البداية والنهاية/الجزء العاشر/ثم دخلت سنة أربع ومائتين
فيها: كان قدوم المأمون أرض العراق، وذلك أنه مرَّ بجرجان فأقام بها شهرا، ثم سار منها وكان ينزل في المنزل يوما أو يومين، ثم جاء إلى النهروان فأقام بها ثمانية أيام، وقد كتب إلى طاهر بن الحسين وهو بالرقة أن يوافيه إلى النهروان فوافاه بها وتلقاه رؤوس أهل بيته والقواد وجمهور الجيش.
فلما كان يوم السبت الآخر دخل بغداد حين ارتفع النهار لأربع عشرة ليلة خلت من صفر، في أبهة عظيمة وجيش عظيم، وعليه وعلى جميع أصحابه وفتيانه الخضرة، فلبس أهل بغداد وجميع بني هاشم الخضرة، ونزل المأمون بالرصافة ثم تحول إلى قصر على دجلة، وجعل الأمراء ووجوه الدولة يترددون إلى منزله على العادة، وقد تحول لباس البغاددة إلى الخضرة، وجعلوا يحرقون كل ما يجدونه من السواد، فمكثوا كذلك ثمانية أيام.
ثم استعرض حوائج طاهر بن الحسين فكان أول حاجة سألها أن يرجع إلى لباس السواد، فإنه لباس آبائه من دولة ورثة الأنبياء.
فلما كان السبت الآخر وهو الثامن والعشرين من صفر جلس المأمون للناس وعليه الخضرة، ثم إنه أمر بخلعة سوداء فألبسها طاهرا، ثم ألبس بعده جماعة من الأمراء السواد، فلبس الناس السواد وعادوا إلى ذلك، فعلم منهم بذلك الطاعة والموافقة.
وقيل: إنه مكث يلبس الخضرة بعد قدومه بغداد سبعا وعشرين يوما، فالله أعلم.
ولما جاء إليه عمه إبراهيم بن المهدي بعد اختفائه ست سنين وشهورا قال له المأمون: أنت الخليفة الأسود.
فأخذ في الاعتذار والاستغفار.
ثم قال: أنا الذي مننت عليه يا أمير المؤمنين بالعفو، وأنشد المأمون عند ذلك:
ليس يزري السواد بالرجل الشهم * ولا بالفتى الأديب الأريب
إن يكن للسواد منك نصيب * فبياض الأخلاق منك نصيبي
قال ابن خلكان: وقد نظم هذا المعنى بعض المتأخرين وهو نصر الله بن قلانس الإسكندري فقال:
رب سوداء وهي بيضاء فعل * حسد المسك عندها الكافور
مثل حبِّ العيون يحسبه الناس * سوادا وإنما هو نور
وكان المأمون قد شاور في قتل عمه إبراهيم بن المهدي بعض أصحابه فقال له أحمد بن خالد الوزير الأحول: يا أمير المؤمنين ! إن قتلته فلك نظراء في ذلك، وإن عفوت عنه فما لك نظير.
ثم شرع المأمون في بناء قصور على دجلة إلى جانب قصره، وسكنت الفتن وانزاحت الشرور، وأمر بمقاسمة أهل السواد على الخمسين، وكانوا يقاسمون على النصف.
واتخذ القفيز الملحم وهو: عشرة مكاكي بالمكوك الأهوازي، ووضع شيئا كثيرا من خراجات بلاد شتى، ورفق بالناس في مواضع كثيرة.
وولى أخاه أبا عيسى بن الرشيد الكوفة، وولى أخاه صالحا البصرة، وولى عبيد الله بن الحسين بن عبد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب نيابة الحرمين، وهو الذي حج بالناس فيها.
وواقع يحيى بن معاذ بابك الخرَّمي فلم يظفر به.
وفيها توفي من الأعيان جماعة منهم: