الإعلام بما في دين النصارى/الباب الرابع/مسألة في الصلوبية وقولهم فيها
مسألة في الصلوبية وقولهم فيها
[عدل]لا خلاف عند النصارى أن إنكار صلب المسيح كفر ومن شك فيه فهو كافر وأنا الآن أذكر كلامهم في الصلوبية وفي معناها عندهم
قالوا: الكلمة هو الله وهو مخلوق من طريق الجسم وخالق من طريق النفس وهو خلق جسمه وهو خلق أمه وأمه كانت من قبله بالناسوت وهو كان من قبلها باللاهوت وهو الإله التام وهو الإنسان التام ومن تمام رحمته على الناس أنه رضى بهرق دمه عنهم في خشبة الصلب فمكن اليهود أعداءه من نفسه ليتم سخطه عليهم فأخذوه وصلبوه وغار دمه في إصبعه لأنه لو وقع شيء من دمه على الأرض ليبست إلا شيء وقع فيها فنبت في موضعه النوار لأنه لما لم يمكن في الحكمة الأزلية أن ينتقم الله من عبده العاصي آدم الذي ظلمه واستهان بحقه فلم يرد الله الإنتقام منه لاعتلاء منزلة السيد وسقوطه منزل العبد أراد أن ينتصف من الإنسان الذي هو إله مثله فانتصف من خطيئة آدم بصلب عيسى المسيح الذي هو إله متساو معه فصلب ابن الله الذي هو الله في الساعة التاسعة من يوم الجمعة
هذا نص كلامهم من غير زيادة ولا نقصان
وقال بليون الجاثليق في رسالته لليون الملك كبول: أسرتنا لا يمكن أن تحل إلا بأن يطلع إنسان من جنسنا وطبيعتنا من لا تضبطه معصية الذنب على ضد آدم ومن بدمه الطاهر تمحو أزلات الريق المهلك الذي كان حتمه الله وقضى به منذ البدء فتم ذلك الفعل عند إنقضاء الزمان المحدود وذلك ليتم الوعد الموعود
مفهوم هذا الكلام أن ذنب آدم كان في رقاب بنيه إلى أن قتل عيسى وانتقم منه لأجل آدم وحينئذ عفى عن آدم وبنيه ولهذه الحكمة كانت صلوبية المسيح عندهم. يا معشر العقلاء انظروا بعين الإعتبار جهل هؤلاء الأغمار وجرأتهم على العزيز الجبار وقولهم بالشتيمة في الأنبياء الأخيار فلقد ارتكبوا من المحالات وقالوا من الأكاذيب والترهات ما لم يقله أحد من المخلوقات ثم لم يكتفوا بهذه العظائم حتى أضافوا لله ولأنبيائه أعظم النقائص والشتائم فلله سر في أبعاد بعض العباد ومن يضلل الله فما له من هاد
فهؤلاء كما قال الله العظيم في كتابه الكريم صم بكم عمى فهم لا يرجعون
واعلم أنا لو تتبعنا تناقض هذا الكلام وأوردنا الإلزامات عليه لكتبنا في هذه المسألة وحدها سفرا على أن العقلاء يعلمون فساد هذا المذهب بالضرورة عند مجرد الوقوف عليه ولذلك لم يصر إلى نحو هذا المذهب السخيف والقول القبيح أحد من الأمم لا من العرب ولا من العجم لا في الحديث ولا في القدم وإنما صار إليه هؤلاء النصارى الجهال لكونهم ليسوا من العقال بل حظهم من العقل حظ المجانين والأطفال فكلامهم أشبه شيء بكلام الموسوسين والمختلطين المبرسمين
ولقد كان يقتضى ما يعلم من حالهم الكف عن مناظرتهم وجدالهم لكن سكوت النبيه ربما كان داعية لتطاول السفيه وقد تقدم هذا الاعتذار عن هذا في أول الكتاب ولكن مع هذا لا بد للمجانين من العزائم وتعليق الأجراس والنمائم فلنورد عليهم من الإلزامات ما يبطل تلك الترهات ويبين تلك الأكذوبات فنقول:
وقد ذكرنا فيما تقدم أن أمر الصلوبية إنما شرعها لهم قسطنطين بن هيلانة الملك وهو الذي سنها وكتبها لهم في الإنجيل ليوغر صدور عامته ورعيته على اليهود وأنه احتال عليهم بالرؤية التي اخترعها فتم له مراده منهم ولم يكن عنده من أمر عيسى إلا خبر جملي ثم اختلق لهم في شأنه أمورا تفصيلية هي محال في نفسها لكنها مهولة على العامة الرعاع كقولهم في الالتحام وفي لاهوت المسيح لم يتركه ألم الصلب والإهانة وإنما أدرك ذلك لحمته وكإطلاق لفظ الطبيعتين على لاهوته وناسوته إلى ما عندهم من الهذيانات التي هي محال بالضروريات
وقد قدمنا في ذلك ما يغنى عن إعادته
واعلم أن النصارى يدعون أن اليهود قتلت المسيح عيسى يقينا وأن اليهود يدعون أنهم قتلوا رجلا ادعى نسخ التوراة بعد أن ادعى النبوة ولم يقم عليها شاهدا
ونحن ندعى أن عيسى ابن مريم عليه السلام لم يقتله اليهود ولا غيرهم بل رفعه الله إليه من غير قتل ولا موت ونحن نبين أن الفريقين في شك منه وغير عالمين بشيء مما يدعونه في صلبه فنقول:
إن مستند النصارى في قولهم بالصلب إنما هو الإنجيل وقد بينا فيما تقدم أنه قابل للتحريف والتبديل وقد أرينا فيه التناقض والتحريف عيانا وأوضحنا على ذلك برهانا مع ما قدمنا من أن نقله ليس نقلا متواترا يفيد العلم وهذا يكفى مع أنهم ليسوا عالمين بشيء مما يتضمنه ولو سلمنا أنه متواتر يحصل بنقله العلم لقلنا أن الأخبار التي فيه التي تتضمن الصلب لا تنص نصية قاطعة للشك على أن المصلوب هو المسيح بعينه بل هي محتملة لأن المصلوب غيره ولم تتفطن النصارى بغباوتهم لوجوه الاحتمال ونحن نسرد نصوصهم في أناجيلهم ونبين ذلك ووجه الاحتمالات فيها إن شاء الله مستعينين به ومتوكلين عليه
قال متاؤوش في إنجيله:
وقف على المسيح يهوذا أحد الإثنى عشر ومعه جماعة برماح وعصى وكان معهم قواد القسيسين وأكابر بني إسرائيل وكان يهوذا قد قال لأولئك الأعوان من قبطته من الجماعة فهو المراد فاحبسوه وفي ذلك الوقت دنا يهوذا إلى ياشوا
وقال السلام عليك يا معلم فقال له ياشوا يا صديق لم أقبلت هنا فعند ذلك تعلقت الجماعة به وحبسته
زاد ماركش أنه لما قبضوا عليه تخلى عنه التلاميذ وهربوا فاتبعه شاب عريانا وهو ملتف في ردائه فقبضوا عليه فأسلم لهم الرداء ونجا عريانا
زاد لوقا أن بلاط لما أخبر أنه جلجالي وعلم أنه من طاعة هيرودس بعثه إليه
زاد في إنجيل يوحنا أن ياشوا تقدم لجماعة وقال لهم من تريدون فقالوا له ياشوا الناذري فقال لهم ياشوا أنا هو وكان يهوذا المدل عليه معهم واقفا فلما قال لهم أنا هو قهقروا إلى خلف فتساقطوا في الأرض ثم دنا منهم وقال لهم من تريدون فقالوا له ياشوا الناذري فقال لهم من تريدون فقالوا له ياشوا الناذري فقال لهم ياشوا قد قلت لكم إني أنا هو فإن كنتم إنما تريدونني أنا فأطلقوا سبيل هؤلاء
وذكر متى أن يهوذا الدال عليه لما أبصر ما فعل به ندم ورد الثلاثين درهما على قواد القسيسين وقال أخطأت إذ سلمت دما صالحا فقالوا له ما علينا أنت ترى فألقى الدارهم في البيت وتوجه إلى موضع خنق فيه نفسه
هذه نصوص أناجيلهم ومستند اعتقاداتهم ليس شيء منها يدل دلالة قاطعة على أن المصلوب هو المسيح بعينه بل إذا اعتبر العاقل تلك الحكايات المذكورات ولفق متلفقها وحقق النظر فيها تفطن لموضع الأشكال وتنبه لمثار الشك فيها والاحتمال
ونحن نبين ذلك بعون الله فنقول ما سودناه من أناجيلهم فيه احتمالات
منها
أن يهوذا كذب لليهود في قوله هو ذا فإن اليهود كانت لا تعرفه ولم تأخذه إلا بشهادته أنه هو ألا ترى أن يهوذا عرفهم إياه بالعلامة
وكذلك يدل على ذلك سؤالهم عنه وكذلك سؤال بلاط عن بلده حين أخبر أنه من جلجال يدل على أنه كان لا يعرفه
فهذا كله يدل على أنهم كانوا لا يعرفونه وإنما عولوا في تعيينه لهم على يهوذا فإذا ثبت ذلك فيحتمل أن يكون يهوذا إنما أشار إلى غيره لأنه كان ندم على بيعه كما تقدم نصه في كتبكم
ويدل على أنه تاب من ذلك وندم عليه وحسنت توبته قول عيسى له فيما زعمتم حين سلم عليه يا صديق لم أقبلت ولو كان مصرا على الدل عليه وعلى ما كان هم به لما كان يحل لعيسى أن يقول له يا صديق فإنه كان يكون كافرا ولا يمكن أن يقول للكافر يا صديق فإنه كذب لأن الكافر عدو فيلزم هنا أحد ثلاثة أمور
