الإعلام بما في دين النصارى/الباب الرابع/مسألة في قربانهم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد  المؤلف القرطبي
مسألة في قربانهم


مسألة في قربانهم[عدل]

قال حفص اعلم أن الذي أردت معرفته من خبر القربان وشرحه أن الأنبياء وبني إسرائيل كانوا يقربون القربان على ما تحكيه التوراة العجول والجزر والخرفان فأما ملكي صادق فإنه أول من قرب القربان من الخبز والخمر وكان قسيس الله في البدء وإليه أدى إبراهيم العشرات المفروضة وقد حكى داوود النبي في الزبور خبر ملكي صادق إذ بشر بالمسيح سيدنا وأنزله منزلته وأحله محله وجعله قسا إلى الأبد فقال الرب أقسم يمينا وليس يندم أنت أبدا قسيس لي في خطة القسيسين على رتبة ملكي صادق فأما الحواريون وأتباعهم فإنهم فرضوا هذا القربان الذي يقدسه الأساقفة والقساوس على المذبح من الخمر والخبز على ما تقدم من فعل ملكي صادق وكما قال المسيح في الإنجيل من أكل لحمي وشرب دمي كان في وكنت فيه وأما الخبز النازل من السماء فمن أكلني يحيا بي

انظر ما أعجب حال هؤلاء في تركهم شرعية التوراةفي القربان وعدولهم عنها الى ما هو ضرب من الهذيان وذلك أن الله تعالى افترض القربان في التوراة بالعجول والجزر والخرفان كما ذكر وعملت بذلك بنو إسرائيل من غير تغيير ولا تبديل إلى مدة هؤلاء المغيرين لأحكام التوراة فغيروا وبدلوا وعدلوا إلى الخبز والخمر من غير أن ينسخ لهم عيسى شيئا من ذلك ولا بدله بغيره لكنهم يكرهون العمل بأحكام التوراة فيعدلون عنها إلى العمل بأهوائهم مع أنهم متعبدون بأحكامها إذ الأحكام في الإنجيل قليلة جدا ولم يتركوا لآرائهم حتى يتحكموا بأهوائهم ثم إنهم يتحكمون بآرائهم فإن اتفق لهم شيء يتمسكون به كان ذلك مؤكدا لأغراضهم وإن لم يتفق لهم ذلك استغنوا عنه وحكموا بأغراضهم ويبين هذا أنهم استثقلوا العجول والجزر والخرفان لارتفاع أثمانها وأنه لا يوجد فيها ما يوجد في الخمر من اللذة والطرب الداعين إلى شربها

ولذلك عدلوا للخمر مع خفة مؤنتها وقلة ثمنها فإنهم أشد الناس بخلا فإن قيل لهم بأي شيء عدلتم عن قربان التوراة قالوا لأن ملكي صادق أول من قرب الخمر والخبز ولأن المسيح قال من أكل لحمي وشرب دمي كان في وأنا فيه ولأن الحواريين فرضوا هذا القربان

هذا غاية ما يحتجون به ولا بد من تتبع ذلك وبيان تحكمهم وباطلهم فنقول:

أما قولكم بفعل ملكي صادق فباطل من أوجه

أحدها أنه لم يكن نبيا فإن ادعيتم أنه نبي فلا بد من الدليل على ذلك فعليكم إثباته ولو سلم ذلك لتبقى عليكم أن تثبتوا أن شرعه شرع لكم ولو سلم أن شرعه شرع لكم لكان ينبغي أن تعلموا أن التوراة قد نسخت ذلك الشرع إذ قد استقر أن موسى عمل بخلافه وكذلك الأنبياء بعده ولو كان ذلك الحكم باقيا صحيحا لما كان ينبغي لموسى أن يعدل عنه ولما جاءكم بغيره فترككم التوراة التي أنتم مخاطبون بأحكامها وشرعها إلى مالم تخاطبوا به ولا شرع لكم إستهانة بشرع التوراة وأحكامها بل إستخفاف بالذي أنزلها وبالذي أنزلت عليه فقد بطل استدلالكم بفعل ملكي صادق من أوجه

وأما استدلالكم بقول عيسى فهذيان لا يلتفت إليه لأنه إنما أراد من عمل بعملي أو تعلم من علمي أحببته وأحبني وما ذكره مثل محسوس قصد به التنبيه على معنى معقول ودليل ذلك من قوله قوله أنا الخبز النازل من السماء انما اراد أنه بمنزلة الخبر الذي يغتذي به لأنه قد جاء بغذاء الأرواح وبخبزها وهذا استعارة حسنة مستعملة وكثيرا ما يقال في الكلام العلم والمعاني الشريفة خبز الأرواح كما أن الطعام المعروف خبز الأشباح

