البداية والنهاية/الجزء العاشر/ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائة
فيها: سار محمد بن أبي العباس السفاح عن أمر عمه المنصور إلى بلاد الديلم ومعه الجيوش من الكوفة والبصرة، وواسط والموصل والجزيرة.
وفيها: قدم محمد بن أبي جعفر المنصور المهدي على أبيه من بلاد خراسان، ودخل بابنة عمه رايطة بنت السفاح بالحيرة.
وفيها: حج بالناس أبو جعفر المنصور، واستخلف على الحيرة والعسكر خازم بن خزيمة، وولى رباح بن عثمان المزني المدينة، وعزل عنها محمد بن خالد القسري، وتلقى الناس أبا جعفر المنصور إلى أثناء طريق مكة في حجه في سنة أربع وأربعين ومائة.
وكان في جملة من تلقاه عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، فأجلسه المنصور معه على السماط، ثم جعل يحادثه بإقبال زائد بحيث إن المنصور اشتغل بذلك عن عامة غدائه، وسأله عن ابنيه إبراهيم ومحمد: لم لا جاءاني مع الناس؟
فحلف عبد الله بن حسن أنه لا يدري أين صارا من أرض الله.
وصدق في ذلك، وما ذاك إلا أن محمد بن عبد الله بن حسن كان قد بايعه جماعة من أهل الحجاز في أواخر دولة مروان الحمار بالخلافة وخلع مروان، وكان في جملة من بايعه، على ذلك أبو جعفر المنصور، وذلك قبل تحويل الدولة إلى بني العباس، فلما صارت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور خاف محمد بن عبد الله بن الحسن وأخوه إبراهيم منه خوفا شديدا.
وذلك لأن المنصور توهم منهما أنهما لا بد أن يخرجا عليه كما أراد أن يخرجا على مروان، والذي توهم منه المنصور وقع فيه، فذهبا هربا في البلاد الشاسعة فصارا إلى اليمن، ثم سارا إلى الهند فاختفيا بها فدل على مكانهما الحسن بن زيد فهربا إلى موضع آخر، فاستدل عليه الحسن بن زيد ودل عليهما، ثم كذلك.
وانتصب إلبا عليهما عند المنصور. والعجب منه أنه من أتباعهما.
واجتهد المنصور بكل طريق على تحصيلهما فلم يتفق له ذلك، وإلى الآن.
فلما سأل أباهما عنهما حلف أنه لا يدري أين صارا من أرض الله، ثم ألح المنصور على عبد الله في طلب ولديه فغضب عبد الله من ذلك وقال: والله لو كانا تحت قدمي ما دللتك عليهما.
فغضب المنصور وأمر بسجنه وأمر ببيع رقيقه وأمواله، فلبث في السجن ثلاث سنين، وأشاروا على المنصور بحبس بني حسن عن آخرهم فحبسهم، وجدّ في طلب إبراهيم ومحمد جدا، هذا وهما يحضران الحج في غالب السنين، ويكمنان في المدينة في غالب الأوقات، ولا يشعر بهما من ينم عليهما، ولله الحمد.
والمنصور يعزل نائبا عن المدينة ويولي عليها غيره، ويحرضه على إمساكهما والفحص عنهما، وبذل الأموال في طلبهما، وتعجزه المقادير عنهما لما يريده الله عز وجل.
وقد واطأهما على أمرهما أمير من أمراء المنصور يقال له: أبو العساكر خالد بن حسان، فعزموا في بعض الحجات على الفتك بالمنصور بين الصفا والمروة، فنهاهم عبد الله بن حسن لشرف البقعة.
وقد اطلع المنصور على ذلك وعلم بما مالأهما ذلك الأمير، فعذبه حتى أقر بما كانوا تمالؤا عليه من الفتك به.
فقال: وما الذي صرفكم عن ذلك؟
فقال: عبد الله بن حسن نهانا عن ذلك، فأمر به الخليفة فغيب في الأرض، فلم يظهر حتى الآن.
