البداية والنهاية/الجزء العاشر/ملخص الفتنة والمحنة من كلام أئمة السنة أثابهم الله الجنة
قد ذكرنا فيما تقدم أن المأمون كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل، وزينوا له القول بخلق القرآن ونفي الصفات عن الله عز وجل.
قال البيهقي: ولم يكن في الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس خليفة إلا على مذهب السلف ومنهاجهم، فلما ولي هو الخلافة اجتمع به هؤلاء فحملوه على ذلك وزينوا له، واتفق خروجه إلى طرسوس لغزو الروم فكتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، واتفق له ذلك آخر عمره قبل موته بشهور من سنة ثماني عشرة ومائتين.
فلما وصل الكتاب كما ذكرنا استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا، فتهددهم بالضرب وقطع الأرزاق فأجاب أكثرهم مكرهين، واستمر على الامتناع من ذلك الإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح الجنديسابوري، فحملا على بعير وسيرا إلى الخليفة عن أمره بذلك، وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد، فلما كانا ببلاد الرحبة جاءهما رجل من الأعراب من عبادهم يقال له: جابر بن عامر، فسلم على الإمام أحمد وقال له: يا هذا ! إنك وافد الناس فلا تكن شؤما عليهم، وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل، وإنك إن لم تقتل تمت، وإن عشت عشت حميدا.
قال أحمد: وكان كلامه مما قوَّى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع من ذلك الذي يدعونني إليه.
فلما اقتربا من جيش الخليفة ونزلوا دونه بمرحلة جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول: يعزُّ عليَّ أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفا لم يسله قبل ذلك، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله ﷺلئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف.
قال: فجثى الإمام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال: سيدي غرَّ حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أولياءك بالضرب والقتل، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته.
قال: فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل.
قال أحمد: ففرحنا، ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة، وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد، وأن الأمر شديد، فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى، ونالني منهم أذىً كثير.
وكان في رجليه القيود، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق وصلى عليه أحمد، فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها في رمضان، فأودع في السجن نحوا من ثمانية وعشرين شهرا، وقيل: نيفا وثلاثين شهرا، ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم.
وقد كان أحمد وهو في السجن هو الذي يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه.