الإعلام بما في دين النصارى/الباب الثالث/خاتمة
خاتمة جامعة في صفاته وشواهد صدقه وعلاماته
وذلك أن أبا سفيان وكفار قريش قدموا الشام تجارا فأرسل إليهم هرقل وكان ملك النصارى وعظيمهم وإليه ينتهي علمهم فجاءوه ودخلوا عليه في مجلسه وحوله عظماء الروم فقال لترجمانه قل لهم أيكم أقرب نسبا بهذا االرجل الذي يزعم أنه نبي فقال أبو سفيان أنا أقرب نسبا منه فقال ادنوه مني وقربوا أصحابه واجعلوهم عند ظهره ثم قال لترجمانه قل لأصحابه إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فإن كذب فكذبون
قال أبو سفيان فوالله لولا الحياء من أن يؤثروا عني كذبا لكذبت عليه قال أبو سفيان فكان أول ما سألني عنه أن قال كيف نسبه فيكم قلت هو فينا ذو نسب قال فهل قال هذا القول أحد منكم قط قبله قلت لا قال فهل كان في آبائه من ملك قلت لا قال فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم قلت بل ضعفاؤهم قال أيزيدون أم ينقصون قلت بل يزيدون قال فهل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه قلت لا قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال قلت لا قال فهل يغدر قلت لا ونحن في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها يعني صلحا
قال ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة
قال فهل قاتلتموه قلت نعم قال فكيف كان قتالكم إياه قلت الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه قال ماذا يأمركم قلت يقول اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة
فقال هرقل لترجمانه قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله فذكرت أن لا فقلت لو كان أحد
قال هذا القول قبله لقلت رجل يقتدي يقول قيل قبله وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا فلو كان من آبائه من ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاؤهم اتبعوه وهم أتباع الرسل وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر وسألتك بم يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم فلو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه
ثم دعا بكتاب رسول الله ﷺ الذي كان قد بعث به مع دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين يعني المقتدين به ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
قال أبو سفيان فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا فقلت لأصحابي حين أخرجنا لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه ليخافه ملك بني الأصفر فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام
وكان ابن الناظور صاحب إيلياء يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس فقال له بعض بطارقته قد استنكرنا هيئتك
قال ابن الناظور وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم فقال لهم حين سألوه إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة قالوا ليس يختتن من هذه الأمة إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود فبينا هم على ذلك أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله ﷺ فلما استخبره هرقل قال اذهبوا فانظروا أمحتتن هو أم لا فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن وسأله عن العرب أيختتنون فقال هم يختتنون فقال هرقل هذا ملك هذه الأمة قد ظهر
ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية وكان نظيره في العلم وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي ﷺ وأنه نبي فأذن هرقل عظماء الروم في دسكرة له بحمص ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع فقال يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى االأبواب فوجدوها قد غلقت فلما رأى هرقل نفرتهم وآيس من إيمانهم قال ردوهم على وقال إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت فسجدوا له ورضوا عنه
فكان هذا آخر شأن هرقل
فتأمل أيها القس إن كنت من أهل العقل والحدس كيف كان العلماء منكم يعرفونه بعلاماته ويستدلون على صحة نبوته بحسن أوصافه وهيئاته وهكذا فعل جماعة من عقلاء أهل الكتاب وغير واحد من ذوي الألباب مثل عبد الله بن سلام والفارسي سلمان ونصارى الحبشة وأساقفة نجران
ولا تشك إن كنت منصفا أنهم كانوا أعلم بالكتب منك وأعرف برسل الله وعلاماتهم من عثرتك ولعلمهم بكتب الله وما جاء فيها من علامات محمد رسول لله لما جاءهم ما عرفوا وحققوا آمنوا وصدقوا فقالوا ربنا آمنا بما أنزلت وأتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين
ولجهلهم بكتب الله وبعلامات رسول الله لما جاءكم الحق كفرتم به فلعنة الله على الكافرين
ومن أعظم آياته وأوضح دلالاته ما جرى له مع قومه وذلك أنه ﷺ لما جاهر قومه بتبليغ ما أمره الله من الرسالة وصدع بأمره فسفه أحلامهم وعاب آلهتهم وبين ليهم فساد ما هم عليه شق ذلك عليهم وأجمعوا على خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام كانوا إذا ذاك قليلا مستخفين فأرادت قريش قتل رسول الله ﷺ وقتل من معه والوثوب عليهم فحدب على رسول الله ﷺ عمه أبو طالب ومنعه منهم لشرفه في قومه وعزته فلم يقدروا أن يصلوا إليه بشيء مما أرادوه فلما رأوا أنهم لا يقدرون أن يصلوا إلى ضره لمنع عمه له منهم اجتمعوا وقالوا لأبي طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وظل آباءنا فأما أن تكفه عنا وإما أن تخلى بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا وردهم ردا جميلا
ثم قال له يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا للذي قالوا له فابق با ابن أخي على وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق فلما سمع رسول الله ﷺ ذلك القول منه ظن أنه سيسلمه إليهم وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه فقال له يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته ثم استعبر رسول الله ﷺ فبكى ثم قام فلما ولى ناداه أبو طالب عمه وقال له أقبل يا ابن أخي واذهب فقل ما أحببت فوالله ما أسلمك لشيء أبدا
فلما رأت قريش أن أبا طالب لا يسلمه عزمت على حرب أبي طالب وقتاله فتهيأ أبو طالب لقتالهم وجمع قومه وعشيرته لذلك ثم إنهم تصالحوا فيما بينهم وأقام رسول الله ﷺ على حاله ذلك من عيب دينهم وتسفيه عقولهم وذم آلهتهم لا يرده عن ذلك راد ولا يصده عما يريده صاد
فاجتمع أشراف قريش يوما فقالوا ما رأينا مثل صبرنا على ما نلقى من أمر هذا الرجل أنه قد سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا لقد صرنا منه على أمر عظيم فبينما هم يقولون ذلك إذ طلع رسول الله ﷺ فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفا بالبيت فلما مر بهم غمزوه ببعض القول فتغير وجه رسول الله ﷺ وقال لهم أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح قال فأخذت القوم كلمته وهيبته حتى ما منهم رجل إلا ناكس رأسه كأن على رأسه طائرا واقفا حتى إن أشدهم عليه وطأة ليلين له بالقول ويقول له أحسن ما يجده من الكلام حتى أنه ليقول إنصرف يا أبا القاسم فوالله ما كنت جهولا فانصرف رسول الله ﷺ عنهم حتى إذا كان الغد اجتمعوا فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا أسمعكم ما تكرهون تركتموه فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله ﷺ فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون أنت الذي تعيب آلهتنا وديننا فيقول نعم أنا الذي أقول ذلك فأخذوا بمجمع ردائه وجبذوه جبذا شديدا وهو في ذلك يقول لهم أنا الذي أعيب ما أنتم عليه لم يفزعه ما رأى منهم ولا هاله ذلك بل صبر على ما ناله حتى نصره الله عليهم وأظهر دينه على دينهم
فتأمل أيها العاقل إن كنت منصفا فرق ما بين نبينا محمد عليه السلام وبين ما تحكيه النصارى عن المسيح في إنجيلهم وذلك أنها تحكي فيه أن المسيح لما استشعر بوثوب اليهود عليه قال قد جزعت نفسي الآن فماذا أقول يا أبتاه فسلمني من هذا الوقت وأنه حين رفع في الخشبة صاح صياحا عظيما وقال إلى إلى لم غريتناني وترجمته إلهي إلهي لم أسلمتني
وهذا غاية الجزع والخور ينزه عنه عيسى بل هو من أكاذيبهم عليه
وكذلك ذكرت في إنجيلها أن عيسى لما أخذته اليهود وحملته إلى قائد القسيسين قال له أستحلفك بالله الحي أن تصدقنا إن كنت المسيح ابن الله فقال له المسيح أنت قلته وهذا كلام يدل على أنه كتم نفسه وسترها ضعفا وجبنا ثم إن كفار قريش لما أكربهم أمر رسول الله ﷺ وغاظهم شأنه تشاوروا في أمره فقال لهم عتبة بن ربيعة يا معشر قريش ألا أقو م لمحمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا وذلك لما لم يقدروا أن يصلوا إليه بمكروه فقالوا له بلى فقام إليه عتبة فقال له يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من البسطة في العشيرة والمكانة في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت من مضى من آبائهم
فاسمع مني أعرض عليك أمورا لعلك تقبل منا بعضها فقال له رسول الله ﷺ قل أسمع فقال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان
هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فلما فرغ له النبي ﷺ أقد فرغت قال نعم فاسمع مني قال أفعل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ثم مضى رسول الله ﷺ يقرأ السورة حتى إذا بلغ السجدة فسجد ثم قال قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض أحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس اليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالكهانة ولا بالسحر يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوا فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ عظيم فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به قالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه فقال هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم
فانظر إن كنت عاقلا كيف بذلوا له أموالهم فلم يلتفتها وعرضوا عليه ملك الدينا فلم يعرج عليها بل صدع بأمر الله وبلغ ما أمره به الله
وكذلك اجتمع كفار قريش أشرافهم وسادتهم فعرضوا عليه مثل الذي عرض عليه عتبة وقالوا له مثل قوله فقال لهم رسول الله ﷺ ما بي مما تقولون شيئا وما جئتكم أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا التملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل على كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا
فبلغتكم رسالات الله ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم
والأخبار في هذا النوع كثيرة ومن أوضح آياته وأشهر علاماته
ما أكرمه الله به بعد وفاته وذلك أنه قد اشتهر أنه ﷺ لما توفاه الله تعالى اختلف غاسلوه في تجريده القميص فلما اختلفوا في ذلك ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا ذقنه في صدره ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو ولا يرون أحدا أن أغسلوا النبي وعليه ثيابه
وكذلك روى أن عليا والفضل حين انتهيا في الغسل إلى أسفله سمعوا مناديا يقول لا تكشفوا عورة نبيكم ﷺ
وكذلك روى في طرق صحاح أن أهل بيته سمعوا وهو مسجى بينهم قائلا يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت أن في الله عوضا عن كل تالف وخلفا من كل هالك وعزاء من كل مصيبة فاصبروا واحتسبوا أن الله مع الصابرين وهو حسبنا ونعم الوكيل قال فكانوا يرون أنه الخضر وقد آن أن نمسك العنان إذ قد حصل البيان على أن قرائن أحوال نبوة محمد ﷺ وعلاماته مما لا يحصيها لسان ولا يحيط بإجملها إنسان
وقد نجز القول في النوع الثاني من أدلة نبوته والحمد لله ونشرع الآن في النوع الثالث