وقد استشار المنصور من يعلم من أمرائه ووزرائه من ذوي الرأي في أمر ابني عبد الله بن حسن، وبعث الجواسيس والقصاد في البلاد فلم يقع لهما على خبر، ولا ظهر لهما على عين ولا أثر، والله غالب على أمره.
وقد جاء محمد بن عبد الله بن حسن إلى أمه فقال: يا أمه ! إني قد شفقت على أبي وعمومتي، ولقد هممت أن أضع يدي في يد هؤلاء لأريح أهلي. فذهبت أمه إلى السجن فعرضت عليهم ما قال ابنها، فقالوا: لا ولا كرامة، بل نصبر على أمره فلعل الله يفتح على يديه خيرا، ونحن نصبر وفرجنا بيد الله إن شاء فرج عنا، وإن شاء ضيق.
وتمالؤا كلهم على ذلك، رحمهم الله.
وفيها: نقل آل حسن من حبس المدينة إلى حبس بالعراق وفي أرجلهم القيود، وفي أعناقهم الأغلال.
وكان ابتداء تقييدهم من الربذة بأمر أبي جعفر المنصور، وقد أشخص معهم محمد بن عبد الله العثماني، وكان أخا عبد الله بن حسن لأمه، وكانت ابنته تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وقد حملت قريبا، فاستحضره الخليفة وقال: قد حلفت بالعتاق والطلاق إنك لم تغشني، وهذه ابنتك حامل، فإن كان من زوجها فقد حبلت منه وأنت تعلم به، وإن كان من غيره فأنت ديوث.
فأجابه العثماني بجواب أحفظه به، فأمر به فجردت عنه ثيابه فإذا جسمه مثل الفضة النقية، ثم ضربه بين يديه مائة وخمسين سوطا، منها ثلاثون فوق رأسه، أصاب أحدها عينه فسالت، ثم رده إلى السجن وقد بقي كأنه عبد أسود من زرقة الضرب، وتراكم الدماء فوق جلده، فأجلس إلى جانب أخيه لأمه عبد الله بن حسن، فاستسقى ماءً فما جسر أحد أن يسقيه حتى سقاه خراساني من جملة الجلاوزة الموكلين بهم.
ثم ركب المنصور هودجه وأركبوا أولئك في محامل ضيقة، وعليهم القيود والأغلال، فاجتاز بهم المنصور وهو في هودجه، فناداه عبد الله بن حسن: والله يا أبا جعفر ! ما هكذا صنعنا بأسرائكم يوم بدر، فأخسأ ذلك المنصور وثقل عليه ونفر عنهم.
ولما انتهوا إلى العراق حبسوا بالهاشمية، وكان فيهم محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وكان جميلا فتيا، فكان الناس يذهبون لينظروا إلي حسنه وجماله.
وكان يقال له: الديباج الأصغر، فأحضره المنصور بين يديه وقال له: أما لأقتلنك قتلة ما قتلتها أحدا.
ثم ألقاه بين اسطوانتين وسد عليه حتى مات.
فعلى المنصور ما يسحقه من عذاب الله ولعنته.
وقد هلك كثير منهم في السجن حتى فرج عنهم بعد هلاك المنصور على ما سنذكره.
فكان فيمن هلك في السجن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وقد قيل: والأظهر أنه قتل صبرا، وأخوه إبراهيم بن الحسن وغيرهما، وقل من خرج منهم من الحبس، وقد جعلهم المنصور في سجن لا يسمعون فيه أذانا، ولا يعرفون فيه وقت صلاة إلا بالتلاوة، ثم بعث أهل خراسان يشفعون في محمد بن عبد الله العثماني، فأمر به فضربت عنقه وأرسل برأسه إلى أهل خراسان، لا جزاه الله خيرا، ورحم الله: