الإعلام بما في دين النصارى/الباب الرابع/مسألة في غفران الأساقفة والقسيسين ذنوب المذنبين واختراعهم الكفارة للعاصين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد  المؤلف القرطبي
مسألة في غفران الأساقفة والقسيسين ذنوب المذنبين واختراعهم الكفارة للعاصين


مسألة في غفران الأساقفة والقسيسين ذنوب المذنبين واختراعهم الكفارة للعاصين[عدل]

أعلم أن هؤلاء القوم وضعوا لأنفسهم قوانين توافقوا عليها وارتبطوا لها من غير أن يشهد بصحة تلك القوانين شاهد من توراة ولا من إنجيل فمن خالفها عندهم سموه خارجيا تارة وكافرا أخرى والخروج عن تلك القوانين هو الذنب عندهم ثم تلك الذنوب منقسمة إلى ما لا يغفرونه وإلى ما يغفرونه فإذا غفرو ذنب واحد منهم أدخلوه الكنيسة وقبلوا قربانه وإذا لم يغفروا له أبعدوه عن كنائسهم وطردوه وهولوا عليه ولم يقبلوا برهانه ولا بد للذنب المغفور من كفارة وتلك الكفارة بحسب ما يظهر لأقستهم ويرونه موافقا لغرضهم فتارة يوجبون عليه خدمة الكنيسة وتارة لا يدخلها بل يقف عندها متذللا وربما يبقى على ذلك أعواما عديدة وتارة يوجبون عليه مالا إما لملكهم وإما لهم ولكنائسهم

ولا بد من بيان ذلك بالأمثلة على ما وجدنا في كتبهم ولنذكر من كل مسألة مثالا لئلا يطول الكتاب وإنما أنقل ألفاظهم من كتبهم لئلا يتقول متقول علينا بالباطل أو يظن بنا الجهل بمذهبهم أو ينسبونا إلى الكذب في شيء مما حكيناه عنهم

مثال القسم الأول العابثون بالصبيان

العابثون بالصبيان لا يغفرون لهم بوجه ولا يعطونهم قربانا أبدا ولا عند وفاتهم على هذا أجمع أساقفة طليطلة في ولاية ايفة الملك وقالوا دعتنا هذه الفاحشة المنتنة أن يحكم بأجمعنا أن كل من أتى هذه الفاحشة أن يفعل به عقاب فإن كان راكب هذه الفاحشة أسقفا فليعزل ويبعد إبعادا شديدا دائما وإن كان من غيرهم فلينكل به نكالا شديدا ويضرب الفاعل والمفعول مائة سوط وينفيان النفى الدائم ولا يعطيهم أحد من الأقسة توبة ومن أعطاها لهم وتقبل قربانهم عزل وأبعد ولم يعط هو أيضا توبة وأغرموه خمسة أرطال ذهبا للملك

هذا قانونهم الأول القديم ولا أدري ما أحدثوه الآن إذ الأحداث عنهم في كل زمان

ومثال الثاني نكاح القرابات

وذلك أن نكاحهن حرام بنص التوراة زعموا فإن نكح رجل قريبته إلى سبع بطون فإن أصر على ذلك فلا يغفر له ولا يعطى قربانا وإن مات وإن أقلع عنها حرم القربان خمسة عشر سنة وكلفوا أعدادا من الصلوات ومن العبادات وربما زادوا عليه خمسا فكملوا له عشرين سنة وربما بلغه بعضهم خمسا وعشرين وذلك بحسب ستة عندهم فإذا كان بعد ذلك قبلوا توبته وأعطوه القربان وأما المرأة فقد أبوا أن يعطوها القربان إلا عند وفاتها

وأما الذي يأتي البهيمة

فإن كان له زوجة لم يعط القربان إلا بعد ثلاثين سنة وإن لم تكن له زوجة فبعد خمس وعشرين سنة

مثال ما يغرمون فيه الأموال: من تزوج من غير بركة القسيس فإنه يغرم للملك مائة دينار ويضرب الزوجان مائة سوط مائة سوط

وقد حكموا على قاتل عبده بحرمان القربان سنتين وعلى قاتل العمد غير عبد بحرمان القربان وبخضوعه عند الكنيسة إلى آخر وفاته

وأما قاتل الخطأ فقانونهم الأول يقضى بأن يحرم القربان سبع سنين والقانون الثاني يقضى بأن يحرم خمس سنين

وعلى الجملة

فهذياناهم وتحكماتهم أكثر من أن تحصى ومن اطلع على كتب فقههم رأى فيها غرائب وعجائب ومقصودنا التمثيل وقد حصل والحمد لله فنقول:

من وقف على هذه المواضع وأمثالها لم يشك في أن القوم يصنعون أحكاما ويخترعونها ويلتزمونها ولسنا ننكر أن الشرائع لو جاءت بمثل هذا الكفارات والتحكمات لقبلناها والتزمناها

وإنما ننكر عليهم أن يجعلوا أنفسهم شارعين وينزلوا أنفسهم منزلة رب العالمين فإنه إنما ينبغي الحكم والتحكم له إذ له أن يفعل ما يريد ويحكم ما يشاء في العبيد وأما الأنبياء فلا يحكمون من عند أنفسهم وإنما يبلغون أحكام الله ثم أعجب من ذلك جرأتهم على الله واستهزاؤهم بكتاب الله فإن هذه الذنوب التي قدمت ذكرها قد شرع الله أحكامها في التوراة نصوصا وبين حدودها فجعل في أكثر تلك المواضع القتل ولم يحكم فيها بشيء مما اخترعوه وليس في إنجيلهم أيضا من هذه الأحكام شيء وعند هذا تبين أنهم خالفوا كتب الله وتركوا سنة رسل الله وتحكموا في ذلك بأهوائهم وتركوا سنن أنبيائهم فحقت عليهم لعنة الله أبد الآبدين وغضبه إلى يوم الدين

فإن قالوا تلك الأحكام التي في التوراة منسوخة بكتابنا وعلى لسان مسيحنا قلنا لهم هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بل نقول إن عيسى عليه السلام جاء متمما لأحكام التوراة ولم يجيء مغيرا لأحكامها ولا ناقضا لها وكذلك نقلتم في إنجيلكم أن عيسى قال إنما جئت متمما ولم آت لأنقض شريعة من قبلي

وهذا خلاف ما تدعونه من النسخ بل يقتضى هذا بحكم ظاهره أنه لا ينسخ شريعة من قبله وإنما يوضحها ويحيى ما أميت منها ثم لا يبعد أن يكون قد نسخ بعض أحكام التوراة وغاية ما يوجد له من النسخ قوله وقيل من فارق امرأته فليكتب لها كتاب طلاق وأنا أقول من فارق امرأته منكم فقد جعل لها سبيلا إلى الزنا ومن تزوج مطلقة فهو فاسق

ثم قال بلغكم أنه قيل العين بالعين والسن بالسن وأنا أقول لكم لا تكافئوا أحدا بسيئة ولكن من لطم خدك الأيمن فأعطه الآخر ومن أراد نزع قميصك فزده ردائك

فمثل هذا يمكن أن يقال فيه إنه نسخ وإذا بحث عن كتابكم كما يجب لم يوجد فيه نص من هذا على النسخ فمن ادعى منكم أن شيئا مما ذكر في التوراة تحريمه منسوخ فليأت بناسخ يشبه هذا القول فإن لم تأتوا بشيء من ذلك دل على أنكم متحكمون هنالك مطالبة وهي أنا نقول لهم:

لأي معنى حرمتم من نكح قريبته خمسا وعشرين سنة من القربان وحرمتموه من نكح بهيمة ثلاثين سنة ولو عكستم ذلك كان أشبه فإن نكاح الآدمية القريبة أشنع من حيث أنها محرمة من نكاح بهيمة لا احترام لها وكذلك نعكس عليهم كل ما ذكروه حتى يتبين فساد قولهم

ونقول لهم أيضا لأي معنى لم تجعلوا مكان الثلاثين ثمانية وعشرين أو إثنين وثلاثين ولأي معنى خصصتم هذا العدد دون غيره وعند هذا يتبين بطلان تحكمهم وفساد رأيهم وكذلك نقول لأي معنى شرعتم في العابث مائة سوط ولم تشرعوه فيمن نكح قريبته مع أن التوراة قد أمرت بقتل كل واحد منهما فكان ينبغي أن تسووا في الحكم بينهما فأما أن تضربوا كل واحد منهما مائة سوط أو لا تضربوهما فظهر من هذا أنكم تركتم حكم التوراة ثم لم تعدلوا فيما تحكمتم به ثم من أعظم تواقحكم أنكم سهلتم الفواحش على أنفسكم وصعبتموها على غيركم فحكمتم على الأسقف الذي يعبث بأن يبعد فقط وعلى غيرهم بأن يبعدوا وينكلوا ويجلدوا إذا فعلوا تلك الفاحشة ولو عكستم ذلك لكان أشبه فإن التغليط على الأقسة مناسب لحالهم فإن المعاصي تقبح في حقهم أكثر مما تقبح في حق غيرهم فإن من كلام النبوة أن من أشد الناس عذابا عالم لم ينفعه الله بعلمه ومن كلام الحكماء حسنات الأبرار سيئات المقربين ثم هذا المعنى معلوم من عادة الملوك فإنهم يعاقبون وزراءهم والوقافين على رؤوسهم ويؤاخذونهم على أمور لا يحسن منهم أن يؤاخذوا بها سائس الدواب بل لكل مقام مقال ولكل عمل رجال وكيف لا تقبح المعاصي في حق الأقسة والأساقفة وهم قد نزلوا أنفسهم منزلة الأنبياء حيث شرعوا الشرائع وتحكموا بوضعها بل تنزلوا منزلة المكلف الغافر الذي له الخلق والأمر

