الإعلام بما في دين النصارى/الباب الثاني/الفصل الخامس
الفصل الخامس: في حكاية كلام المتقدمين
لتعلم أيها الناظر في هذا الباب أن النصارى قد كثر اختلافهم وعظم خبطهم وإرتباكهم فلا هم يستقرون فيه على قدم ولا يمشون منه على طريق أمم فقليل منهم من نفى الاتحاد والحلول ولم يقل بشيء من ذلك وهم طائفة متقدمة يعرفون ب الأرؤسية ولا يكاد مذهبهم يخالف مذهب المسلمين إلا في إنكارهم نبوة نبينا محمد ﷺ
وجمهورهم على القول به وإثباته
ثم المثبتون له منهم من قال لا يقال فيه ب كيف ولا يسأل عنه بحرف ومنهم من شرع في بيان كيفيته وتفسير ماهيته فصارت اليعقوبية والنسطورية إلى أن الكلمة خالطت جسد المسيح ومازجته كما يمازج الخمر اللبن والى نحو هذا ذهب الروم وزادو عليهم فقالوا اختلطت الكلمة بالمسيح فصارا شيئا واحدا
ولقد حكى من كلام اليعقوبية ما يدل على توقحهم وجرأتهم على الله تعالى وذلك أنهم قالوا إن الله نزل فدخل في بطن مريم فاتخذ من لحمها جسدا فصار الله مع الجسد نفسا واحدا
وربما أطلق بعضهم القول بأن الله اتخذ ذلك اللحم والدم فزاده في نفسه فصار ذلك اللحم الله وصار معظم اليعاقبة إلى أن الكلمة انقلبت لحما ودما
وأما النسطورية فقالوا ليست تلك النفس هي الله وإنما هي بعضه وهذا هو البهتان الذي يعلم بطلانه بالضرورة كل إنسان
وصارت طائفة من النصارى إلى أن الكلمة حلت جسد المسيح كما يحل العرض محله وصار أخلاط من النصارى إلى أن المراد بالاتحاد ظهور اللاهوت على الناسوت وربما عبروا له عن ذلك بالفيض
ثم اختلفوا في تمثيل ذلك على ثلاثة أوجه فمنهم من قال مثاله ما ينطبع في الأجسام الصقلية من الأشياء التي تقابلها ومنهم من قال مثاله الطابع المنقوش إذا اتصل بشمع وما يضاهيه فيظهر نقش الطابع عليه وإن لم يحله شيء من الطابع ومنهم من قال معنى ظهور اللاهوت على المسيح كمعنى استواء الإله على العرش عند الإسلاميين مع مصيرهم إلى استحالة المماسة
وربما يعبرون عن الاتحاد بالتدرع كأنهم أخذوا ذلك من لفظ الدرع يشيرون إلى أنا اللاهوت اتخذ ناسوت المسيح درعا
هذه مذاهب المشتهرين من طوائفهم
وأما اختلاف آحادهم فمما لا يكاد ينضبط ولا يرتبط ومن أراد الوقوف على شيء من ذلك فليطالع كتاب المسائل لهم ففيه يرى تحيرهم وخبطهم
ونفرد بعد هذا إن شاء الله بابا نذكر فيه كلام أغشتين فإن مذهبه في الاتحاد مخالف لمذهب من تقدم ذكره من الفرق والقسيسين
الجواب عن كلامهم
أما من حكى عنه نفى الاتحاد فقد قال بالحق وأتى بالمراد
وأما من أثبته وقال إن الاتحاد لا يسأل عنه ولا يكيف فنقول معنى الاتحاد لا يخلو أن تعرفه أو لا تعرفه فإن لم يعرفه فقد اعترف بجهله وناقض متقدم قوله فإنه اعترف بالاتحاد وادعى ثبوته للمسيح وحده ثم لما طولب بتثبيته قال لا أعرفه وهذا تناقض وقول باطل وأما من قال أعرفه إلا أنني يقصر عن إدراك حقيقته عقلى ولا أقدر على العبارة عنه وهذا كما قلتم أنتم في جوابكم عن كيفية سماع موسى كلام الله تعالى حيث قلتم أنه لا يسأل عنه بكيف فإنه ظلم وحيف فنقول أما قولك أعرفه إلا أنه يقصر عقلي عن إدراك حقيقته فمتناقض أيضا لأن كل معروف لا بد أن يرتسم في العقل ويحصل فيه على الوجه الذي يكون معروفا منه فأما على الجملة وأما على التفصيل وما لم يرتسم في العقل لا جملة ولا تفصيلا فليس بمعلوم وأنت إذا ادعيت أنك عالم بالاتحاد فلا بد أن تكون عالما به أما على الجملة أو على التفصيل وكيفما كان فلا بد لك من أن تعبر عن معلومك على أي وجه كان وإلا فأنت جاهل بالاتحاد ومن جهله كافر عندكم وأما تشبيهك هذا بكيفية سماع موسى فليس بصحيح لأنا مهما قيل لنا كيف سمع موسى كلام الله فإنما نسأل عن أمر لم نعلمه علم ذوق وعن تفصيل ما لم نعلمه تفصيلا بل علمناه على الجملة
ولذلك أجبنا بقولنا إن الله تعالى خلق له إدراكا سمع به كلام الله تعالى الذي هو وصفه الذي ليس بحرف ولا صوت ففهمنا الإدراك على الجملة ولم نفهمه على التفصيل وأنت لم تعرف الاتحاد جملة ولا تفصيلا بل جهلت وادعيت أنك علمت ف(هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)
وأما من قال إن الكلمة خالطت جسم المسيح ومازجته ممازجة الخمر اللبن فكلام فاسد قائله للعقل فاقد وذلك أن المفهوم من المخالطة والممازجة لا يتصور إلا في الجواهر المتحدات وذلك ان المخالطة إنما يعبر بها عن تجاور الجواهر وإجتماعها بحيث يكون كل واحد من الجواهر المتمازجة يحفظ حيزه ويشغله ويمنع منه غيره
ولذلك إذا أفرغت إناء ماء على إناء لبن مثلا وتمازجا كثر اللبن وصار لا يسعه بعد الممازجة ما كان والعلم ليس بجوهر فاستحال عليه الاختلاط والامتزاج بالضرورة
فإن أرادوا بالامتزاج والاختلاط أمرا آخر فلا بد من بيانه وإفادة تصوره ولا يتكلم على الشيء ردا وقبولا إلا بعد كونه معقولا ولو سلمنا الممازجة جدلا للزم عليها أنواع من المحالات منها قيام الصفة بنفسها وانتقالها وبقاء جوهر الله تعالى عريا عنها على قولهم والعرى عن العلم جاهل والجهل على الله محال ويلزم على ذلك أن لا يكون العلم أزليا بل حادثا مخلوقا وأن حاله تغيرت وبعد أن لم يكن مختلطا ممتزجا مختلطا
وهذان أمران حادثان ولا يخلو عن أحدها وما لا يخلو عن الحوادث حادث على ما يعرف في موضعه وهذه أمور باطلة فالمفضى إليها باطل وهو الاختلاط
وأما من قال بالحلول فليس له محصول ولا معقول لأن حقيقة الحلول إنما هي أن يحصل جسم أو متحيز في شيء أو على شيء فيسمى الحاصل حالا والمحصول فيه يسمى محلا وتسمى النسبة بينهما حلولا وهو الذي يسميه النحوي مصدرا هذا هو المفهوم من حقيقة الحلول
وقد يتوسع فيه فيقال حل العرضفي في محله ومعناه صار المحل متصفا به وصار العرض قائما به وموجودا فيه
فإن أردتم حقيقة الحلول كان محالا فإن العلم ليس بجسم ولا جوهر على مامر
وإن أردتم الثاني فهو محال أيضا لأنه يلزم عليه مفارقة العلم الجوهر وبقاؤه جاهلا ويقوم عرض واحد بمحلين في زمان واحد ويلزم عليه إنتقال الصفة من محل إلى محل وحدوثها إلى أنواع من المحالات لا يبوء بها عاقل ومنتحلها أحمق جاهل
وقد صرحوا بأنهم أرادوا بالحلول حلول الجوهر في العرض وقد صرحنا نحن بما يلزمهم من المحالات على ذلك وبيناه والحمد لله
ثم نقول لهم بعد ذلك في قولهم بالاختلاط وبأنهما صارا شيئا واحدا لا خلو أن حين اختلطا أما أن يبقى العلم موجودا بحاله والجوهر موجودا بحاله أم ينعدم أحدهما أو ينعدما معا
محال أن يبقيا موجودين بحاليهما مع فرض الاختلاط وكونهما شيئا واحدا فإن الواحد لا يعود إثنين إلا بإضافة غيره إليه وإذا أضيف غيره إليه ارتفعت الوحدة بالضرورة على ما تقدم في التثليث وكذلك الإثنان لا يعودان واحدا إلا إذا انعدم أحدهما فترتفع الأنثينية بالضرورة ومحال أن ينعدما فإنه يؤدي إلى عدم القديم وإلى عدم ما هو موجود في حالة وجوده فلم يبق إلا أن ينعدم أحدهما دون الآخر وذلك محال فإن الموجود لا يخالط المعدوم ولا يمازجه بل يبقى الواحد واحدا
وإذا بطلت هذه الأقسام المنحصرة بطل الامتزاج والاختلاط ومصير الإثنين واحدا على ما قالوه
وأما من قال إن الكلمة انقلبت لحما ودما فلقد ارتكب حماقة والتزم عمى يلزمه عليه جواز عكس مذهبه وهو أن ينقلب اللحم والدم علما والقديم حادثا والحادث قديما إلى غير ذلك من المحالات التي لا تصدر عن من شد أطرافا من المعقولات ولولا الحمق والتقليدات لما وجد مثل هذه الفواقح في كلام أحد من المخلوقات
وأما من قال إن الاتحاد هو ظهور وفيض ومثله بانطباع الصور في المرآة فهذا المثال إنما كان يصح لو كان العلم صورة محسوسة بالبصر ويكون جسد المسيح صقيلا تنطبع فيه صورة المقابلات وكل ذلك معدوم في مسألتنا بالضرورة فتخيله فاسد وباطل بالضرورة فكما لا تتمثل ذات الحياة والإدراكات في المرآة كذلك لا تتمثل الكلمة في جسد المسيح
ثم إن جاز انطباع علم الله في جسد البشري فلينطبع في كل ما يشبهه في الجسدية وسيأتي لهذا مزيد بيان وفيما تقدم ما يبين فساده واستحالته
وأما التمثيل بنقش الخاتم يعود منحفرا في الشمع والمنحفر في الخاتم يعود ناتئا في الشمع فذلك لا يتصور إلا في الأجسام وإن جاز في غير الأجسام فيلزم أن يكون كل واحد منهما أعنى اللاهوت والناسوت يؤثر في الآخر ويحل فيه فيكون الناسوت حل في اللاهوت وذلك محال عند كل فريق والأمر الثاني أن النقش في الخاتم يوضع مقلوب الكلمات ثم تنطبع مستقيمة في الشمع ولو وضعت في الخاتم مستقيمة لانطبعت في الشمع منعكسة فيلزم على مساق هذا المثال أن تنطبع الكلمة في الناسوت أما الاستقامة أو بالعكس فإن انطبعت فيه بالاستقامة فأقنوم الكلمة في الجوهر بالإنعكاس وإن انطبعت فيه بالإنعكاس فلم تبق الكلمة في الناسوت على حقيقتها في اللاهوت بل هي منعكسة فلا تبقى حقيقة العلم على ما كانت بل هي ليس بعلم وهذا كله مما يلزم على آرائهم الفاسدة وتحكماتهم الباردة
وأما من لبس منهم بأن مثل قولهم في الاتحاد بقولنا في إستوائه تعالى على العرش فذلك مما لا يقال عليه عندنا اتحاد ولا حلول ولا فيض ولا انطباع لأنا نريد بقولنا هو على العرش مستو واستوى على العرش أن العرش تحت قبضته ومسخر بقدرته والإستواء عليه إنما هو بمعنى الإستيلاء على ما يعرفه العرب من كلامها فإنها تقول: قد استوى بشر على العراق... بغير سيف ودم مهراق...
فإن أرادوا هذا المعنى فهو حق وصحيح لكنه لا يصح في حق عيسى وحده فإن الله تعالى مستول على عيسى وعلى غيره وأما من أطلق منهم لفظ النزوع فيستحيل على الحقيقة والتوسع وذلك أن هذا اللفظ يشعر بأن اللاهوت اتخذ الناسوت درعا أو كالدرع وهذا كله مستحيل على الإله تبارك وتعالى وعلى علمه وكل ما تقدم من المحالات على هذا المذهب يلزم
وعلى الجملة فهؤلاء القوم أغبياء جاهلون وعن التوفيق معزولون فهم عن المعقولات معرضون وبها مستهزءون لا يستحيون من خالقهم ولا يتأدبون مع مالكهم ورازقهم فسبحان الله عما يقول الجاهلون وتعالى عما ينسبه إليه المبطلون بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
ولولا ضرورة الحال ورجاء قمع أهل الضلال لما استجزت حكاية مثل هذا المقال وأنا أستغفر الله ذا العظمة الجلال إنه ذو العفو والأفضال
ولا بد مع ما تقدم أن نطالبهم أجمعين بصحة الدليل الذي جعلهم على ذلك القول الغث الهجين حتى نتبين تحكماتهم وتظهر لكل أحد ترهاتهم
فأقول لجميعهم ما الذي حملكم على القول بالاتحاد والتورط في الضلال والإلحاد فلتعلم أنهم قد اختلفت مسالكهم في ذلك فمنهم من قال إنما قلنا بذلك تقليدا للإنجيل وحذرا من المخالفة والتبديل كما قال هذا السائل ومنهم من قال إنما قلنا بالاتحاد لأن عيسى ظهرت عليه أفعال لا تنبغي إلا لإله من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وخلق الطير من الطين وهذه أفعال لا يقدر عليها إلا إله وهو قد قدر عليها فهو إذن إله ومنهم من قال إنما صرنا إلى ذلك لكون عيسى لم يخلق من الماء الدافق الكائن عن أبوة ولا خرج عن شهوة آدمية بل خلق الله ناسوته من غير أب ليكون واسطا بينه وبين خلقه وليتخذه لكلمته وربما قال بعضهم ألستم تقرأون في كتابكم إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وهذا عين ما أنكرتم علينا من الاتحاد فإن عيسى رسول الله وكلمته فناسوته رسول الله ولاهوته كلمة الله على ما أخبر به كتابكم
فنقول لمن قال بذلك تقليدا للإنجيل: جوابك قد تبين فيما تقدم إذ قد تقدم أن فهم الاتحاد منه بالمسيح باطل وأن الصائر إلى الاتحاد بعد الوقوف على ما تقدم معاند جاهل
وأما من استدل منهم على ذلك بما ظهر على يدي المسيح من خوارق العادات فنقول له لأي شيء قلت أنها تدل على ألوهيته ولم تقل إنها تدل على ما كان يستدل هو بها من رسالته فقال رب أعلم أنك تعطينى كل شيء ولكن أقول من أجل الجماعة الواقفة ليؤمنوا به وليصدقوا أنك أرسلتني فهو قد استدل بإحياء الموتى على رسالته وأنتم تستدلون بذلك على ألوهيته فيلزم من هذا الاستدلال العدول عن شرع عيسى المنقول ومصادمة العقول
ثم نقول لهم كيف ينبغي لكم أن تقولوا هذه الأفعال العجيبة تدل على أنه لاهوت وأنتم تعزون في كتبكم أن عيسى كان إذا أراد أن يفعل شيئا مما ذكر تضرع إلى الله ورغب إليه بخضوع وتذلل حتى يقضى الله حاجته وهذا موجود في كتبكم كثيرا فيها
وكفى دليلا علىنفي ما تنسبونه إليه قوله حين صلبه بزعمكم إلهي إلهي لم أسلمتني وقوله قبل ذلك يا أبتاه إن كانت هذه الكأس لا تقدر تجاوزني حتى أشربها فلتكن إرادتك وهذا كله في سجوده
وفي هذا الموطن قال يا أبتاه إن كان ممكنا فلتذهب عني هذه الكأس
وفي إنجيل ماركوش أنه قال في هذا المقام سيلقى ابن الإنسان ما كتب له ثم قال بعد ذلك يا أبتاه إنك قادر على جميع الأشياء فرج عني هذه الكأس فهذا كله يدل دلالة لا شك فيها أنه كان يفعل ما يفعل بإذن الله إذا أراده وأقدره عليه
وأنه إنما كان يتفق له ذلك بعد أن يتضرع ويرغب لله تعالى وربما كان يسأل أمورا لا يعطيها الله له لما سبق في علم الله أنها لا تكون، منها:
ما تقدم حيث سأل الله أن يدفع عنه أمر الصلب والقتل فلم يجب لذلك على زعمكم ومنها أن اليهود كانت تطالبه بمثل بعض معجزات موسى بن عمران فلا يجيبهم بشيء وسيأتي لهذا مزيد ودليل ذلك من الإنجيل أن عيسى قال لليهود لست أفعل من ذاتي شيئا لكنني أحكم بما أسمع لأني لست أنفذ إرادتي بل إرادة الله الذي بعثني إلى ما في كتبكم من هذا الذي قد عميتم عنه ولم تسمعوا حرفا منه فتارة ينبهكم على وجه الاستدلال وأخرى يصرح بالمقال وتارة يسأل فيعطى ويجاب وأخرى يسأل فلا يرد عليه جواب وحينما يتبرأ من مشيئته ويعترف بزلته وعبوديته ثم هؤلاء القوم مع ذلك يقولون هو إلهنا ومحيينا وخالقنا فهؤلاء يكونون بكم كالأنعام وصم كالأصنام فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا
ثم نقول إن كان إحياء الأموات يدل على الألوهية فلأي شيء لا تقولون إن الياس واليسع كانا إلهين وأنه حل بناسوتهما اللاهوت وشأنهما في إحياء الموتى لا يقدر أحد على دفعه ولا يخفى
ولم لا تعتقدون ألوهية النبي حزقيال إذ فر قومه وهم ألوف حذر الوباء فأماتهم الله ثم جاءهم نبيهم فقال لهم لتحيوا بإذن الله فحيوا ورجعوا إلى قومهم سحنة الموت على وجوههم حتى ماتوا بآجالهم وهذا معروف عندهم ولا مدفع فيه
وإن أنكرتم وجود شيء من ذلك نزلنا معكم إلى ما في الكتب القديمة من قصص الأنبياء وكتبهم وهذا لازم لهؤلاء القوم لا ينفك عنه واحد منهم أبدا
ثم من عجيب أمر هؤلاء القوم أنهم يزعمون أن عيسى عليه السلام أيد نفرا من الحواريين بإحياء الموتى وجعلهم رسلا إلى الأجناس فأحيوا الموتى بزعمهم فما الذي أوجب أن يكون المسيح في حال ألوهيته قد أيد بذلك بشرا وجعله رسولا إلى الأجناس كما زعموا وما الذي منع أن يكون الله تعالى يؤيد بذلك بشرا ويجعله رسولا إلى الناس فإن كان المسيح من أجل أنه أحيا ميتا هو الله فكل من أحيا ميتا من الحواريين وغيرهم هو الله ثم كل خارق للعادة يجعلونه دليلا على ألوهيته فإنهم يعارضون بمثل ذلك في حق غيره من الأنبياء عليه السلام ويدعى ألوهيته فلا يجدون فصلا بينهم وبين من يعارضهم
وأما من استدل على ذلك بأنه خلق من غير أب فيلزمه أن يعترف لآدم بألوهية فإنه لم يخلق من نطفة أب بل إنما خلق من تربة أرض ثم نفخ فيه من روحه كما فعل بعيسى خلقه من نفخة الملك فعلقت بلحمة مريم فنشأ منها وفيها فتربه بمنزلة لحمه ونفخه بمثابة نفخه وهذا مالا مخلص منه ولا خروج عنه ثم أكرمه الله تعالى بأنواع من الكرامات لم يكرم بها غيره منها أنه أسجد له ملائكته وأعلمه بما لم يعلمهم حتى جعله رسولا إليهم وكفى بهذا شرفا إلى ما هنالك من خصائصه ومن فضائله
بل لو أمكن لأحد أن يقول إن بشرا يتصور أن يكون إلها لكونه من غير أب لكان آدم أولى بذلك من حيث أنه لم تشتمل عليه أوضار الرحم فقد شارك المسيح في كونه من غير أب وزاد عليه أنه من غير أم لم يتكون في ظلمة الرحم ولم يتلطخ بدم الطمث ولا خرج من مجرى البول هذا مع الإعتراف بأن ذلك كذلك ولم يختلف في ذلك أحد أعنى في أن آدم مكون مخلوق من غير أبوين
وقد خالفتكم اليهود لعنهم الله في كون الهكم المسيح من غير أب وأطلقت القول على مريم البتول المبرأة عند الله مما قالوا بما قد علمتم فلعنهم الله وغضب عليهم فلقد كذبوا
وإنما أسمعتكم هذا لتعلموا أنا نعرف ما قالت اليهود لعنهم الله في عيسى وأمه عليهما السلام وأنا ننزههما عما قال فيهما المبغضون لهما والمحبون القالون فيهما فما أجمل بكم لو شاء الله توفيقكم أن لو قلتم فيهما الحق الذي ينبغي لهما أن الله جعل عيسى وأمه آية للناس هو عبدا ورسولا وأمه صديقة مباركة
ثم نقول للمستدل بما تقدم يلزمك على استدلالك أن تكون حواء أم البشر إلها فإنها لم تخلق من أبوين ولا من نطفة وإنما خلقها الله من ضلع من أضلاع آدم لم تتكون في ظلمات الرحم ولا نشأت بين الأقذار والأوضار وخلقها من ضلع آدم كخلقه من تراب ولا فرق وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون
وأما استدلالهم بما في كتابنا من قوله تعالى إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فلا حجة لهم في ذلك لوجوه:
أحدها أنهم لا يصدقون بكتابنا فلا يستدلون به على شيء
والثاني أنهم إن استدلوا على غرضهم بشطر هذه الآية فإن صدرها يرد عليهم استدلالهم وكذلك الآيات التي بعدها قال الله تعالى في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد مخاطبا لهم وردا عليه ياأهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا
ونورد بعد ذلك إلزامات لهم
إلزام لهم
نقول لهم حين صار أقنوم العلم لعيسى كيفما صار هل بقى الرب تعالى كما كان قبل ذلك أو اختلفت حاله فإن كان كما كان قبل فلم يصر لعيسى منه شيء وأيضا فلو صار إليه بعض أقانيمه لبقى ناقص الأقانيم وتبطل ألوهيته فإن حقيقته عندهم واحد ثلاثة أقانيم وأما إن اختلفت حاله فيلزم عليه أن يصير من العلم إلى الجهل ومن القدم للحدوث وهذا كله على الله تعالى محال ومرتكبه في بحبوبة الضلال
إلزام آخر
نقول لهم حين صار أقنوم العلم لعيسى فهل بقى الباري تعالى عالما بذلك الأقنوم أم بغيره أو غير عالم باطل أن يقال غير عالم لاستحالة الجهل عليه وباطل أن يقال بقى عالما بذلك الأقنوم إذ لو كان ذلك للزم منه ألا يصير إلى عيسى ويلزم منه أيضا أن يكون علم واحد يقوم بمحلين ولو صح ذلك يصح أن يكون الواحد منا موصوفا بنصف علم وذلك محال فإن العلم الواحد لا يتبعض ولا ينقسم إذ العلم للواحد إنما يعقل في محل واحد بمعلوم واحد في زمان واحد فيما يقبل الزمان والتعدد وباطل أيضا أن يقال أنه يكون عالما بعلم آخر فإنه يؤدي إلى حدوث الأقانيم بل إلى حدوثه وذلك كله محال
إلزام آخر يظهر تناقضهم
وذلك أنه قد تقدم من مذهبهم أنهم قالوا في الأقانيم أنها غير متباينة ولا مفترقة ثم أنهم قد قالوا هنا
إن أقنوم الابن اتحد بناسوت المسيح دون أقنوم الأب وروح القدس فمفهوم هذا أن الابن اتحد بناسوته وبقى جوهر الأب وروح القدس لم يتحدا به وهذا تصريح بالمباينة والمفارقة فإن بعض هذه الثلاثة وجب له أمر دون صاحبيه فلو لم يباينهما ولم يكن غيرهما لما وجب له من الحكم ما لم يجب لهما ولا تناقض فظهر من هذا تناقضهم وقد كنا أظهرنا اضطرابهم في هذا في باب الأقانيم
ثم نقول تحقيقا لالزام الجميع
هذه الأقانيم إما أن تكون مباينة للجوهر مفارقة أو لا تكون كذلك
فإن كانت مباينة لزم أن تكون زائدة عليه وإن كانت زائدة عليه لزم أن يكون الإله متركبا من أمور كما مر وقد أبيتم ذلك وهو محال ويلزمكم أيضا إخراجها عن كونها أقانيم ويلزمكم رفع التوحيد إلى محالات كثيرة عندكم وإن كانت غير مباينة لم يصح اتحاد بعضها دون بعض بل لو اتحد بعضها لاتحد جميعها فيلزم على هذا اتحاد العلم والقدرة والإرادة والوجود وهذا بين لا خفاء به
إلزام آخر وطلبه
نقول لهم لأي شيء قلتم أن الذي اتحد بناسوت المسيح إنما هو الابن فقط ولأي شيء لم تقولوا أنه اتحد به الأب وروح القدس ولو قلتم ذلك لكان أجرى على ما أصلتم من أن الأقانيم لا متباينة ولا مفترقة
فإن قالوا إنما قلنا باتحاد الابن لأن عيسى إنما أرسله الله ليعلم الناس شريعتهم ويخبرهم بالمغيبات عنهم ويعظهم وذلك كله إنما يصح بالعلم
فنقول لهم هذا الذي ذكرتم مسلم لكم جدلا لكن لم قلتم أنه إنما اتخذه الله لهذا فقط وإنما هو اتخذه لهذا ولأمور أخر
منها
ليعبده
ومنها
ليبرئ مرضى كانوا قد أعيوا الأطباء وأراد الله تعالى شفاءهم على يديه
ومنها
أنه أراد إحياء موتى على يديه
فتحصل من هذا أمران أحدهما أن هذه معجزات تدل على صدقه والثاني أن من أبرأه أفاق من مرضه وجذامه وجنونه وبرصه فانتفع بذلك وكذلك يحصل للميت الذي حيى وزائدا على ذلك أن الميت آمن به فأدخله الله الجنة بإيمانه برسوله وهذه الأمور كلها لا لا يمكن إنكار أن يكون كل واحد منها مقصودا لله تعالى واذا أمكن أن يكون كل واحد من هذه الأمور مقصودا فلم اقتصرتم على مقصود واحد من هذه الأمور مقصودا فلم اقتصرتم على مقصود واحد مع إمكان هذه المقاصد وإذا تقرر ذلك حصل منه أن الله تعالى اتخذه لما لا يصح إلا بالعلم والقدرة والإرادة والحياة فقولوا إن هذه الأقانيم اتحدت به وهذا لازم لا محيص عنه ولا جواب عليه ثم يلزم على هذا أن يكون كل نبى أرسله الله تعالى يتحد به العلم فإن هذا الذي استدللتم به في حق عيسى موجود في حق غيره من الرسل إذ كل واحد منهم إنما أرسل معرفا بشرع الله ومبلغا رسالة الله ومخبرا بوعد الله ووعيده فيلزم على هذا أن يتحد العلم بكل رسول
إلزام آخر
قد تقرر أن عيسى عليه السلام كان يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طائرا فإذا قلنا هذا فأما أن يكون عيسى هو الذي يفعل ذلك أو غيره فإن كان غيره فليس ذلك إلا الله تعالى وغاية عيسى أن يكون عبدا يرغب لله تعالى في قضاء حاجته ثم إن الله تعالى يفعل ما يشاء عند تحديه بالنبوة تصديقا له في دعواه وعيسى ينظر إلى ذلك ويتعجب عند ذلك من فعل الله ولطيف صنعه وهكذا كان حال موسى عندما أيده الله بالعصا فقل له ألقها فألقاها فإذا هي حية تسعى فلما رآها على حال لم يعرفه منها هاله ذلك وولى مدبرا خائفا وذلك لما شاهد من قدرة الله تعالى فلما فرغ قال الله تعالى له خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى
وإذا قلنا إن عيسى هو الذي يفعل ذلك فأما أن يفعله بقدرة وعلم وإرادة أو لا يحتاج إلى شيء من ذلك باطل أن يقال أنه لا يحتاج إلى شيء من ذلك لأن الفعل الإختياري لا بد له من هذه الأمور بالضرورة على ما يعرف في موضعه فلم يبق إلا أن يفعل ذلك بقدرة وعلم وإرادة وهذه الصفات هي شروط الفعل ولا بد وأن تكون منسوبة له ويكون هو موصوفا بها أو لا تكون منسوبة إليه ولا يكون هو موصوفا بها فإن لم يكن هو موصوفا بها ولا تنسب إليه فلا ينسب الفعل إليه وقد نسبتم الفعل إليه فدل ذلك على أنه موصوف بها وتنسب إليه كلها وإذا ثبت ذلك فليس من يسلب عنه القدرة والإرادة ويقول هما صفتان لله تعالى وليستا بصفتين لعيسى فتبرؤوا حالا ممن يسلب عنه العلم ويقول هو علم الله تعالى وليس علم عيسى مع أنه صفة عيسى فيلزم عن هذا البحث أن هذا الفعل المنسوب إلى عيسى موجود عن علم وقدرة وإرادة وأن هذه الثلاثة إنما تنسب لواحد فإما لله وإما لعيسى ولا يجوز عقلا أن ننسب بعضها لله وبعضها لعيسى فإن هذه الثلاثة مشروط بعضها ببعض فالمحل أو الجوهر الذي يجب لأحد هذه يجب للباقي وهذا مالا خفاء به عند العاقل الموفق
إلزام آخر
قد تقرر عند هؤلاء القوم أن علم الله اتحد بعيسى ولا خلاف بين جمهورهم في هذا المعنى وإن اختلفت عباراتهم عنه فعيسى عالم والله تعالى عالم بعلم واحد فقد اتحد أقنوم العلم وتعدد المحل فإذا ثبت ذلك لزم عليه أن يكون عيسى عالما بكل معلومات الله تعالى ويكون الله تعالى عالما بكل معلومات عيسى فإنهما عالمان بعلم واحد فإذا علم الله أنه هو نفسه خالق المخلوقات ينبغي لعيسى أن يعلم أنه هو نفسه خالق المخلوقات كذلك لأن علمهما واحد وكذلك إذا علم الله أنه هو نفسه قديما باقيا موصوفا بصفات الكمال ينبغي لعيسى أن يعلم أنه هو نفسه كذلك وإذا علم عيسى نفسه متغوطا بائلا ومصفوعا ومتوجا بالشوك ومصلوبا في حشبة ومسمرة يداه ورجلاه فيها فينبغي لله تعالى أن يعلم نفسه كذلك تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وهذا كله لازم على هذا المذهب السخيف الفاسد الضعيف
إلزام آخر
اتفق النصارى القائلون بالاتحاد على أن عيسى لا هوت وناسوت فبما هو لاهوت يحيى الموتى ويبرئ المرضى وغير ذلك وبما هو ناسوت يجوع يعطش ويبول ويتغوط ويفرح ويألم ويحزن ويلتذ ثم يعبدون ناسوته ويجعلونه إلها فهم بين أمرين إما أن يقولوا إن جسده المتغوط البائل إله أو هو شطر إله فإن قالوا إن جسده إله فكفى شناعة وهجانة إله بائل متغوط مصلوب وإن قالوا إنه إله بما حل فيه من الإله فكان ينبغي لهم أن يقولوا إنه نصف إله ولا يعبدون جسمه ولا يسجدون لجسده وإذا قالوا إلهنا المسيح قالوا مكان يا إلهنا يا نصف إلهنا أو يا ثلث إلهنا فإنه اتحد به أحد الأقانيم الثلاثة والواحد من الثلاثة ثلث وهذا كله جهالات وتواقحات منهم
إلزام آخر
وذلك أنهم اتفقوا على أن المسيح صلب وقتل بالنخز ورفع فوق خشبة بعد أن أهين وصفع ووضع على رأسه الشوك وسمرت يداه ورجلاه في الخشبة وقد جاء كل هذا في أناجيلهم كما زعموا فنقول لهم ألوقت الذي أهين وصفع ورفع على الخشبة وسمرت يداه ونخز هل كان متحدا به اللاهوت أو زال عنه فإن كان متحدا به اللاهوت في تلك المواطن فلقد أدرك لا هوته من المذلة والإهانة والنخز والموت ما أدرك ناسوته لا سيما وقد ألتزمتم فيما تقدم أن أقنوم العلم حي فيلزمكم على هذا أن تعبدوا إلها ذليلا مهانا ينخز ويموت وكفى بهذا خزيا وفضيحة وإن قلتم إنه فارقه فإذا جاز أن يفارقه في موطن جاز أن يفارقه في كل موطن وهذا مما يأبونه ويلزم عليه إن فارقه أن يكون جاهلا وألا يكون إلها فتعبدون ما ليس بإله
وقد خرجنا مع هؤلاء الجهال بخالقهم المستهزئين بأديانهم إلى حد الإكثار وفارقنا شرط الإختصار وقد أطنبنا في هذا الفصل وإن كان لا متمسك لصاحبه ولا أصل لكونهم متفقين عليه ومحتجين به ومتحومين نحوه
ولا يظن الظان أن هذا المذهب الذي ارتكبه هؤلاء القوم في الأقانيم والاتحاد محتاج في إبطاله إلى نظر وإجتهاد بل العقول بأوائلها تشهد بفساده كما أن الحس يدرك بياض الجسم من سواده وهؤلاء معاندون وللضروريات جاحدون
ومن كان حاله كذلك إنما يتكلم معه بضرب الأمثلة بأبين المدارك وتعديل الإلزامات وتكثير المسالك ليتبين الإفحام ويلقى يد الإستسلام وقد قدمنا العذر عن ذلك كله في أول الكتاب وإلى الله أرغب في الهداية للصواب وحسن المنقلب إليه والمآب