درء تعارض العقل والنقل/38
كلام الباقلاني في بيان معنى الخلق
فقال القاضي أبو بكر: ( وأما توجيه كلام أبي الحسن إلى أن الخلق بمعنى الاختراع والابتداع فصحيح مع أكثر أهل الدهر لأن كثيرا من الدهرية والفلاسفة يزعمون أن العالم محدث من غير محدث وأنه متشكل ومتصور بغير مصور ولا مدبر مع إظهارهم الإقرار بحدوثه وأنهم لذلك يعتقدون فإذا حصل هذا الإقرار من الفريق الذين ذكرناهم بحدث الأجسام وتصويرها وتركيبها مع إنكارهم الصانع المصور كان الكلام معهم في تعلقها بمحدث أحدثها وصورها بعد الأصل الذي قد سلموه صحيحا )
قال: ( وقد زعم قوم من المسلمين أن شطر الحوادث أو قريبا من شطرها يقع من غير محدث ولا فاعل أصلا وهو ثمامة بن أشرس النميري وشيعته لأنه كان يزعم أن المتولدات كلها لا فاعل لها وهي مع ذلك حوادث وأفعال )
قال: ( وإنما ذكرت لك هذه الفرقة من أهل الملة لتعلم أن الإقرار بحدث الشيء وإنكار محدثه مذهب قد شاع في أهل الملة وغيرهم وأن تعجب من تعجب من هذا وإنكاره دليل على جهله وشدة غباوته وقلة عنايته بمعرفة مذاهب الأمم السالفة ومن بعدهم من شيوخه المعتزلة مع أن الدعوة التي عول عليها صاحب الأعتراض هو أن قال: كل من أقر بالشيء المحدث المخلوق أقر بالخالق وكل من اعترف بمفعول اعترف بالفاعل ولو سلم أن الجسم مخلوق لم يحتج إلى تعاطي الدليل على إثبات الصانع الخالق )
قال: ( وقد أنبأنا بالذي سلف من الكلام على جهله في هذا وذهابه عن جهة الصواب فيه ثم نقول: فهب أن الأمر كما وصفته ماالذي فيه يوجب غلط واضع الكتاب في تعاطيه إقامة الدليل على إثبات الخالق؟ وقد اتفق الجميع من العاقلين على أن الأفعال تتعلق بفاعل وأن المخلوقات تتعلق بخالق ليس هو مما يعلم بالاضطرار ولا يثبت بدرك الحواس وإنما يتطرق إليه بالبحث والفحص إلا شرذمة قليلة لا يعتد بقولها ادعت في هذا المذهب البديهة وأن العلم يقع به عند كمال العقل وليس هذا من قولنا وقول هذا المعترض وقد يصح أن يشك في وجوب هذا التعلق من العقلاء شاكون إذا عدلوا عن جهة الاستدلال وطرق الاستشهاد المؤدي إلى معرفة وجوب تعلق الفعل بالفاعل وإذا كان هكذا لم يستنكر ما سلكه شيخنا رضي الله عنه من ذكر الدليل على أن الإنسان ليس هو المحدث لنفسه وأن له محدثا سواه وأن المخلوق لا بد له من أن يتعلق بخالق فإذا كان هذا إنما يعلم بالاستدلال فكإنه إنما أراد أن يعرف المتعلم وجه الدليل الذي أدى المجمعين إلى وجوب تعلق الفعل بالفاعل وما من أجله أجمعوا على ذلك فما في هذا مما يعاب لولا فرط الجهل وسوء الظن بالشيوخ؟ !
وأيضا فإن الذي عابه هذا المعترض غلط بين من قبل أنه سام الرجل إقامه الدليل على حدوث الجسم قبل إقامته على وجود محدثه وهذا الترتيب لعمري يجب على من قصد إلى أن يدل على الأمرين فأما من قصد أن يقيم الدلالة على أحدهما وهو أن المحدث يتعلق بوجود محدث فلا يجب عليه ذلك فإنه قصد إلى الكلام في إحدى المسألتين دون الأخرى )
قال: ( وقد يقضي القول في هذا الذي سامه هذا المعترض في إثبات الأعراض وحدوث الأجسام في غير كتاب بما لا يخفي على من عرف من مذهبه القليل واطلع منه على اليسير )
تعليق ابن تيمية
قلت: ولقائل أن يقول: ما ذكره القاضي أبو بكر ليس فيه جواب عن الأشعري بل كلام الأشعري صحيح في نفسه لا يحتاج إلى ما ذكره
وبيان ذلك من وجهين :
أحدهما: أن كلام الأشعري ليس فيه إقامة دليل على هذه المقدمة التي جعلها القاضي نظرية وهو تعلق الفعل بالفاعل وأن المخلوق لا بد له من خالق بل الأشعري ذكر هذه المقدمة ذكرا مطلقا وجعلها مسلمة ولم ينازع فيها من يعبأ فيها من يعبأ به ولهذا لا يعرف في أهل المقالات المعروفة من نازع فيها
وقول القاضي: إن كثيرا من الدهرية والفلاسفة يقولون: إنه محدث من غير محدث فهذا القول إنما يحكي عن شرذمة لا يعرف منهم وقد تأول الشهرستاني وغيره ذلك بأنهم أرادوا به أن سبب حدوثه كان بالاتفاق لا أنهم أنكروا الصانع وحينئذ فيكونون قد أثبتوا فاعلا ولم يثبتوا سببا للحدوث
وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية وغيرهم: يقرون بالصانع المحدث من غير تجدد سبب حادث ولهذا قامت عليهم الشناعات في هذا الموضع وقال لهم الناس: هذا ينقض الاصل الذي أثبتم به الصانع وهو أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح فإذا كانت الأوقات متماثلة والفاعل على حال واحدة لم يتجدد فيه شيء أزلا وأبدا ثم اختص أحد الأوقات بالحدوث فيه كان ذلك ترجيحا بلا مرجح فقول أولئك الدهرية وقول محمد بن زكريا الرازي وأمثاله في إحالة الحدوث على تعلق النفس بالهيولى وأمثال ذلك كل ذلك ينزع إلى أصل واحد وهو إثبات حدوث حادث بلا سبب حادث
والفلاسفة القائلون بقدم العالم كأرسطو وابن سينا وأمثالهما جعلوا هذا حجة على القائلين بحدوث العالم لكن قولهم تضمن هذا وما هو أقبح منه فإنهم زعموا أن الحوادث كلها تحدث عن علة تامة قديمة مستلزمة لمعلولها لا يتأخر عنها شيء من معلولها كما يقوله ابن سينا وأمثاله: إن الأول يحرك المتحركات بمعنى أنها تتحرك للتشبه به لا أنه أبدع حركتها كما أنها لم يدعها عندهم فلزم من ذلك أن تكون الحوادث كلها حدثت لا محدث وذلك أعظم من كونها حدثت بلا سبب حادث وقد بسط هذا في موضعه
وأما ما حكاه القاضي عن ثمامة فهو من لوازم قوله كما أن المعتزلة البصريين لما قالوا: تحدث إرادة لا في محل بل إرادة ألزمهم الناس بحدوث الحوادث كلها بلا إرادة وهو ينفي عنها الفاعل الإرادي لا ينفي سببا اقتضى حدوثها وهم مع هذا معترفون بأنه لا بد للحوادث من فاعل مختار ولكن لازم المذهب ليس بمذهب وليس كل من قال قولا التزم لوازمه التي صرح لفسادها بل قد يتفق العقلاء على مقدمة وإن تناقض بعضهم في لوازمها ولهذا كانت الشبه الواردة على قول القائل: إن التخصيص الحادث لا بد له من محدث مخصص أو أن الممكن لا بد له من مرجح أعظم مما يرد على أن المحدث لا بد له من محدث
كلام الرازي في نهاية العقول عن مسألة إثبات وجود الله تعالى
والتناقض الذي يلزم أولئك أكثر ولها أورد أبو عبد الله الرازي في مسألة إثبات الصانع على طريقة أسولة لم يجب عنها بجواب صحيح فإنه يبني جميع ما يذكره من الطرق على أن الممكن لا بد له من سبب فاعترض على ذلك بأنه: ( لم قلتم: إن الممكن لا بد له من سبب؟
ثم هنا نظران: أحدهما: أن نقول: أنتم في هذا المقام بين أمرين: إما أن تدعوا الضرورة فيه أو النظر
ودعوى الضرورة باطل لوجهين: أحدهما أنا إذا عرضنا على العقل أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح وعرضنا أيضا قولنا: إن الواحد نصف الأثنين لم نجد القضية الأولى في قوة القضية الثانية
وثانيهما: أن العقلاء جوزوا وقوع الممكن لا عن سبب ولو كان ذلك ضروريا لاستحال من العقلاء دفعه
بيان أن العقلاء جوزوا ذلك صور ست: أحدها: أن القائلين بحدوث العالم وهم المسلمون يقولون: إن الله فعل في الوقت المعين دون سائر الأوقات لا لأمر يختص به ذلك الوقت ومن علل منهم ذلك باختصاص ذلك الوقت بمصلحة خفية يحكم باختصاص ذلك الوقت بتلك المصلحة دون سائر الأوقات المذكورة مع تساويها بأسرها فيكون ذلك وقوعا للممكن بلا سبب
وثانيها: أن الذين يحيلون الدواعي والأعراض على الله تعالى وينكرون كون الحسن والقبح صفة عائدة إلى الفعل يقولون: أن الله تعالى حكم في الواقعة المعينة بحكم مخصوص من إيجاب أو ندب أو حظر أو إباحة مع كون سائر الوقائع مساويا لها فلا يكون على مذهبهم لتخصيص تلك الواقعة بذلك الحكم سبب مخصوص
وثالثها: أن أكثر زعموا أن القادر مع تساوى دواعيه إلى الشيء وضده قد يفعل أحدهما دون الآخر لا لمرجح بل زعموا أن الهارب من السبع إذا اعترضه طريقان متساويان من جميع الوجوه فإنه لا بد وأن يختار أحدهما دون الآخر وزعموا أن العلم بذلك ضروري وأن الجائع إذا خير بين أكل رغيفين متساويين من كل الوجوه فإنه لا بد وأن يختار أحدهما بل يبتدىء بكسر أحد جوانب ذلك الرغيف من غير سبب مختص يختص به ذلك الجانب وكذلك النائم ينقلب من احد جنبيه على الآخر لا لمرجح وادعوا الضرورة في هذه الصورة
ورابعها: أن أكثر المعتزلة زعموا أن الذوات متساوية في الذاتية ومختلفة في الصفات الذاتية وأنه ليس لاختصاصها بتلك الصفة علة
وخامسها: زعمت الفلاسفة أن حركات الفلك لأجل التشبه مع أنها لو وقعت إلى الجهة المضادة لجهتها أو أسرع أو أبطأ مما وجدت لكن التشبه حاصلا لا عن مرجح
وسادسها: أنهم يقولون: الكوكب المعين يختص بموضع معين من الفلك مع كون ذلك الموضع مساويا لسائر المواضع في الحقيقة والماهية لكون الفلك عندهم بسيطا فثبت أن العقلاء حكموا في هذه الصور بوقوع الممكن لا عن سبب ولو كان العلم بذلك ضروريا لاستحال ذلك كما استحال أن يحكم بعضهم بكون الواحد أكثر من اثنين
فهذا البطلان قول من يدعي الضرورة في هذا المقام وأما من يدعي الاستدلال فلا بد له من دليل وأنتم ما ذكرتم ذلك الدليل ثم لو ذكرتموه فإنه ينتقض بالصور التي عددناها )
وذكر أسولة أخرى
ثم قال أبو عبد الله الرازي: ( والجواب على منهجين: الأول: إجمالي وهو أن دليلنا بناء على مقدمتين: إحدهما: أن المحدث لا بد وأن يكون ممكنا لأن الذي لا يقبل حقيقة العدم لا يكون معدودا في شيء من الأوقات وثانيهما: أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح وهاتان المقدمتان لا يشك فيهما عاقل وما ذكرتموه من الشكوك فهي جارية مجرى شبه السوفسطائية القادحة في سائر العلوم الضرورية
وكما أن تلك الشبه مع قوتها لا تقدح في شيء من العلوم الضرورية وتلك لا تزيل عنا الجزم والوثوق بالمشاهدات فكذلك ما ذكرتموه )
قال: ( وهذا جواب قاطع للمنصف )
قال: ( والمنهج الثاني أن نجيب عن الشكوك المذكورة على التفصيل )
إلى أن قال: ( قوله: إذا ثبت كون المحدثات ممكنة وجب استنادها إلى مؤثر قوله: تدعون فيه الضرورة أو النظر؟ قلنا: بل ندعي فيه الضرورة فإنا أذا فرضنا إنسانا سليم العقل لم يمارس هذه المجادلات ثم يعرض على عقله أن كفتي الميزان: هل يمكن أن تترجح إحداهما على الأخرى لا لسبب أصلا؟ فإن صريح العقل يشهد له بإنكار ذلك
وكذلك إذا دخل برية لم يجد فيها عمارة أصلا ثم دخلها فوجد فيها عمارة رفيعة مشيدا فإنه مضطر إلى العلم بوجود باني وصانع وكذلك إذا أحس بصوت أو حركة اضطر إلى العلم بوجود مصوت أو متحرك بل الصبيان يضطرون إلى العلم بذلك لأنهم إذا وجدوا في موضع شيئا لم يتوقعوا حصوله هناك حملتم طباعهم السليمة على طلب من وضع ذلك الشيء في ذلك الموضع فدلنا هذا على أن ذلك من العلوم الضرورية قوله: إذا عرضنا على العقل أن الواحد نصف الأثنين وعرضنا أيضا أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر الإ لمرجح وجدنا الأول أظهر قلنا: هذا ممنوع وبتقدير التسليم لا يلزم من كون الأول أجلى منه أن لا يكون هو جليا وذلك لأن العلوم الضرورية متفاوتة في الجلاء كما أن العلوم النظرية متفاوتة في الخفاء وكما أن التفاوت في النظريات لا يخرجها عن كونها نظرية وكذلك التفاوت في الضروريات لا يخرجها عن أن تكون ضرورية قوله: إن جمعا من العلماء التزموا وقوع الممكن لا عن سبب ولو كان فساد ذلك ضروريا لما قالوا به قلنا: إنهم لم يلزموا ذلك بل غايته أن صار ذلك لازما على مذاهبهم وليس كل ما صار لازما وجب أن يلتزمه صاحب ذلك المذهب والإشكال إنما يجيء من التزامه ما يناقض هذه القضية لا من لزومه وكذلك فإن أصحاب هذه المذاهب متى ألزمتهم وقوع الممكن لا عن سبب فإنهم يحتالون في الجواب عن ذلك سواء كانت أجوبتهم عن ذلك قوية أو ضعيفة وذلك يدل على أن العلم بذلك ضروري وأما العذر عن كل واحد من الصور التي أوردناها فنحن بعد ذلك إن شاء الله تعالى في المواضع اللائقة بها نجيب عنها قال: وبالجملة فكل مذهب يؤدي إلى القول بوقوع الممكن لا عن سبب فإحالة البطلان على ذلك المذهب أولى من إحالته على هذا الأصل المعلوم بالضرورة )
تعليق ابن تيمية
قلت: فهو إن سلك مسلك هؤلاء في بيان افتقار المحدث إلى المحدث لأنه ممكن والممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح فمسلكه اطول وأضعف بل هذا المسلك الذي سلكه باطل كما قد بسط الكلام عليه في موضع آخر
وذلك أن كون تخصيص أحد الوقتين المتماثلين بالحدوث دون الآخر يفتقر إلى مخصص أبين من كون الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح فإن المعلوم لكل أحد أن الممكن الذي لا يوجد بنفسه لا بد له من غيره فلا يترجح وجوده إلا بمرجح
أما كون عدمه لا يترجح على وجوده إلا بمرجح فهذا محل نزاع وأكثر العقلاء على نقيض ذلك وعندهم أن العدم لا يعلل ولا يعلل به كما قال ذلك من قاله من متكلمة أهل الإثبات وغيرهم ك القاضي أبي بكر وأتباعه ك أبي المعالي والقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني وغيرهم
فالجمهور يقولون: عدم الممكن لا يفتقر إلى سبب بل ليس له من ذاته وجود فإذا لم يكن ثم سبب يقتضي وجوده نفي معدوما وإذا قال القائل: عدم وجوده لعدم علة وجوده كما أن وجوده لوجود علة وجوده
قالوا له: أتعني أن نفس عدم العلة هو الموجب لعدمه كما أن العلة المقتضية لوجوده كالفاعل هو المقتضي لوجوده؟ أم تعني أن عدم العلة مستلزم لعدمه ودليل على عدمه؟
الأول ممنوع والثاني مسلم وذلك لأن عدمه لا يفتقر إلى سبب منفصل أصلا وما لا يفتقر إلى سبب منفصل لا يعلل بسبب منفصل وذاته ليست مستلزمة للعدم لتكون ممتنعة بل ليست مقتضية للوجود فعدمه مستمر إذا لم يكن هناك سبب يقتضي وجوده ولكن يستدل بعدم الموجب على عدم الموجب لأن وجوده بدون سبب محال
فإذا علمنا ان لا سبب يقتضي وجوده علمنا عدم وجوده فهذا من باب الاستدلاب وقياس الدلالة لا من باب العلة التي هي المؤثرة في عدمه في الخارج والله أعلم
وأيضا فالمعلوم بالبديهة هو أن ترجيح أحد المتماثلين من كل وجه على نظيره لا يكون إلا بمرجح كما ذكره من أن كفتي الميزان لا تترجح إحداهما على الاخرى إلا بمرجح وأن هذا معلوم بصريح العقل
وإذا كان كذلك فطريقة المتكلمين من الذي قالوا: لا يختص بوقت دون وقت إلا بمخص كما قاله القاضي أبو بكر والقاضي أبو يعلى وأبو الحسين البصري وأبو المعالي وابن عقيل وابن الزاغوني وأمثال هؤلاء من نظار المسلمين - خير من طريقة الذين احتجوا بأن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح كما فعل ذلك ابن سينا والسهروردي المقتول والرازي والآمدي وأمثال هؤلاء فإن هؤلاء بنوا ذلك على أن الممكن لا يترجح أحد طرفي وجوده وعدمه على الآخر إلا بمرجح
ومن المعلوم أن العلم يكون أحد الأمرين لا يترجح على الآخر إلا بمرجح يظهر في الأمرين المتماثلين من كل وجه كما ذكروه في كفتي الميزان فإما إذا قدرناهما متساويتين لم يترجح إحداهما على الأخرى إلا بمرجح
وكذلك الأوقات المتماثلة إذا اختص وقت عن وقت بحدوث الحادث فيه كان ذلك التخصيص تخصيصا لأحد المثلين على الآخر والتخصيص ترجيح له عليه فلا يد له من مخصص مرجح وأما الوجود والعدم فليسا متماثلين في أنفسهما وإن كان الممكن يقبل الوجود ويقبل العدم فليس وجوده مماثلا لعدمه كتماثل الكفتين والوقتين ولكن هما بالنسبة إليه جائزان وهو قابل لهما
فغاية ما يقال: إنه باعتبار نفسه ليس هو بأحدهما أولى منه بالآخر فهما بالنسبة إليه متماثلان من هذا الوجه فيكون ترجيح أحدهما مفتقرا إلى مرجح ولكن عند التحقيق يظهر أنهما بالنسبة إليه ليسا متماثلين وأنه ليس هنا حقيقتان ترجيح إحداهما على الأخرى بل ليس له نفسه وجود أصلا فهو باعتبار ذاته لا يستحق إلا العدم لا يقال: إنه لا يستحق لا الوجود ولا العدم بل إذا جردنا النظر إلى محض ذات الممكن الذي يقبل الوجود والعدم علمنا أن ذاته لا تكون موجودة بذاته
لسنا نقول: إن ذاته تستلزم العدم بحيث يكون عدمها واجبا ووجودها ممتنعا فإن هذا حقيقة الممتنع لذاته لا حقيقة الممكن لذاته ولكن نقول: إن ذاته هي باعتبار النظر إليها فقط معدومة عدما ليس واجبا بل عدما يمكن أن يتبدل بالوجود
ومما يوضح ذلك أن كل محدث فهو ممكن فإنه كان معدوما ثم صار موجودا فهو قابل للوجود والعدم ثم إنه من المعلوم لكل أحد أن المحدث لا يقال: إن عدمه يفتقر إلى سبب مرجح كما يفتقر وجوده إلى سبب مرجح بل المحدث ليس له من نفسه وجود أصلا ولا يستحق باعتبار ذاته إلا العدم أي لا يثبت له بذاته إلا العدم لا أنه يجب له بذاته العدم فالعدم ليس واجبا بذاته بل هو ثابت بذاته
وقولي: ثابت بذاته ليس هو إخبارا عن شيء ثابت في الخارج وذات فإن المعدوم ليس له في الخارج ذات ثابتة بل حقيقة الأمر أنه ليس له في الخارج شيء موجود من ذاته ولكن هو ممكن الوجود من غيره فهو مفتقر إلى غيره في كونه موجودا لا في كونه معدوما
وإذا قال قائل: إن الممكن - أو المحدث - يفتقر في عدمه إلى عدم السبب الموجب
قيل له: وعدم ذلك السبب الموجب: إما أن يكون واجبا وأما أن يكون ممكنا فإن كان واجبا لزم أن يكون عدم كل ممكن واجبا فتكون جميع الممكنات ممتنعة لأن عدم كل ممكن على هذا التقدير معلول بعدم واجب وإذا كان معدوما لعدم علته وعدم علته واجبا كان عدمه واجبا وهذا معلوم الفساد بالبديهة
وإن قيل: إن عدم العلة ممكن فإن كان معدوما بنفسه أمكن أن يكون الممكن معدوما بنفسه لا بعلة وهو المطلوب وإن كان معدوما بعلة كان القول في تلك العلة كالقول في الأخرى ويلزم من هذا أن يكون عدم كل ممكن معللا بعدم ممكن آخر
وهذا باطل لوجوه: منها: أنه ليس تعليل عدم هذا بعدم هذا بأولى من العكس فإن كل ممكن مفتقر إلى المرجح المؤثر سواء سمي فاعلا أو علة أو موجبا أو سببا أو ما سمي به
فإذا قيل: عدم هذا الممكن لعدم مؤثره وعدم ذلك المؤثر لعدم مؤثره كان كل منهما مساويا للآخر في الافتقار إلى المؤثر فليس أن يكون عدم أحدهما لعدم الآخر المفتقر عدما إلى المؤثر بأولى من أن يكون عدم ذاك لعدم هذا المفتقر عدمه إلى المؤثر مع استوائهما في ذلك
منها: إذا كان عدم هذا لعدم ذاك وعدم ذاك لعدم آخر فالعدم الثالث إن كان هو الأول لزم الدور القبلي وإن كان غيره لزم التسلسل في العلل والمعلولات وكلاهما ممتنع
فهذا كله مما يببين أن عدم الممكن ليس مفتقرا إلى المؤثر كافتقار وجوده إلى المؤثر فليس ترجيح وجوده على عدمهه كترجيح إحدى كفتي الميزان وترجيح أحد الزمانين بالحدوث على الآخر فإنه هناك رجح الشيء على مثله بلا مرجح ونسبة الحادث إلى هذا الزمان كنسبته إلى هذا ونسبة الرجحان إلى هذه الكفة كنسبته إلىهذه بخلاف الوجود والعدم يالنسبة إلى الممكن فإن ليس رجحان الوجود كرجحان العدم
ومما يبين هذا أن المرجح للوجود في الممكن ليس هو المرجح للعدم لا مثله ولا من جنسه فإن المرجح للوجود مؤثر موجود والمرجح للعدم عدم المؤثر وليس الوجود هو العدم ولا مثله ولا من جنسه فليس المرجح لأحد طرفي الممكن هو المرجح للآخر ولا مثله ولا من جنسه ولا يمكن ذلك فيه بخلاف المرجح لإحدى كفتي الميزان والمخصص لوقت دون وقت بالحدوث فإنه يمكن أن يكون هو الآخر لتغير صفته أو ما يكون من جنس بالآخر
وأيضا فترجيح سائر صفات الحادث والممكن على الأخرى ليست كترجيح الوجود على العدم بل هي أقرب إلى ترجيح الوقت على الوقت كتخصيصه بقدر دون قدر ووصف دون وصف ومكان دون مكان ونحو ذلك فإن هذا إلى تخصيصه لوقت دون وقت أقرب منه إلى تخصيصه بالوجود دون العدم
فتبين بذلك أن طريقة أولئك النظار من متكلمة المسلمين مع كونهم سلكوا فيها من التطويل والتبعيد ما لا يحتاج إليه بل ربما كان فيه مضرة خيرا من طريقة هؤلاء الذي استدلوا بترجيح أحد طرفي الممكن
ثم إن ابن سينا وأمثاله كانوا خيرا فيها من الرازي والآمدي وأمثالهما والرازي فيها خير من الآمدي كما قد ذكر في غير هذا الموضع وهذا لو قدر أن هذه الطريقة - طريقة ابن سينا ومن اتبعه ك الرازي ونحوه - طريقة صحيحة فكيف إذا كانت باطلة؟ ! كما قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع وبينا أن هذه الطريقة لا تدل على إثبات وجود واجب ثابت في الخارج مغاير للممكن أصلا ولو دلت على ذلك لم تدل على أنه مغاير للأفلاك ونحوها
ولهذا كان من سلك هذه الطريقة لا يمكنه أن يثبت بها الصانع ولو أثبت بها الصانع لم يمكنه أن يجعله شيئا غير الأفلاك فضلا عما يدعونه من نفي التركيب الذي جعلوه دليلا على نفي الصفات
وذلك أن هؤلاء بنوا هذه الطريقة على أن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن وأن الممكن لابد له من واجب فاحتاجوا إلى شيئين: إلى حصر القسمة في الواجب والممكن وأن الممكن يستلزم الواجب
ولفظ ( الواجب ) فيه إجمال قد يراد به الموجود بنفسه الذي لا فاعل له فتدخل فيه - إذا كان ذاتا موصوفة بالصفات - ذاته وصفاته
ويراد به القائم بنفسه مع ذلك فتدخل فيه الذات دون الصفات ويراد به المبدع للممكنات فلا تدخل فيه إلا الذات المتصفة بالصفات
ويراد به شيء منفرد ليس بصفة ولا موصوف فهذا يمتنع وجوده ولم يفهموا دليلا على وجوده فضلا عن أن يكون واجب الوجود
فإذا قالوا: نعني بالواجب ما لا تقبل ذاته العدم وبالممكن ما تقبل ذاته العدم
قيل لهم: أثبتوا وجود ممكن تقبل ذاته العدم لتحتاج إلى الواجب ولما قيل لهم ذلك لم يثبتوه إلا بإثبات الحوادث التي تكون موجودة تارة ومعدومة أخرى
وهذا صحيح فإن الحوادث مشهودة وافتقارها إلى المحدث معلوم الضرورة لكنهم لم يسلكوا هذا المسلك فإن هذا إنما يثبت وجود قديم أحدث الحوادث
والممكن عندهم يتناول ما يكون قديما ومحدثا فالقديم الأزلي عندهم يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم
وهذا القول قاله ابن سينا واتبعه هؤلاء وخالفوا به جميع العقلاء حتى أرسطو وأصحابه وحتى خالفوا أنفسهم وتناقضوا فإن ابن سينا وأتباعه صرحوا في غير موضع بأن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا محدثا لا يكون قديما أزليا وأن ما كان قديما أزليا لم يكن إلا واجبا ضروريا يمتنع عدمه
فهذا القول باطل وإن قدر صحته فلا يتمكن إثباته إلا بكلفة ونظر دقيق ومعلوم أن العلم بواجب الوجود الصانع للممكنات لا يتوقف على العلم بكون القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه قد يكون مممكنا يقبل الوجود والعدم فهم يقولون: إذا أثبتنا قديما نحتاج بعد ذلك إلى أن نثبت أنه واجب الوجود لا ممكن الوجود لأن القديم يحتمل الأمرين
وهذه طريقة الرازي التي اعتمد عليها في عامة كتبه ك الأربعين ونهاية العقول والمطالب العالية وغيرها من كتبه
فهؤلاء إذا قيل لهم أثبتوا واجب الوجود الذي هو قسيم الممكن عندهم والممكن عندهم يتناول القديم والحادث لم يمكنهم إثبات هذا الواجب إلا بإثبات ممكن يقبل الوجود والعدم وهذا لا يمكنهم إثباته إلا بإثبات الحادث الذي يكون موجودا تارة معدوما أخرى؟ والحادث يسلتزم ثبوت القديم والقديم عنده لا يجب أن يكون واجب الوجود بل قد يكون ممكن الوجود فهم لم يثبتوا: لا واجب الوجود ولا ممكن الوجود الذي به يثبت واجب الوجود الذي ادعوه
ثم إذا قدر أنهم أثبتواوجود واجبا فهم لم يقروا أنه واحد وأنه مغير للأفلاك إلا بدعوى أن الواجب لا يكون مركبا لأن المركب يفتقر إلى أجزائه وما افتقر إلى أجزائه لم يكن واجبا
ومعلوم أن هذا إنما ينفي وجوب واجب بمعنى أنه منفرد ليس بصفة ولا موصوف وأن مثل هذا يمتنع أن يكون موصوفا مع أن الغرض أنه ليس بموصوف ولكن هذا الواجب لم يقم دليل على وجوده بل ولا على إمكانه وإنما يقوم الدليل على امتناعه يراد به افتقار المفعول إلى فاعله والمعلوم إلى علته الفاعلة وإنما يراد به أنه يلزم من وجود المركب وجود أجزائه فيلزم من وجود الذات المتصفة بصفات وجود الذات والصفات
وهذا لا محذور فيه وحقيقته أنه يلزم من كون الشيء موصوفا كونه موصوفا ومن كونه مركبا كونه مركبا وهذا كلام صحيح وليس فيه ما يدل على امتناع ذلك وقد بسط هذا فيغيره هذا الموضع
وقد تفطن الغزالي وغيره لبعض ما به يفسد كلامهم وقد تكلمنا على ذلك وعلى أنواع أخر ممما يتبين به بطلان كلامهم
والمقصود هنا بيان أن طريقة أولئك خير من طريقة هؤلاء وهذا كله مما يبين أن كل من كان إلى الإسلام أقرب فإن عقلياته في الأمور الإلهية أصح من عقليات من كان على الإسلام أبعد منه إلا حيث يكون قد اتبع في عقليانه من هو عن الإسلام أبعد منه هذا كله بين لمن تدبره ومن تدبر كلام هؤلاء وكلام هؤلاء وجد كلام متكلمي المسلمين خيرا من كلام متكلمي الفلسفة ومبتعيهم
وهذه الطريقة هي طريقة ابن سينا وأتباعه لم يسلكها أرسطو وقدماء الفلاسفة
كلام ابن سينا وتعليق ابن تيمية
وقد قال ابن سينا في الإشارات: ( ما حقه في نفسه الإمكان فليس يصير موجودا من ذاته فإنه ليس وجوده من ذاته أولى من عدمه من حيث هو ممكن فإن صار أحدهما أولى فلحضور شيء أو غيبته فوجود كل ممكن الوجود من غيره )
فقوله: ( ما حقه الإمكان فليس يثير موجودا من ذاته ) قضي صحيحة وهي بينة بنفسها فإن الممكن هو الذي يكون وجوده بنفسه فإذا قيل: ما لا يكون وجوده بنفسه فوجوده من غيره كان هذا من القضايا البينة ولكن هذا لا يعرف بل ولا يثبت إلا في الأمور الحادثة التي تكون موجودة تارة ومعدومة أخرى كما اعترف هو وسلفه وسائر العقلاء لأن ما يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثا وقد ذكرنا ألفاظه وألفاظ غيره في غير هذا الموضع ولم يمكنهم إقامة دليل على الافتقار إلى الفاعل إلا في المحدث
وأما استدلاله على ذلك بقوله: ( فليس وجوده في ذاته أولى من عدمه من حيث هو ممكن ) فهذا لا يحتاج إليه وهو متنازع فيه وهو لم يقم عليه دليلا بل يقال: هو العدم باعتبار ذاته أولى به من الوجود بل هو باعتبار مجرد ذاته لا يستحق إلا العدم بل يقال: هذا باطل فإن ما كان يفتقر إلى فاعل يفعله يعلم بالضرورة أنه لا يوجد إلا بالفاعل الذي فعله وأما عدمه فلا يفتقر فيه إلى شيء وكل ما كان يمكن وجوده وعدمه لا يكون وجوده إلا بموجد يوجده وأما عدمه فلا يحتاج فيه إلى شيء
وقوله: ( فإن صار أحدهما فلحضور شيء او غيبته ) هو أيضا مما لا يحتاج إليه ولا بينه ولا هو مسلم بل هو باطل إذ كان الممكن إنما يفتقر إلى غيره إذا كان موجودا فأما ما كان مستمرا على العدم فلا يحتاج دوام عدمه إلى شيء وحقيقة كلامه أنه صار الوجود فلحضور غيره وإن صار العدم فلغيبة غيره فيكون إنما عدم لغيبة سببه وهذا كما قد عرف كلام ليس ببين وهو متنازع فيه بل هو باطل وعند التحقيق تبين أن عدم الغير مستلزم لعدمه ودليل على عدمه لا أنه الموجب لعدمه
وكلام القاضي أبي بكر وأبي الحسين البصري وأمثالهما في هذا الباب هو أصرح في المعقول بل هو صواب وهذا خطأ وإن كان أولئك مقصرين من وجه آخر حيث استولوا على الواضح بالخفي
وأما ابن سينا وأتباعه ك الرازي وغيره فدليلهم باطل ولم يثبتوا وجودا واجبا بل تكلموا في تقسيم الوجود إلى واجب وممكن بكلام ابتدعوه خالفوا به سلفهم وسائر العقلاء ونقضوا به أصولهم التي قرروها بالعقل الصريح فإن أبا الحسين يقول: ( الدليل على أن للمحدث محدثا هو أنه لا يخول: إما أن يكون حدث وكان يجوز أن لا يحدث أو كان يجب أن يحدث فلو حدث مع وجوب أن يحدث لم يكن بأن يحدث في تلك الحال أولى من ان يحدث من قبل فلا يستقر حدوثه على حال إذ كان حدوثه واجبا في نفسه
وإن حدث مع جواز أن لا يحدث لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث لولا شيء اقتضى حدوثه )
فقد بين أن الحادث إن كان واجب الحدوث بنفسه لم يختص بوقت دون وقت إذ الواجب بنفسه لا يختص بوقت دون وقت وإذا لم يختص يجب أن لا يحدث في بعض الأوقات والتقدير أنه حدث في بعض الأوقات وأيضا فالتخصيص بوقت دون وقت لا بد له من مخصص وإن كان ممكن الحدوث بحيث يكون قد حدث وكان من الممكن أن لا يحدث لم يكن بالحدوث أولى منه بعدم الحدوث لولا شيء اقتضى حدوثه
فقول أبي الحسين: ( لم يكن وجود الحدوث أولى من عدم الحدوث لولا مقتض اقتضى الحدوث ) يبين أن رجحان وجود الحدوث على عدم الحدوث يفتقر إلى مقتض لترجيح الحدوث على عدم الحدوث
فكانت هذه الطريقة مع طولها خيرا من طريقة ابن سينا والرازي وأمثالهما لو كانت تلك صحيحة من وجهين: أحدهما: أن افتقار رجحان المحدث على عدمه إلى مقتض أبين في المعقول من افتقار كل ممكن فإن الممكن الذي يقدر أنه ليس بمحدث قد نازع طوائف من الناس في ثبوته وفي إمكان كونه معلولا لغيره ونحو ذلك بل عامة العقلاء على امتناعه والذين يثبتونه يعترفون بامتناعه والعقل الصريح يدل على امتناعه ولم يقيموا دليلا على تحقيقه ولا على افتقاره إلى واجب وعلى إثبات واجب يكون قسيما له
وأما المحدث الذي كان بعد عدمه لم ينازع هؤلاء ولا عامة العقلاء في أنه لا يترجح وجودهه على عدمه إلا بمقتض فكان الاستدلال بترجيح وجود المحدث على عدمه أولى من الاستدلال برجحان وجود كل ممكن لو قدر أن الممكن أعم من المحدث فكيف أذا لم يكون الممكن إلا محدثا؟
الثاني: أنه قال: ( لم يكن بالحدوث أولى منه بالعدم لولا شيء اقتضى حدوثه ) فبين أن رجحان الوجود على العدم لا يكون إلا بمقتض لم يقل: إن رجحان أحد الطرفين على الآخر لا يكون إلا بمرجح وهذا الذي قاله أبو الحسين متفق عليه بين الطوائف وهو بين في العقل ضروري فيه بخلاف ما قاله أولئك فإن فيه نزاعا واضطرابا وليس هو بينا في العقل بل الصواب يقتضيه
وكذلك أبو الحسين يقول دائما: ( ما كان موجودا على طريق الجواز لم يكن بالوجود أولى منه بالعدم لولا فاعل ) وهذا كلام صحيح ولكن ابن سينا إنما أخذ هذه الطريق التي سلكها من كتب المعتزلة ونحوهم من متكلمي الإسلام وأراد تقريبها إلى مذهب سلفه الفلاسفة الدهرية ليصير كلامه في الإلهيات مقربا لجنس كلام متكلمي المسلمين ثم يأخذ المواضع التي خالف فيها المتكلمون للشرع والعقل فيستدل لها على ما نازعوه فيه مما وافقوا فيه دين المسلمين وهذا كما فعلت إخوانه الباطنية مثل صاحب كتاب الأقاليد الملكوتية ونحوه فإنهم عمدوا إلى كل طائفة من طوائف القبلة فأخذوا منها ما وافقوهم فيه من المقدمات المسلمة التي غلط فيها أولئك فبنوا عليها لوازمها التي تخرج أولئك عن دين المسلمين وناظروا بذلك المعتزلة وأمثالهم كما قالوا للمعتزلة: أنتم سلمتم لنا نفي التشبيه والتجسيم ونفيتم الصفات بناء على ذلك ثم أثبتم الأسماء الحسنى لله تعالى والتشبيه يلزم في الأسماء كما يلزم في الصفات فإذا قلتم: إنه حي عليم قدير لزم في ذلك من التجسيم والتشبيه نظير ما يلزم في إثبات الحياة والعلم والقدرة وأردتم إثبات أسماء بلا صفات وهذا ممتنع وإذا كنتم قد وافقتم على نفي الصفات وهي لازمة للأسماء فنفي اللازم يقتضى نفي الملزوم فيلزمكم نفي الأسماء ولهذانظائر في كلامهم
فابن سينا وجد في كتب متكلمي المسلمين من المعتزلة وأشباههم أن تخصيص أحد المتماثلين على الآخر لا يكون إلا بمخصص كما في تخصيص الحدوث بوقت دون وقت وهذا مما جعله هؤلاء أصلا لهم في إثبات العلم بالصانع
فأخذ ابن سينا كلام هؤلاء ونقله إلى ماده الإمكان والوجوب وأن الممكن لا يترجح إلا بمرجح لئلا يناقض قوله في قدم العالم ويقول: إنه معلول علة قديمة مستلزمة له ونسى ما قرره في المنطق هو وسلفه من أن الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا حادثا وأن الدائم الأزلى والأبدي لا يكون إلا ضروريا واجبا لا يكون ممكن الوجود والعدم وهذا الذي ذكروه في المنطق متفق عليه بين العقلاء
وأخذ قولهم الضعيف في أن القادر المختار يحدث الحوادث بلا سبب حادث جعله له حجة على قدم العالم بناء على مطالبتهم بسبب الحدوث وكان ما يلزمه ويبين فساد قوله أعظم مما يلزمهم ويبين فساد قولهم فإنه إذا كان العالم صادرا عن علة مستلزمة له والعلة المستلزمة لا يتأخر عنها شيء من معلولها لزم أن لا يحدث في العالم شيء من الحوادث أو أن تكون الحوادث حدثت بلا محدث وفي ذلك من الترجيح بلا مرجح ما هو أعظم مما بنوا عليه وجود الواجب فيلزمهم على قولهم بطلان ما أثبتوا به واجب الوجود وبطلان الاستدلال بالحدوث على المحدث وبالممكن على الواجب وأن تكون الحوادث حدثت بلا محدث أصلا
وذلك أعظم من قول أولئك: حدثت عن قادر مختار بدون سبب حادث وهؤلاء أصل قولهم: إن العلة التامة يقارنها معلولها في الزمان كما جعلوا الفلك القديم الأزلي عندهم مقارنا لعلته في الزمان وقابلوا لذلك قول المتكلمين الذي قالوا: بل المؤثر التام يتأخر عنه أثره
والصواب أن المؤثر التام يتعقبه أثره لا يقارنه ولا يتراخي عنه كما قال تعالى { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون }
ولهذا يقال: كسرته فانكسر وقطعته فأنقطع وطلقت المرأة فطلقت وعتقت العبد فعتق وعلى هذا فيلزم حدوث كل ما سوى الرب تعالى لأن ما كونه لا يكون إلا بعد تكوينه لا مع التكوين
وهم إذا قالوا: إن المكون مع التكوين لزمهم أن لا يحدث شيء من العالم وهو خلاف المشاهدة فإن الأول إذا كان علة تامة والعلة التامة يقارنها معلولها وكل ما ساواه معلوله كان الجميع قديما
ولزمهم أيضا أن كل ما حدث يحدث عند حدوثه تمام علل لا نهاية لها وذلك في آن واحد وذلك ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء
وقد ذكر ابن سينا أن هذه الطريقة التي سلكها في إثبات واجب الوجود ولوازمه هي غير طريقة سلفه الفلاسفة بل هي طريقة محدثة وهذا مما يبين أنه ركبها مما أخذه عن المعتزلة ونحوهم من متكلمة الإسلام ومن أصول سلفه الفلاسفة والذي أخذه عن متكلمة الإسلام أقرب إلى الحق مما أخذه عن سلفه في ذلك لأنه أخذ عنهم أن تخصيص أحد الشيئين المتماثلين المحدثين دون الآخر لا بد له من مخصص وهذا حق
فأخذ من ذلك أن تخصيص الممكن بالوجود لا بد له من موجب وهذا حق لكن قد ينازعونه في أن الممكن: هل يمكن أن يكون قديما أم لا؟ فإنهم - وعامة العقلاء - يقولون: الممكن لا يكون إلا محدثا وهو - وسلفه - يسلمون لهم ذلك
وأيضا فإن أبا الحسين وأمثاله يقولون: الموجود على طريق الجواز ليس بالوجود أولى منه بالعدم لولا الفاعل ويقولون: إنه يستحيل ان يوجب القديم بالفاعل لأن المعقول من الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم وليس للقديم حال عدمية
ولهذا يقولون: إن وجود القديم واجب وليس بأن يجب وجوده في حال أولى من حال فصح أنه واجب الوجود في كل حال فاستحال عدمه
وضم ابن سينا وأتباعه إلى ذلك أن الممكن لا يكون معدوما إلا بسبب وهذا مما نازعه فيه الجمهور حتى إخوانه الفلاسفة نازعوه في ذلك
وهذا الذي ذكرته من أن ابن سينا أخذ هذه الطريق عن المتكلمين رأيته بعد ذلك قد ذكره ابن رشد الحفيد ذكر في كتابه الذي سماه تهافت التهافت فإن أبا حامد الغزالي ذكر ذلك في كتابه المسمى بتهافت الفلاسفة مسألة في بيان عجز الفلاسفة عن الاستدلال على وجود الصانع للعالم
كلام الغزالي عن عجز الفلاسفة عن الاستدلال على وجود الصانع للعالم
قال: ( فنقول: النسا فرقتان: فرقة أهل الحق وقد رأوا أن العالم حادث وعلموا ضرورة أن الحادث لا يوجد بنفسه فافتقر إلى صانع فعقل مذهبهم في القول بالصانع
وفرقة أخرى هم الدهرية وقد رأوا العالم قديما ثم كما هو عليه ولم يثبتوا صانعه ومعتقدهم مفهوم وإن كان الدليل يدل على بطلانه
فأما الفلاسفة فقد رأوا قديما ثم أثبتوا مع ذلك له صانعا )
قال: ( وها المذهب بوضعه متناقض لا يحتاج إلى إبطال )
رد ابن رشد على الغزالي في تهافت التهافت
قال ابن رشد الحفيد: ( بل مذهب الفلاسفة مفهوم في الشاهد أكثر من المذهبين جميعا وذلك أن الفاعل قد يلقى صنفين: صنف يصدر منه مفعول يتعلق به فعله في حال كونه وهذا إذا تم كونه استغنى عن الفاعل كوجود البيت عن البناء والصنف الثاني إنما يصدر عنه فعل فقط يتعلق بمفعول لا وجود لذلك المفعول إلا بتعلق الفعل به وهذا الفاعل يخصه أن فعله مساوق لوجود ذلك المفعول أعني أنه إذا عدم ذلك الفعل عدم المفعول وإذا وجد ذلك الفعل وجد المفعول أي هما معا وهذا الفاعل أشرف وأدخل في باب الفاعلية من الأول لأنه يوجد مفعوله ويحفظه والفاعل الآخر يوجد مفعوله ويحتاج إلى فاعل آخر يحفظه بعد الإيجاد وهذه حال المحرك مع الحركة والأشياء التي وجودها إنما هو في الحركة والفلاسفة لما كانوا يعتقدون أن الحركة فعل الفاعل وأن العالم لا يتم وجوده إلا بالحركة قالوا: إن الفاعل للحركة هو الفاعل للعالم وأنه لو كف فعله طرفة عين عن التحريك لبطل العالم فعلموا قياسهم هكذا: العالم فعل أو شيء وجوده تابع لفعل وكل فعل لا بد له من فاعل موجود بوجوده فأنتجوا من ذلك أن العلم له فاعل موجود بوجوده فمن لزم عنده أن يكون الفعل الصادر عن فاعل العالم حادثا قال: العالم حادث عن فاعل لم يزل قديما وفعله قديم أي: لا أول له ولا آخر لا أنه موجود قديم بذاته كما تخيل لمن يصفه بالقدم )
تعليق ابن تيمية
قلت: ولقائل أن يقول: هذا الذي ذكره ابن رشد عن الفلاسفة أراد به تقرير طريقة أرسطو وأتباعه الذين استدلوا بالحركة على وجود المحرك الذي لا يزال محركا غير متحرك ويسمونه الأول وهو الواجب الوجود عند ابن سينا وأتباعه
وأما من قبل ابن سينا من الفلاسفة فلا يخصونه بواجب الوجود إذ كل قديم فهو عندهم واجب الوجود فلا يخصه بواجب الوجود إلا من يقول: لا قديم إلا هو وليس هذا قول أرسطو وأتباعه وإن كان هو مذهب جماهير العقلاء من أهل الملل وغيرهم
كلام أرسطو وأتباعه
وكلام أرسطو وأتباعه باطل من وجوه :
الوجه الأول
أن هؤلاء لم يجعلوا الأول فاعلا للحركة الفلكية إلا من حيث هو محبوب معشوق يتشبه به الفلك لا من حيث هو مبدع محدث للحركة ومعلوم أن المحبوب المتحرك إليه من غيره بالمحبة له والشوق لا سيما إذا كان محبا للتشبيه به لا لذاته كما يتشبه المأموم بإمامه لا يكون هو المبدع المحدث للحركة بمجرد ذلك وإنما يكون علة غائية لا علة فاعلية فلم يثبتوا الواجب الوجود بنفسه فاعلا لشيء من الحوادث كما قد بسط في موضعه
وأرسطو وأتباعه معترفون بأن الأول عندهم لا يفعل شيئا ولا يعلم شيئا ولا يريد شيئا
الوجه الثاني
أنه بتقدير أن يثبتوه محدثا مبدعا للحركة التي لا قوام للفلك والعالم إلا بها كما قد يدعي ذلك ابن رشد وأمثاله فإنما يكون فاعلا لما هو شرط في وجود العالم لا يكون فاعلا لنفس جواهر العالم وسائر أعراضه بل هو فاعل لعرض واحد من أعراضه وهي الحركة التي زعموا أنه لا قوام له بدونها وهذا من أبعد الأشياء عن كونه مبدعا للعالم ولاسيما إذا جعلوا فعله للحركة من جهة كونه محبوبا فهو بمنزلة كون كل محبوب يبدع المحب الذي لا يقوم بدون تلك المحبة بل بمنزلة كون الإمام المقتدى به مبدعا للمؤتم به من جهة كونه يحتاج إلى الأئتمام به
ومعلوم أن هذا لا يقوله عاقل بل هذا يتضمن أن واجب الوجود - كالفلك عند أرسطو وأتباعه - يفتقر إلى شيء بائن عنه وذلك يدل على فساد قولهم فما قاله أرسطو وأتباعه من الحق يدل على فساد قول المتأخرين وما قاله المتأخرون من الحق في الواجب يدل على فساد قول أرسطو وأتباعه
الوجه الثالث
إن كون العالم لا يمكن وجوده بدون الحركة أمر لا دليل عليه بل هو باطل وأقصى ما يمكن أن يقال: يمكن وجوده لكن يكون ناقصا ومعلوم أن هذا حال سائر المخلوقات التي لها صفات كمال إذا عدم بعض صفاتها إنما يلزم نقصها لا يلزم عدمها
الوجه الرابع
أنه ادعى أن هذا الفاعل أشرف من الفاعل الذي فعل البناء ونحو
فيقال: إن ادعيت أن ما يفعل حركة في غيره أشرف مما يفعل التأليف القائم به فهذا غير مسلم لا يسما إذا كان فعل ذلك بجهة كونه محبوبا أو مؤتما به وهذا مبدع لنفس التأليف القائم بغيره ومعلوم أن حاجة المؤلف إلى التأليف قائم به أعظم من حاجة المتحرك إلى الحركة القائمة به وأن تغير ذات المؤلف إذا انتفض تأليفه أبين من انتقاض ذلك المتحرك إذا والت حركته فإذا جعلتم فاعل الحركة فاعلا ففاعل التأليف أولى أن يكون فاعلا وهذا أمر مشهود ليس من جمع الأجزاء المتفرقة وجعلها شيئا واحدا كمن حرك الشيء الساكن لاسيما إذا كان تحريكه كتحريك الخبز للجائع والماء للعطشان والمرأة للرجل والرجل للمرأة فكيف إذا كان كتحريك الإمام للمؤتم به؟
وإن قال: إن ذلك الفاعل للحركة يفعلها دائما وفاعل التأليف لا يفعله إلا حال إحداثه وهذا هو الوجه الذي قصده
فيقال له: ليس في الشاهد أمر يفعل الحركة التي لا قوام للمتحرك إلا بها دائما
فقولك: إن مذهب الفلاسفة مفهوم في الشاهد أكثر من المذهبين وذلك أن الفاعل قد يصدر منه مفعول يتعلق به فعله في حال كونه وقد يصدر عنه فعل يتعلق بمفعول لا وجود لذلك المفعول إلا بتعلق الفعل به وهذا الفاعل يخصه إن فعله مساوق لوجود ذلك المفعول وهذه حال المحرك مع الحركة والأشياء التي وجودها إنما هو في الحركة
فيقال لك: ليس فيما نشاهده شيء من هذا الصنف الثاني وإنما الفاعل المشاهد هو من النمط الأول
وإن قلت: إن النفس تحرك البدن بهذا الاعتبار
فيقال لك: كون النفس وحدها هي المحركة للبدن دون أن يكون هناك سبب للحركة أمر لو كان حقا لم يكن من المشاهدات
وأيضا فالنفس لا يقول عاقل: إنها هي الفاعلة للبدن
وأيضا فكل من النفس البدن شرط في حركة الآخر
الوجه الحامس
أن يقال: نحن نسلم أن الفاعل الذي نفتقر إليه المفعول دائما أكمل مممن لا يفتقر إليه إلا حال حدوثه لكن إذا قيل: إن المخلوقات مفتقرة إلى الخالق دائما كان هذا قولا صحيحا وليس هذا نظير ما ذكرته من الصنفين بل لو قيل: إنه يفعل تأليف العالم دائما وأن تأليفه لا يقوم إلا به كان هذا خيرا من قول سلفك: إنه يفعل حركة العالم دائما لو كانوا قائلين بذلك فكيف وحقيقة قولهم: إنه لا يفعل شيئا؟
فأنت لو جعلته من الصنف الأول من الفاعلين الذين يفعلون تأليف المؤلفات كان خيرا من أن تجعله فاعلا للحركات لكن الفاعل الدائم للفعل الذي يحتاج إليه المفعول دائما أكمل ممن لا يفتقر إليه المفعول إلا في حال حدوثه فإذا جعلته فاعلا للتأليف وهو محتاج إليه دائما كان خيرا من أن تجعله فاعلا للحركة فكيف ولم تجعلوه فاعلا إلا من جهة كونه متشبها به فقط؟
الوجه السادس
أن يقال: العالم ليس فيه مخلوق يشهد أنه فاعل لشيء منفصل عنه من كل وجه لا عين ولا صفة فإن فاعل التأليف في غيره كالبناء والخياط والكاتب ونحوهم غاية فعله تأليف تلك الأجسام مع أن كثيرا من متكلمة الإثبات كالأشعري ومن وافقه يقولون: ليس فعله إلا ما قام به في محل قدرته وما خرج عنه ليس فعله
والقائلون بالتولد يقولون: بل ذلك التأليف فعله والقول الوسط: أن التألف حادث بسبب فعله القائم به وبسبب ما في الأجزاء المؤلفة من قبول التأليف وحفظه ولهذا لم تكن الأجزاء محتاجة إلى الإنسان المحدث لتأليفها بعد التأليف لأنها تمسك التأليف بما فيها من اليبس والقوة التي جعلها الله فيها وتلك لا حاجة إليه فيها فالذي أحتيج إليه إنما هو مجرد فعله القائم به فقط
وأما مبدع العالم فهو المبدع لأعيانه وأعراضه وحركاته فليس له نظير إذ هو سبحانه ليس كمثه شيء: لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله
وأما ما ذكره هو من إثبات مخلوق محدث لحركة تقوم بغيره لا يقوم إلا بها والمخلوق يحدثها دائما فليس هذا بمشاهد في الفاعلين والمثل الذي ضربه لقوله وقولهم وإن لم يكن مطابقا ولس في المشاهدات ما يكون فعله كفعل الرب تعالى ولا فعل كفعله - فقولهم أقرب من قوله لأنه موجود في العالم وهو أقرب إلى الفاعل المطلق
فقوله: ( إن الفاعل الذي يوجد مفعوله ويحفظه أشرف وأدخل في باب الفاعلية من الفاعل الذي يوجد مفعوله ويحتاج إلى فاعل آخر يحفظه بعد الإيجاد ) كلام صحيح لكن ليس هو مطابقا لقول إخوانه الفلاسفة فإنهم لم يثبتوا أنه فاعل لجوهر العالم ولأعراضه بل غاية ما جعلوه فاعلا للحركة ثم لم يجعلون فاعلا لها إلا من جهة كونه علة غائية لكون الفلك يقصد التشبه به وهذا القدر لا يوجب أن يكون هو الفاعل
وأما أولئك فأثبتوا أنه فاعل لجواهر العالم ثم من قال من المتكلمين المعتزلة ونحوهم إن المحدثات لا تحتاج إلى الفاعل المحدث إلا في حال الحدوث لا في حال البقاء فقوله - مع فساده - أرجح من قول الفلاسفة لكونهم أثبتوا فاعلا حقيقة
فأما قول أهل السنة وجماهير أهل الملة الذي يقولون: إن المخلوقات محتاجة إلى الخالق في حال الحدوث وحال البقاء فهذا أكمل من قولهم من كل وجه وإذا ضم إلى ذلك أنه إلههم الذي يعبدونه ويحبونه وأنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا تبين بذلك أن العالم محتاج إليه من جهة كونه ربا فاعلا ومن جهة كونه إلها محبوبا معبودا
وفي هذا من التفاضل بينه وبين قول سلفه الفلاسفة ما لا يخفى على أضعف الناس نظرا
بقية كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة
قال الغزالي: ( فإن قيل: نحن إذا قلنا للعالم صانع لم نرد به فاعلا مختارا يفعل بعد أن لم يكن يفعل كما يشاهد في أصناف الفاعلين من الخياط والنساج والبناء بل نعني به علة العالم ونسميه المبدأ الأول على معنى أنه لا علة لوجوده وهو علة لوجود غيره فإن سميناه صانعا فبهذا التأويل وثبوت موجود لا علة لوجوده يقوم عليه البرهان القطعي على قرب فإنا نقول: العالم موجود والموجود إما أن يكون له علة وإما أن يكون لا علة له فإن كان له علة فتلك العلة لها علة ام لا علة لها؟
وهكذا القول في علة العلة فإما ان تتسلسل إلى غير نهاية وهو محال وإما أن تنتهي بالآخر إلى علة أولى لا علة لوجودها فنسميه المبدأ الأول وإن كان العالم موجودا بنفسه لا علة له فقد ظهر المبدأ الأول فإما لم نعن به إلا موجودا لا علة له هو ثابت بالضرورة
نعم لا يجوز أن يكون المبدأ الأول هو السماوات لأنها عدد ودليل التوحيد يمنعه فيعرف بطلانه بنظر في صفة المبدأ ولا يجوز أن يقال: إنه سماء واحد أو جسم واحد أو شمس أو غيره لأنه جسم والجسم مركب من الهيولى والصورة والمبدأ الأول لا يجوز أن يكون مركبا وذلك يعرف بنظر ثان
والمقصود أن موجودا لا علة لوجوده ثابت بالضرورة والاتفاق - وإنما الخلاف في الصفات - وهو الذي نعنية بالمبدأ الأول )
قال الغزالي: ( والجواب من وجهين: أحدهما: أنه يلزم على مساق مذهبكم أن تكون أجسام العالم قديمة لذلك لا علة لها وقولكم إن بطلان ذلك يعلم بنظر ثان فيبطل ذلك عليكم في مسألة التوحيد ونفي الصفات بعد هذه المسألة
الوجه الثاني: وهو الخاص بهذه المسألة هو أن يقال: نثبت تقديرا أن هذه الموجودات لها علة ولكن علتها علة ولعلة العلة علة كذلك وهكذا إلى غير نهايتة
وقولكم: أنه يستحيل إثبات علل لا نهاية لها لايستقيم منكم فإنا نقول: عرفتم ذلك ضرورة بغير واسطة او عرفتموه بواسطة؟ لا سبيل إلى دعوى الضرورة وكل مسلك ذكرتموه في النظر يبطل عليكم بتجويز حوادث لا أول لها وإذا جاز أن يدخل في الوجود ما لا نهاية له فلم يبعد أن يكون بعضها علة لبعض وينتهي من الطرف الآخر إلى معلول لا معلول له ولا ينتهي في الجانب الآخر إلى علة لا علة لها؟ كما أن الزمان السابق له آخر وهو الآن ولا أول له
فإن زعمتم أن الحوادث الماضية ليست موجودة معا في الحال ولا في بعض الأحوال والمعدوم لا يوصف بالتناهي وعدم التناهي فيلزمكم النفوس البشرية المفارقة للأبدان فإنها لا تفنى عندكم والموجود المفارق للبدن من النفوس لا نهاية لأعدادها إذ لم تزل نطفة من إنسان وإنسان من نطفة إلى غير نهاية ثم كل إنسان مات فقد بقي نفسه وهو بالعدد غير نفس من مات قبله ومعه وبعده وإن كان الكل بالنوع واحدا فعندكم في الوجود في كل حال نفوس لا نهاية لأعدادها )
قال: ( فإن قيل: ليس لبعضها ارتباط ببعض ولا ترتيب لها: لا بالطبع ولا بالوضع وإنما نحيل نحن موجودات لا نهاية لها إذا كان لها ترتيب بالطبع كالأجسام فإنها مرتبة بعضها فوق بعض أو كان بها ترتيب بالطبع كالعلل والمعلولات وأما النفوس فليست كذلك
قلنا: هذا تحكم في الوضع ليس طرده أولى من عكسه فلم أحلتم أحد القسمين دون الآخر وما البرهان المفرق؟
وبم تنكرون على من يقول: إن هذه النفوس التي لا نهاية لها لا تخلو عن ترتيب إذ وجود بعضها قبل البعض فإن الأيام والليالي الماضية لا نهاية لها فإذا قدرنا وجود نفس واحدة في كل يوم وليلة كان الحاصل في الوجود الآن خارجا عن النهاية واقعا على ترتيب في الوجود أي بعضها بعد البعض
والعلة غايتها أن يقال: إنها قبل المعلول بالطبع كما يقال: إنها فوق المعلول بالذات لا بالمكان فإذا لم يستحل ذلك في القبل الحقيقي الزماني فينبغي أن لا يستحيل في القبل الذاتي الطبيعي وما بالهم لم يجوزوا أجساما بعضها فوق بعض بالمكان إلى غير نهاية وجوزوا موجودات بعضها قبل البعض بالزمان إلى غير النهاية؟ وهل هذا إلا تحكم بارد لا أصل له؟
قال فإن قيل: البرهان القاطع على استحالة علل إلى غير النهاية أن يقال: كل واحدة من آحاد العلل ممكنة في نفسها أو واجبة؟ فإن كانت واجبة لم تفتقر إلى علة وإن كانت ممكنة فالكل موصوف بالإمكان وكل ممكن فيفتقر إلى علة زائدة على ذاته فيفتقر الكل إلى علة زائدة على ذاته فيفتقر الكل إلى علة خارجة عنها
قلنا: لفظ الممكن والواجب لفظ مبهم إلا أن يراد بالواجب ما لا علة لوجوده ويراد بالممكن ما لوجوده علة فإن كان المراد هذا فلنرجع إلى هذه اللفظة ونقول: كل واحد ممكن: على معنى أن له علة زائدة على ذاته والكل ليس بممكن: على معنى انه ليس له علة زائدة على ذاته خارجة منه وأن أريد بلفظ الممكن غير ما أردناه فهو ليس بمفهوم )
قال: ( فإن قيل: فهذا يؤدي إلى أن يتقوم واجب الوجود بممكنات الوجود وهو محال
قلنا: إن أردتم بالواجب والممكن ما ذكرناه فهو نفس المطلوب فلا نسلم أنه محال وهو كقول القائل: يستحيل أن يتقوم القديم بالحوادث والزمان عندهم قديم وآحاد الذوات حادثة وهي ذات أوائل والمجموع لا أول له فقد تقوم ما لا أول له بذوات أوائل وصدق ذوات أوائل على الآحاد ولم يصدق على المجموع
وكذلك يقال على كل واحد: إن له علة ولا يقال: للمجموع علة وليس كل ما صدق على الآحاد يلزم أن يصدق على المجموع إذ يصدق على كل واحد أنه واحد وأنه بعض وأنه جزء ولا يصدق على المحجموع وكل واحد حادث بعد أن لم يكن أي له أول والمجموع عندهم ما ليس له أول
فتبين أن من يجوز حوادث لا أول لها وهي صور العناصر الأربعة المتغيرات فلا يتمكن من إنكار علل لا نهاية لها ويخرج من هذا أنه لا سبيل لهم إلى الوصول إلى إثبات المبدأ الأول لهذا الإشكال وخرج قولهم إلى التحكم المحض
فإن قيل: الدورات ليست موجودة في الحال ولا صور العناصر وإنما الموجود منها صورة واحدة بالفعل وما لا وجود له لا يوصف بالتنهاهي وعدم التناهي إلا إذا قدر في الوهم وجودها ولا يتعذر ما يقدر في الوهم فإن كانت المقدرات بعضها علل لبعض فالإنسان قد يفرض ذلك في وهمه وإنما الكلام في الموجود في الأعيان لا في الأذهان لا يبقى إلا نفوس الأموات وقد ذهب بعض الفلاسفة إلى أنها كانت واحدة أزلية قبل التعلق بالأبدان وعند مفارقة الأبدان تتحد فلا يكون فيه عدد فضلا عن ان يوصف بأنه لا نهاية لها وقال آخرون: النفس تابع للمزاج وإنما معنى الموت عدمها ولا قوام لها بجوهرها دون الجسم فإذن لا وجود في النفوس إلا في أحياء والأحياء الموجودون محصورون ولا تنتهي النهاية عنهم والمعدومون لا يوصفون أصلا بوجود النهاية ولا بعدمها إلا في الوهم إذا فرضوا موجودين )
قال: ( والجواب أن هذا الإشكال في النفوس أوردناه على ابن سينا والفارابي والمحققين منهم إذا حكموا بأن النفس جوهر قائم بنفسه وهو اختيار أرسطاليس والمعتبرين من الأوائل ومن عدل عن هذه المسلك فيقول: هل يتصور أن يحدث شيء يبقى أم لا؟ فإن قالوا: لا فهو محال وإن قالوا نعم قلنا: إذا قدرنا كل يوم حدوث شيء وبقاءه اجتمع إلى الآن لا محالة موجودات لا نهاية لها فالدورة وإن كانت منقضية فحصول موجود فيها يبقى ولا ينقضي غير مستحيل وبهذا التقدير يتقرر الإشكال ولا غرض في أن يكون ذلك الباقي نفس آدمي أو جني أو شيطان أوملك أو ماشئت من الموجودات وهو لازم على كل مذهب لهم إذا أثبتوا دورات لا نهاية لها )
تعليق ابن تيمية
قلت: أبو حامد جعل الطريقة الصحيحة في أثبات الصانع الاستدلال بالحدوث على المحدث وقال: إنا نعلم بالضرورة أن الحادث لا يوجد نفسه فافتقر إلى صانع وهذا موافق لما ذكره حذاق أهل النظر بخلاف من ذهب إليه من ذهب من المعتزلة ومن وافقهم ك القاضي أبي بكر وأبي المعالي وغيرهما ممن جعل هذه المقدمة نظرية
وأخذ أبو حامد يطعن على طريقة ابن سينا وأمثاله في إثبات واجب الوجود بوجهين
أحدهما: أن غاية هذه الطريقة إثبات موجود واجب ولكن لا يمكن نفي كونه جسما من الأجسام إلا بطريقهم في التوحيد الذي مضمونه نفي الصفات وتلك مبناها على نفس التركيب وقد بين أبو حامد فساد كلامهم في هذا
وهذا الوجه الذي ذكره أبو حامد أحسن فيه وكنت قد كتبت على توحيد الفلاسفة ونفيهم الصفات كلاما بينت فيه فساد كلامهم في طرقة التركيب قبل أن أقف على كلام أبي حامد ثم رأيت أبا حامد قد تكلم بما يوافق ذلك الذي كتبته
ومن هنا يعلم أن ابن سينا لا يمكنه بهذه الطريقة إفساد مذهب الفلاسفة الطبيعين الذين يقولون بأن الفلك واجب الوجود بنفسه وإن كان يمكن إفساد قولهم بطرق أخرى
ولهذا ظن كثير من المتأخرين أن ابن سينا موافق للدهرية المحضة الذين يقولون: إن العالم واجب الوجود بذاته وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى
الوجه الثاني الذي أبطل به أبو حامد طريقهم: أنها مبنية على إبطال علل ومعلولات لا نهاية لها وقد ألزمهم أنهم لا يمكنهم إبطال ذلك مع قولهم بثبوت حوادث لا تتناهي كما قد ذكره
وابن سينا والرازي والآمدي إنما أثبتوا واجب الوجود بناء على هذه المقدمة فكان ما ذكره أبو حامد إبطالا لطريق هؤلاء كلهم والآمدي وافق أبا حامد على ضعف الحجة في نفي النهاية عن العلل فلا جرم لم يقرر في كلامه إثبات واجب الوجود بل قرره في كتاب الأفكار بطريق أفسدها في كتاب رموز الكنوز وقد بينا بطلان اعتراضه في غير هذا الموضع
وليس فيما ذكره أبو حامد والآمدي إبطال لطريقة المعتزلة ومن وافقهم على أن تخصيص الحدوث بأحد الزمانين لا بد له من مخصص فإن تلك لا تفتقر إلى أبطال التسليل في العلل والمعلولات
ومدار كلام أبي حامد على أنه لا فرق بين نفي النهاية في الحوادث ونفيها في العلل وأنتم تجوزونها في الحوادث فجوزوها في العلل
والناس لهم في هذا المقام قولان: أحدهما: قول من يبطل عدم النهاية فيهما جميعا مثل كثير من أهل الكلام: المعتزلة ومن وافقهم ثم من هؤلاء من يبطل عدم النهاية في الأزل والأبد كقول جهم والعلاف وأكثرهم يبطلونها في الأزل دون الأبد لأن من دين المسلمين دوام نعيم الجنة لا إلى نهاية ولهذا قال جهم بانقطاع نعيم الجنة وقال العلاف ببطلان حركاتهم
والثاني: قول من يبطل عدم النهاية في الفاعلين والعلل دون الحوادث والآثار كما هو قول جمهور الفلاسفة من القائلين بحدوث العالم والقائلين بقدمه وهو قول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية وهو قول جمهور أهل الحديث وأئمة السنة
وما ذكره أبو حامد من الكلام على بطلان حجة من ينفي عدم النهاية هو أنه لا يلزم أن ماصدق على الآحاد صدق على الجميع كما قاله هؤلاء في الحوادث بخلاف ما قاله أبو الحسين البصري وغيره من أهل الكلام من أنه صدق على الآحاد صدق على الجيمع ثم سوى أبو حامد بين الأمرين
وقد تكلمنا في غير هذا الموضع على الفرق بين الأمرين وهو أن الوصف إذا ثبت للجميع كثبوته للأفراد كان حكم الجميع حكم أفراده وإن لم يكن ثبوته للجميع كثبوته للأفراد لم يلزم أن يكون حكمها حكمه فالأول مثل وصفها بالوجود أو العدم أو الوجوب أو الامكان أو الامتناع فإذا قدر أشياء لا تناهى كل منها موجود فالكل أيضا موجود
ثم أن قدر وجود كل منها مقارنا للآخر كان وجود الجميع مقارنا وإن قدر وجودها متعاقبة كان وجود الجملة متعاقبا وإذا قدرت كل منها معدوما فالكل أيضا معدوم وإذا قدرت عدم كل منها مع عدم الآخر كانت معدومة معا وإذا قدرت عدم كل منها بعد الآخر كانت متعاقبة في العدم
فالحوادث المتعاقبة التي تعدم بعد وجودها - كالحركات - وجودها متعاقب وعدمها متعاقب فالجملة أيضا موجودة على التعاقب معدومة على التعاقب وإذا قدر أشياء لا تتناهي ممتنعة فالجملة ممتنعة ولو قدر أشياء لا تتناهي واجبة فالجملة أيضا واجبة فكذلك إذا قدر أمور لا تتناهي ليس لشيء منها وجود من نفسه بل كل منها مفتقر إلى غيره فوصف الافتقار والحاجة والإمكان يجب تناوله للجملة كتناوله لكل من أفرادها كما يتناول وصف الوجود والعدم والوجوب والامتناع للجملة بحسب تناوله للأفراد فلا تكون الجملة إلا مفتقرة محتاجة ممكنة لا تكون معدومة مع وجود كل منها ولا تكون واجبة بنفسها مع إمكان كل منها فإن اجتماعها عرض مفتقر إلى الممكنات فهو أولى بالإمكان منها
ولو قال قائل: فكيف تصفونها بالامتناع مع كون كل منها ممكنا؟ أليس في هذا وصف بالامتناع للجملة دون الأفراد؟
قيل له: نحن لا نقدر وجود علل ومعلولات لا تتناهى في الخارج ثم نحكم عليها بالامتناع فإن هذا جمع بين النقيضين فإن كونها موجودة في الخارج ينافي امتناعها ولكن نقدر ذلك في الذهن ثم نحكم على هذا المقدر في الذهن بامتناعه في الخارج كالجمع بين النقيضين وأمثاله من الممتنعات بخلاف ما إذا قدر وجودها في الخارج وكل منها ممكن
وقيل: إن الجملة واجبة بنفسها فهذا هو الممتنع كما ان وصفها مع ذلك بالامتناع ممتنع وتقديرها في الذهن لا يكفي في وجود الممكنات لأن الممكن لا يوجد إلا بما هو موجود في الخارج لا مقدر في الذهن وهذا بخلاف ما إذا قدر أشياء لا تتناهي كل منها بعد الآخر لم يلزم أن تكون الجملة بعد غيرها كالحوادث المستقبلة في الجنة فإن كلا منها بعد غيره وليست الجملة بعد غيرها بل لا تزال إلى غير نهابة وهذا لأن تقديرها غير متناهية يستلزم أن لا يكون بعدها شيء
فحينئذ إذا قيل: بعد كل واحد غيره كان التقدير أن الجملة ليس لها بعد ولكل واحد من أجزائها بعد
ومعلوم أن مثل هذا حكم الجملة فيه ليس حكم الأفراد وكذلك إذ قدر أنه لا أول للجملة ولكل منها أول
وكذلك إذا قيل: إن الجملة كل وجميع ومجموع أومستدير أومربع أو مثلث أو حيوان أو إنسان لم يلزم أن يكون كل من أجزائها كلا ولا مدورا ولا حيوانا
ولكن الذي يبين فساد مذهب هؤلاء الفلاسفة أن يقال: قد علم بصريح العقل واتفاق العقلاء امتناع التسلسل في العلل وأما وجود حوادث لا تتناهى فلا ننازعهم فيه مطلقا إذ كان أئمة السنة يقولون بذلك في أفعال الرب وأقواله
لكن تبين خطؤهم من وجوه :
فساد مذهب الفلاسفة من وجوه
الوجه الأول
أن قولهم يتضمن وجود حوادث لا تتناهى في آن واحد وهذا محال باتفاقهم مع جماهير العقلاء بل بتضمن وجود تمام علل ومعلولات لا تتناهي في آن واحد ووجود ممكنات لا تتناهى في آن واحد وهذا مما يصرحون بامتناعه مع قيام الدليل على امتناعه وتضمن امتناع وجود حادث ووجود الحوادث بلا مؤثر تام وكل هذا ممتنع
وذلك أن أصلهم أن المعلول يجب مقارنته لعلته التامة في الزمان لا يتعقبها ولا يتراخى عنها فيكون الأثر مع التأثير التام
وكثير من المتكلمين يقولون: يجوز أن يتراخى والصحيح قول ثالث وهو أن يتعقبه: لا يكون معه ولا متراخيا عنه وذلك يستلزم حدوث كل ما سوى الله تعالى
وأما على قولهم فيلزم أن لا يحدث شيء في الوجود بل يكون كل ممكن قديما أزليا لوجود علته التامة في الأزل ويلزم أن لا يحدث شيء لامتناع حدوث الحادث بدون سبب حادث والأول يمتنع عندهم أن يحدث عنه شيء ويلزم أنه كلما حدث حادث حدثت حوادث لا نهاية لها فإنهم يقولون: لا يحدث حادث حتى تحدث تمام علته
فيقال: وذلك التمام حادث فيحتاج أن يحدث معه تمام علته وهلم جرا فيلزم وجود تمام علل ومعلولات لا تتناهى في آن واحد وهذا ممتنع كامتناع علل ومعلولات لاتتناهى في آن واحد إذ لا فرق بين امناع التسلسل في ذات العلة وفي تمامها إذ كانت لا تصير علة بالفعل إلا إذا كانت تامة
ولهذا قالوا: لا يحدث حادث إلا بسبب حادث فلو حدث عن القديم لا فتقر إلى حادث والقول في الثاني كالقول في الأول فيلزم أن لا يحدث شيء
وهذا بعينه يلزمهم في كل حادث فإنه لا يحدث حتى يحدث حادث هو تمام مؤثره وذلك الحادث لا يحدث حتى يحدث حادث معه فيلزم أن لا يحدث شيء
فالمتكلمون قالوا: القادر يفعل بدون سبب حادث فقالوا: هذا محال وقالوا: تحدث الحوادث كلها بدون سبب حادث ولا فاعل محدث لها فكان قولهم أشد بطلانا
الوجه الثاني
أن وجود حوادث لا أول لها إنما يمكن في القديم الواحد فإذا قدر قديمان: كل منهما تقوم به حوادث لا تتناهى كما يقولونه في الأفلاك فهذا ممتنع لأن كلا منهما لا بداية لحركاته ولا نهاية مع أن أحدهما أكثر من الآخر وما كان أكثر من غيره كان ما دونه أقل منه فيلزم أن يكون ما لا أول له ولا آخر يقبل أن يزاد عليه ويكون شيء آخر أكثر منه وهذا ممتنع كما امتنع مثل ذلك في الأبعاد
الوجه الثالث
أن قولهم يقتضي أن يكون فعل الفاعل مقارنا له أزلا وأبدا وأن يكون القديم الأزلي مفعولا ممكنا يقبل الوجود والعدم وهذا مما يعلم فساده بصريح العقل واتفاق العقلاء
كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية
وقد أورد ابن رشد على أبي حامد في هذا كلاما بعضه من باب الأسولة اللفظية وبعضه من باب الأسوله المعنوية فقال عن الدليل الذي ذكره لهم في إثبات العلة الأول ( هذا كلام مقنع غير صحيح فإن اسم العلة يقال باشتراك الاسم على العلل الأربع أعني: الفاعل والصورة والهيولى والغاية وكذلك لو كان هذا جواب الفلاسفة لكان جوابا مختلا فإنهم كانوا يسألون عن أي علة أرادوا بقولهم: إن العالم له علة أولى فإن قالوا: أردنا بذلك السبب الفاعل الذي فعله لم يزل ولا يزال مفعوله هو فعله لكان جوابا صحيحا على مذهبهم على ما قلنا غير معترض عليه ولو قالوا: أردنا به السبب المادي لكان قولهم معترضا
وكذلك لو قالوا: أردنا به السبب الصوري لكان معترضا أن فرضوا صورة العالم قائمة به
وإن قالوا: أردنا به صورة مقارنة للمادة جرى قولهم على مذهبهم
وإن قالوا: صورة هيولانية لم يكن المبدأ عندهم شيئا غير جسم من الأجسام وهذا لا يقولون به
وكذلك إن قالوا: هو سبب على طريق الغاية كان جاريا أيضا على أصولهم
وإذا كان هذا الكلام فيه من الاحتمال ما ترى فكيف يصح أن يجعل جوابا للفلاسفة؟ )
وبسط الكلام بسطا لا يرد على أبي حامد فإنه قد علم أنه أراد بالعلة هنا العلة الفاعلة لا الأقسام الثلاثة وهم يسمون المبدأ الأول العلة الأولى ويقولون: كل ما سواه صادر عنه فالذي ذكره تقرير مذهبهم - كما يقولونه - على أحسن وجه فلا حاجة إلى مؤاخذة لفظية وهو كون لفظا مشتركا فإن هذا من باب الإعنات في الخطاب والخروج عن المقصود
والاستفسار مع ظهور المقصود نوع من اللد في الكلام وأبغض الرجال إلى الله الألد الخصم
ثم اعترض ابن رشد على الوجهين اللذين ذكرهما أبو حامد فقال على الوجه الأول وأنه يلزمهم على مساق مذهبهم أن يكون المبدع جسما قديما لا علة له وأنهم لم يبطلوا ذلك إلا بقولهم في التوحيد ونفي الصفات وقد أبطلة أبو حامد
قال ابن رشد: ( يريد أنهم إذا لم يقدروا على نفي الصفات كان ذلك الأول عندهم ذاتا بصفات وما كان على هذه الصفة فهو جسم أو قوة في جسم ولزمهم أن يكون الأول الذي لا علة له الأجرام السماوية )
قال ابن رشد: ( وهذا القول لازم لمن يقول بالقول الذي حكاه عن الفلاسفة - يعني طريقة ابن سينا والفلاسفة - يعني الأوائل - لا يحتجون على وجود الأول الذي لا علة له بمانسبة إليهم من الأحتجاج ولا يزعمون أيضا أنهم يعجزون عن دليل التوحيد ولا عن دليل نفي الجسمية عن المبدأ الأول وستأتي هذه المسألة فيما بعد )
قلت: ابن رشد لما رأى ضعف الطريقة المنسوبة إلى الفلاسفة في كتب ابن سينا في نفي الصفات ونفي التجسيم وأنها ليست طريقة أوليهم بنى نفي الصفات ونفي التجسيم تارة على إثبات النفس وأنها ليست بجسم واستدل بأضعف من دليلهم وتارة يستدل بطريقة كلامية لفظية وهي أن المركب لا بد له من مركب والمؤلف لا بد له من مؤلف وهذا إنما يكون إذا أطلق هذا اللفظ على مسماه باعتبار أن هناك مؤلفا فعل التأليف ومركبا فعل التركيب
ومن لا يطلق هذا اللفظ بحال أو أراد به ما فيه اجتماع وقال: إن ذلك واجب بنفسه لم يكن مثل هذا الكلام حجة عليه وهذا مبسوط في موضعه
المقصود تبيين ما أخذه ابن سينا عن أسلافه وما أخذه عن المتكلمين وكيف خلط أحدهما بالآخر
قال ابن رشد: ( قول أبي حامد: ولكن لعلتها علة ولعلة العلة علة وهكذا إلى غير نهاية إلى قوله: وكل مسلك ذكرتموه في النظر يبطل عليكم بتجويز دورات لا أول لها شك تقدم الجواب عنه حين قلنا: إن الفلاسفة لا تجوز عللا ومعلولات لا نهاية لها لأنه يؤدي إلى معلول لا علة له ويوجبونها بالعرض من قبل علة قديمة لكن لا إذا كانت مستقيمة ومعا وفي مواد لا نهاية لها بل إذا كانت دورا )
قال: ( وأما ما يحكيه عن ابن سينا: أنه يجوز نفوسا لا نهاية لها وأن ذلك إنما يمتنع فيما له وضع فكلام غير صحيح ولا يقول به أحد من الفلاسفة وامتناعه يظهر من البرهان العام الذي ذكرناه عنهم فلا يلزم الفلاسفة شيء مما ألزمهم من قبل هذا الوضع أعني القول لوجود نفوس لا نهاية لها بالفعل ومن أجل هذا قال بالتناسخ من قال: إن النفوس متعددة بتعدد الأشخاص وأنها باقية )
قال: ( وأما قوله: وما بالهم لم يجوزوا أجساما بعضها فوق بعض بالمكان إلى غير نهاية وجوزوا موجودات بعضها قبل بعض بالزمان إلى غير نهاية؟ وهل هذا إلا تحكم بارد؟ !
فإن الفرق بينهما عند الفلاسفة ظاهر جدا وذلك أن وضع الأجسام لا نهاية لها معا يلزم عنه أن يوجد لما لا نهاية له كل وأن يكون بالفعل وذلك مستحيل والزمان ليس بذي وضع فليس يلزم من وجود أجسام بعضها فوق بعض إلى غير نهاية وجود ما لا نهاية له بالفعل وهو الذي امتنع عندهم )
ثم لما ذكر ابن رشد البرهان الذي حكاه أبو حامد عن الفلاسفة على استحالة علل لا نهاية لها قال ابن رشد: ( وهذا البرهان الذي حكاه عن الفلاسفة أول نقله إلى الفلسفة ابن سينا على أنه طريق خير من طريق القدماء لأنه زعم أنه من جوهر الموجود وأن طرق القوم من أعراض تابعة للمبدأ الأول وهو طريق أخذه ابن سينا من المتكلمين وذلك أن المتكلمين ترى أن من المعلوم بنفسه أن الموجود ينقسم إلى ممكن وضروري ووضعوا أن الممكن يجب أن يكون له فاعل وأن العالم بأسره لما كان ممكنا وجب أن يكون الفاعل له واجب الوجود وهذا هو اعتقاد المعتزلة قبل الأشعرية وهو قول جيد ليس فيه كذب إلا ما وضعوه فيه: من أن العالم بأسره ممكن فإن هذا ليس معروفا بنفسه فأراد ابن سينا أن يعمم هذه القضية ويجعل المفهوم من الممكن ما له علة كما ذكر أبو حامد وإذا سومح في هذه القضية لم تنته به القسمة إلى ما أراد لأن قسمة الموجود أولا إلى ما له علة وإلى ما لا علة له ليس معروفا بنفسه ثم ما له علة ينقسم إلى ممكن وإلى ضروري فإن فهمنا منه الممكن الحقيقي أفضى إلى ممكن ضروري ولم يفض إلى ضروري لا علة له وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري لم يلزم عن ذلك إلا أن ما له علة فله علة وأمكن أن نضع أن تلك لها علة وأن يمر ذلك إلى غير نهاية فلا ينتهي الأمر إلى موجود لا عله له وهو الذي يعنونه بواجب الوجود إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له: الممكن الحقيقي فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيها إلى غير نهاية وأما إن عنى بالممكن ما له علة من الأشياء الضرورية فلم يتبين بعد ذلك مستحيل بالوجه الذي تبين في الموجودات الممكنة بالحقيقة ولا يتبين بعد أن ها هنا ضروريا يحتاج إلى علة فيجب عن وضع هذا أن ينتهي الأمر إلى ضروري بغير علة إلى أن يبين أن الأمر في الجملة الضرورية التي من علة ومعلول كالأمر في الجملة الممكنة )
قلت: فقد ذكر ابن رشد لما ذكر البرهان الذي حكاه أبو حامد عن الفلاسفة على استحالة علل لا نهاية لها: أن هذا البرهان الذي حكاه عن الفلاسفة أول من نقله إلى الفلسفة ابن سينا على أنها طريق خير من طريق القدماء لأنه زعم أنه من جوهر الوجود وأن طرق القوم من اعراض تابعة للمبدأ الأول
قال: ( وهو طريق أخذه ابن سينا من المتكلمين وذلك أن المتكلم يرى أن من المعلوم بنفسه أن الموجود ينقسم إلى ممكن وضروري ووضعوا أن الممكن يجب أن يكون له فاعل وأن العالم بأسره لما كان ممكنا وجب أن يكون الفاعل له واجب الوجود هذا هو اعتقاد المعتزلة قبل الأشعرية )
قال: ( وهو قول جيد ليس فيه كذب إلا ما وضعوا فيه من أن العالم بأسره بممكن فإن هذا ليس معروفا بنفسه فأراد ابن سينا أن يعمم هذه القضية ويجعل المفهوم من الممكن ما له علة كما ذكره أبو حامد )
قلت: فقد بين أن كون الممكن يجب أن يكون له فاعل قول جيد إذ ان الممكن هو المحدث عند عامة العقلاء من الفلاسفة وغيرهم والمحدث لا بد له من فاعل هذا أيضا معلوم بين مسلم عند عامة العقلاء
وأما قوله: ( ليس فيه كذب إلا ما وضعوا فيه من أن العالم بأسره ممكن فإن هذا ليس معروفا بنفسه فأراد ابن سينا أن يعمم هذه القضية ويجعل المفهوم من الممكن ما له علة )
فإنه يقول: أولئك أرادوا بالممكن المحدث وليس من المعروف بنفسه أن العالم كله محدث فأراد ابن سينا أن يجعل معنى الممكن هو ما له علة حتى يبني على ذلك أن العالم كله ممكن وله علة قديمة أزلية وهذا القول الذي ذكره ابن سينا يظن من أخذ الفلسفة من كلامه أنه قول أرسطو وأتباعه وليس كذلك وإنما يذكر هذا عن برقلس ولهذا قال: الباري جواد وعلة جوده هو ذاته فيكون جوده دائنا وهذا يوافق قول ابن سينا ولا يوافق قول أرسطو فإن الأول عنده لا فعل له: لا جودا ولا غير جود ولا إرادة بل ولا يعلم ما سواه
وقول ابن رشد: ( إن كون العالم بأسره ممكن ليس معروفا بنفسه )
فيقال له: إن سلم أنه ليس معروفا بنفسه هو معروف بالأدلة الكثيرة الدالة على أن كل ما سوى الله ممكن: يقبل الوجود والعدم بل إنه محدث وكل ما سواه فقير إليه وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن وأنه ليس شيئا موجودا بنفسه غنيا عما سواه قديما أزليا إلا واحد وأدلة ذلك مذكورة في مواضع وحينئذ فيحصل بذلك المقصود
لكن المتكلمون من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية والكرامية ونحوهم سلكوا في ذلك الاستدلال بأن ذلك لا يخلو عن الأعراض الحادثة وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها فلزم بذلك أن الأول لم يزل غير متكلم بمشيئته وقدرته ولا فاعل لشيء بل ولا كان يمكنه أن يكون متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء بل هذا ممتنع فلا يكون مقدورا فيلزم أنه صار قادرا بعد أن لم يكن وفاعلا بل ومتكلما بمشيئته بعد أن لم يكن وأن الفعل صار ممكنا بعد أن كان ممتنعا من غير تجدد شيء أوجب انقلابه من الامتناع إلى الإمكان إلى غير ذلك من اللوازم كما قد بسط في موضعه
والسلف والأئمة كلهم ذموا الكلام المحدث وأهله وأخبروا أنهم يتكلمون بالجهل ويخالفون الكتاب والسنة وإجماع السلف مع أن كلاهم جهل وضلال مخالف للعقل كما هو مخالف للشرع كما قد بسط في موضعه
والمقصود ذكر كلام ابن رشد على طريقة ابن سينا: قال ابن رشد: ( وإذا سومح ابن سينا في هذه القضية: - وهو أن الممكن ما له علة - لم تنته به القسمة إلى ما أراد لأن قسمة الوجود إولا: إلى ما علة وإلى ما لا علة له ليس معروفا بنفسه ثم ما له علة ينقسم إلى ممكن وضروري )
قلت: أما تقسم الوجود إلى ما علة وإلى ما لا علة فهذا تقسم دائر بين النفي والإثبات لا يمكن المنازعة فيه كما إذا قيل: الموجود ينقسم إلى ما قوم بنفسه وإلى ما لا قوم بنفسه وإلى ما هو موجود بنفسه وما ليس موجودا بنفسه ونحو ذلك من التقسيمات الدائرة بين النفي والإثبات فهذا تقسيم حاصر وإذ لا واسطة بين النفي والإثبات وهما النقيضان كما أنهما لا يجتمعان فلا يرتفعان أيضا
لكن دعوى ابن سينا وأتباعه المقسمون هذا التقسيم: أن ما له علة ينقسم إلى ممكن حقيقي - وهو الحادث - وإلى ضروري هو الذي ليس بينا بنفسه ولم يقيموا عليه دليلا ولا يمكنهم إقامة دليل عليه بل الدليل يدل على بطلانه ولهذا أظهر ما ذكره ابن رشد من فساد كلامهم
قال ابن رشد: ( ثم إذا قسم ما له علة إلى ممكن وضروري فإن فهمنا منه الممكن الحقيقي أفضى إلى ممكن ضروري ولم يفض إلى ضروري لا علة به وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري لم يلزم من ذلك إلا أن ما له علة فله علة وأمكن أن نضع أن تلك العلة لها علة وأن يمر ذلك إلى غير نهاية فلا ينتهي الامر إلى موجود لا علة له وهو الذي يعنونه بواجب الوجود إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له: الممكن الحقيقي فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيه إلى غير نهاية )
فقد بين ابن رشد أنه إذا قسم الوجود إلى ما له علة وما ليس له علة ثم قسم ما له علة إلى ممكن وضروري فإذا أراد بالممكن: الممكن الحقيقي وهو الحادث وهو قد جعل الممكن ما له علة - أفضى ذلك إلى ما له علة فينقسم إلى ممكن ضروري - وهو القديم - وإلى ممكن حقيقي - وهو الحادث ولم يكن في هذا إثبات ضروري لا علة له وهو واجب الوجود لأن مجرد تقسيم الوجود إلى قسمين لا يستلزم ثبوت كل من القسمين بل لا بد من دليل بدل على ثبوتهما وإلا فمجرد التقسيم دعوى مجردة كما لو قيل: الوجود ينقسم إلى ماهو ثابت وإلى ما ليس بثابت أو ينقسم إلى قديم وحادث وما ليس بقديم ولا حادث أو ينقسم إلى واجب وممكن وما ليس بواجب ولا ممكن
فهذا تقسيم دائر بين النفي والإثبات لكن لا يستلزم ثبوت كل من الأقسام
وإذا قيل: ينقسم إلى معلول وغير معلول وقيل: المعلول ينقسم إلى ممكن حقيقي - وهو الحادث وإلى ممكن باصطلاح ابن سينا - وهو المعلول - مع كونه ضروريا كان غايته إذ أثبت انقسام المعلول إلى ضروري وحادث: إثبات القسمين: الضروري والحادث أو إثبات ضروري معلول ليس في إثبات ضروري ليس بمعلول وهو واجب الوجود بنفسه فلم يكن فيما ذكره إثبات واجب الوجود بنفسه فكيف وليس فيه أيضا إثبات ضروري معلول وإنما فيه تقسيم المعلول إلى ضروري وغير ضروري؟
ومجرد التقسيم لا يدل على ثبوت كل من القسمين فلم يكن فيما ذكره لا إثبات ضروري معلول ولا غير معلول إن لم يبين أن المحدث يدل على ذلك ولا استدل بالحدوث ألبته وهو الممكن الحقيقي وإنما استدل بالممكن الذي ابتدعه وجعله يتناول القديم الضروري والمحدث ولو استدل بالمحدث لدل على إثبات قديم وثبوت قديم لا يدل على واجب الوجود باصطلاحهم لأن القديم عندهم ينقسم إلى واجب وممكن
فإن أرادوا أن يثبتوا الواجب بنفسه قالوا: ( والقديم - الذي سموه ممكنا - يفتقر إلى واجب بنفسه ) وهذا ليس بينا وعامة العقلاء ينازعونهم فيه ولا يمكنهم إقامة دليل عليه
فهذا الذي سموه ممكنا هو قديم أزلي ضروري الوجود ومثل هذا لا يدل على واجب بنفسه وهو أيضا ليس بثابت فلم يثبتوا هذا الممكن ولم يثبتوا الواجب الذي يستدل عليه بهذا الممكن فلم يثبتوا ما ادعوه من الممكن ولا ما ادعوه من الواجب
قال ابن رشد: ( وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري لم يلزم من ذلك إلا أن ما له علة فله علة )
قلت: وذلك لأنه إذا قسم الوجود إلى ما له علة وما لا علة له وسمى هذا الأول ممكنا ثم قسم هذا الممكن إلى: الممكن الحقيقة - وهو الحادث - وإلى الضروري - وهو القديم المعلول - لم يلزم من ذلك إلا إثبات قديم معلول وهو أن هذا الضروري الذي له علة هو ضروري له علة
وهذا إذا قدر أنه أثبت هذا القسم وحينئذ فيكون قد أثبت ضروريا واجب الوجود معلولا
قال: وإذا أمكن أن يكون الضروري الواجب الوجود معلولا لعلة أمكن أيضا أن تكون تلك العلة وإن كانت ضرورية واجبة الوجوب معلولة لعلة أخرى وهلم جرا ولم يكن على هذا التقدير معنا ما يدل على امتناع هذا التسلسل لأن مضمونه إثبات أمور واجبتة ضرورة كل منها له علة والجملة كلها واجبة ضرورة مع كونها وكون كل منها معلولا وهو الممكن بهذا الاصطلاح المتأخر إذا الممكن عندهم يكون ضروريا واجب الوجود ممتنع العدم - مع كونه معلولا لغيره فلا يمتنع على هذا التقدير وجود علل ومعلولات كل منها واجب ضروري ويسمى ممكنا باعتبار أنه معلول وإن كان ضروريا واجب الوجود لا باعتبار أنه محدث مفتقر إلى فاعل
درء تعارض العقل والنقل | |
---|---|
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 |