درء تعارض العقل والنقل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55