فإنهم قد قالوا للعوام إن غفراننا لكم غفران الله وحرماننا لكم حرمان الله فإذا أعطينا نحن القربان فقد قبله الله وإذا لم نعطه لم يقبله الله وإذا غفرنا نحن الذنب فقد غفره الله فإن غركم الشيطان وقد فعل بأن تقولوا إن لنا لأجل القسيسية منزلة وحظوة فاتركوا العمل بشريعتكم لأجل مالكم عند الله من الفضل ولا تحرموا على أنفسكم شيئا من الفواحش وقد سمعنا هذا النوع عن بعض أقسة أرغون فعليهم لعنة الله ولعنة اللاعنين ثم نقول لهم يا معشر الأساقفة الجاهلين والقسيسين المتحكمين من أنتم حتى تكونوا شارعين أأنتم عقاب رب العالمين أحصلتم على رضاه أجمعين بل ينبغي أن تتحققوا أنكم في العذاب خالدون حيث كفرتم برسالة سيد المرسلين مع ما دلت عليها من الشواهد والبراهين فلقد صدق الله وهو أصدق القائلين حيث قال مخبرا عن الأخبار والقسيسين وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير

الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد
مقدمة | صدر الكتاب | الباب الأول: في بيان مذاهبهم في الأقانيم وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: أقانيم القدرة والعلم والحياة | الفصل الثالث: تعليل التثليث | الفصل الرابع: دليل التثليث | الفصل الخامس: في بيان اختلافهم في الأقانيم | الباب الثاني: في بيان مذاهبهم في الاتحاد والحلول وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: معنى الاتحاد | الفصل الثالث: الواسطة بين الله وبين موسى | الفصل الرابع: تجسد الواسطة | الفصل الخامس: في حكاية كلام المتقدمين | الفصل السادس: في حكاية مذهب أغشتين إذ هو زعيم القسيسين | الباب الثالث: في النبوات وذكر كلامهم | الفصل الأول: احتجاج أصحاب الملل | الفصل الثاني: المسيح المنتظر | الفصل الثالث: المسيح عيسى ابن مريم | فصل: في بيان بعض ما طرأ في التوراة من الخلل وأنها لم تنقل نقلا متواترا فتسلم لأجله من الخطأ والزلل | فصل في بيان أن الإنجيل ليس بمتواتر وبيان بعض ما وقع فيه من الخلل | الفصل السابع: هاجر أم إسماعيل الذبيح | القسم الثاني: في النبوات وإثبات نبوة محمد | القسم الثاني: في إثبات نبوة نبينا محمد | النوع الأول من الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: إخبار الأنبياء به قبله | النوع الثاني: الاستدلال على نبوته بقرائن أحواله | خاتمة جامعة في صفاته وشواهد صدقه وعلاماته | النوع الثالث: الاستدلال على نبوته صلى الله عليه وسلم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد | الوجه الأول من وجوه إعجاز القرآن | الوجه الثاني | الوجه الثالث | الوجه الرابع | النوع الرابع | الفصل الثالث عشر في ما ظهر على أصحابه والتابعين لهم من الكرامات الخارقة للعادات | الباب الرابع: في بيان أن النصارى متحكمون في أديانهم وأنهم لا مستند لهم في أحكامهم إلا محض أغراضهم وأهوائهم | الفصل الأول: ليست النصارى على شيء | الفصل الثاني: خروج النصارى على تعاليم التوراة والإنجيل | الفن الأول: شعائر الدين النصراني وطقوسه | مسألة في المعمودية | مسألة في غفران الأساقفة والقسيسين ذنوب المذنبين واختراعهم الكفارة للعاصين | مسألة في الصلوبية وقولهم فيها | مسألة في تركهم الختان | مسألة في أعيادهم المصانة | مسألة في قربانهم | مسألة في تقديسهم دورهم وبيوتهم بالملح | مسألة في تصليبهم على وجوههم في صلاتهم | مسألة في قولهم في النعيم والعذاب الأخراوين | الفن الثاني: محاسن دين الإسلام