ولكلامه عليه السلام عامل آخر وتأويلات جارية غير ما ذكرتم يجوزها العقل ولا يبعدها إستعمال اللفظ لا يخرج شيء منها إلى الهذيان الذي صرتم إليه الذي أفضى بكم لجهلكم إلى ترك حكم وترك العمل بمقتضاه ولولا التطويل لذكرنا منها وجوها وبهذا اللفظ وما يشبهه ضللتم حيث قلتم بالاتحاد ولم تفهموا منه المراد فكابرتم العقلو وحرفتم المنقول وحملتم من الشناعة والقباحة مالا يرضى به عليم ولا جهول وقد ذكرنا إبطال ذلك فيما تقدم

وأما استدلالهم بفعل الحواريين فذلك من فن الكذب عليهم أجمعين ولو سلمنا أنه صحيح وصدق لما كان في فعلهم حجة بل إن كتاب الله تعالى يخالف فعلهم بل الحجة كتاب الله ولا يرتفع شيء من ذلك إلا إذا بين عيسى عليه السلام أنه منسوخ ويبلغكم ذلك عنه بنص قاطع على شروط النسخ على ما هو معروف عند أهله بل قد أوردوا في إنجيلهم أن عيسى قال للمبروص الذي شفاه أمض واعرض نفسك على القسيسين واهد قربانك الذي أمر به موسى في عهده

وهذا نص على أن القربان عند عيسى إنما هو الذي حكم به موسى وهو العجول والجزر والخرفان لا كما شرعتم أنتم من الهذيان

فقد حصل من هذا أنكم خالفتم عيسى وقلتم عليه البهتان وأما استدلالهم بفعل القسيسين فأولئك المغيرون للدين والمحرفون لكتاب رب العالمين

كدينك من أم الحويرث قبلها وجارتها أم الرباب بماسل

فقد ظهر من هذا أنهم تركوا قربان التوراة لغير شيء وأنهم على غير شيء فعليهم لعنة كل ميت وحي

الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد
مقدمة | صدر الكتاب | الباب الأول: في بيان مذاهبهم في الأقانيم وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: أقانيم القدرة والعلم والحياة | الفصل الثالث: تعليل التثليث | الفصل الرابع: دليل التثليث | الفصل الخامس: في بيان اختلافهم في الأقانيم | الباب الثاني: في بيان مذاهبهم في الاتحاد والحلول وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: معنى الاتحاد | الفصل الثالث: الواسطة بين الله وبين موسى | الفصل الرابع: تجسد الواسطة | الفصل الخامس: في حكاية كلام المتقدمين | الفصل السادس: في حكاية مذهب أغشتين إذ هو زعيم القسيسين | الباب الثالث: في النبوات وذكر كلامهم | الفصل الأول: احتجاج أصحاب الملل | الفصل الثاني: المسيح المنتظر | الفصل الثالث: المسيح عيسى ابن مريم | فصل: في بيان بعض ما طرأ في التوراة من الخلل وأنها لم تنقل نقلا متواترا فتسلم لأجله من الخطأ والزلل | فصل في بيان أن الإنجيل ليس بمتواتر وبيان بعض ما وقع فيه من الخلل | الفصل السابع: هاجر أم إسماعيل الذبيح | القسم الثاني: في النبوات وإثبات نبوة محمد | القسم الثاني: في إثبات نبوة نبينا محمد | النوع الأول من الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: إخبار الأنبياء به قبله | النوع الثاني: الاستدلال على نبوته بقرائن أحواله | خاتمة جامعة في صفاته وشواهد صدقه وعلاماته | النوع الثالث: الاستدلال على نبوته صلى الله عليه وسلم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد | الوجه الأول من وجوه إعجاز القرآن | الوجه الثاني | الوجه الثالث | الوجه الرابع | النوع الرابع | الفصل الثالث عشر في ما ظهر على أصحابه والتابعين لهم من الكرامات الخارقة للعادات | الباب الرابع: في بيان أن النصارى متحكمون في أديانهم وأنهم لا مستند لهم في أحكامهم إلا محض أغراضهم وأهوائهم | الفصل الأول: ليست النصارى على شيء | الفصل الثاني: خروج النصارى على تعاليم التوراة والإنجيل | الفن الأول: شعائر الدين النصراني وطقوسه | مسألة في المعمودية | مسألة في غفران الأساقفة والقسيسين ذنوب المذنبين واختراعهم الكفارة للعاصين | مسألة في الصلوبية وقولهم فيها | مسألة في تركهم الختان | مسألة في أعيادهم المصانة | مسألة في قربانهم | مسألة في تقديسهم دورهم وبيوتهم بالملح | مسألة في تصليبهم على وجوههم في صلاتهم | مسألة في قولهم في النعيم والعذاب الأخراوين | الفن الثاني: محاسن دين الإسلام