أما أن يكون يهوذا تاب في ذلك الوقت وندم على ما فرط منه فعفى عنه وتوبته لا تصح في تلك الحال أعنى حال الدلالة عليه إلا بأن يعدل عنه ولا يدل عليه وكذلك فعل والله أعلم
أو يكون عيسى كاذبا فيما قال له حيث أخبر أنه صديق وعيسى عليه السلام منزه عن الكذب
أو يكون كتابكم باطلا ومحرفا
فاختاروا من هذه الثلاث واحدة وأي شيء التزمتم منها فهي مبطلة لقولكم وفاسدة
ويدل على حسن توبته وصدقها أنه رمى بالدراهم واعترف بالخطية وقتل نفسه وهذا يدل على غاية الصدق في الندم
ومقصود هذا الكلام أن يهوذا ندم ولا بد على ما فرط منه فيحتمل أن يكون دل على غيره من أصحابه وأن ذلك الغير رضى بأن يقتل مكان المسيح فتعرض بنفسه لليهود فأخذوه ورفع عيسى مكانه إلى السماء كما رفع أخنوخ النبي وهو إدريس عليه السلام وهذا كما تقولون أنتم أنه لما صلب وحيى اجتمع بأصحابه بجلجال ثم رفع إلى السماء
فقد توافقنا على الرفع وأنتم تقولون أنه بعد الصلب والصفع والإهانة ونحن نجله ونكرمه عن ذلك ونقول أنه رفع من غير صلب وإهانة بل صانه الله من أن يظفر به عدوا وأكرمه حتى أحله مكانا عليا ولو كنتم عقلاء لجحدتم أمر الصلوبية ولم تعترفوا بها ولقبلتم قولنا فيها ولو فعلتم ذلك لكان أليق بكم وأستر لجهلكم فإنكم تريدون أن تجمعوا بين نقيضين حيث حكمتم عليه بأمرين محالين الهية وصلوبية
ومنها
أن يحتمل أن يكون المسيح في الجماعة الذين أطلق الأعوان سبيلهم وكان المتكلم معهم غيره ممن يريد أن يبيع نفسه من الله ويقي المسيح به، فقال ذلك المتكلم أنا المسيح فحبسوه وخلوا سبيل غيره فانفلت المسيح في جملتهم ويقوى هذا الاحتمال أن يهوذا كان واقفا ناحية ولم ينبه عليه لكونه كان نادما لما قد تبين وبعد ذلك رفع
ومنها
أن أولئك الأعوان أخذوا عليه رشوة فأطلقوه وعلى هذا يدل حديث رداء الشاب حيث قال ماركش إن الشاب أسلم اليهم الرادء لما تقبضوا عليه وإذا جاز أن يأخذ يهوذا الأشكريوث وهو حواريه على قتله ثلاثين درهما جاز أن يأخذ الأعوان على إطلاقه رداء
ومنها
أنه لا يبعد أن يكون الله تعالى رفع المسيح إلى السماء وصور لهم شيطانا أو غيره بصورة تشبه صورته فاعتقدوا أنه هو فصلبوه وإلى هذا يشيء سكوته حيث سألوه فسكت ولم يجاوبهم وفي الوقت الذي تكلم لهم نزلت تلك الصورة نفسها منزلته وهذا كله ممكن لا يدفعه عقل فإن الله على كل شيء قدير ولا يدفعه أيضا نقل
فإن كل ما نقلتموه ليس نصا قاطعا ولا نقل نقلا متواترا فحصل من هذا أنكم غير عالمين بصلبه ولا موقنين بقتله
وأما اليهود فليسوا أيضا عالمين بشيء من ذلك إذ لا يصدقون كتابكم وليس عندهم نقل متواتر بذلك على التفصيل وغايتهم أن يعتقدوا على الجملة أن رجلا كان فيما مضى غير بعض أحكام التوراة فشهد عليه بذلك فقتل وكتابكم يدل على أنهم إنما قتلوا رجلا شهد لهم فيه يهوذا الأشكريوث أنه المسيح الذي ادعى أنه ابن الله فحصل من هذا أن اليهود في شك منه وأنكم أنتم على غير علم به وهكذا قال كتاب الله الناطق على لسان رسوله الصادق وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه وما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما
وحين بينا أنهم في شك من الصلوبية ينبغي أن نتتبع بالنقض كلامهم المتقدم فنقول
أما قولهم من رحمته على الناس أنه رضى بهرق دمه عنهم في خشية الصلب فتواقح لا يفوه به من له من الحياء أقل نصيب يا عجبا كيف يجترئ أن ينطق بهذه القبائح عاقل أم كيف يرضى لنفسه بمثل هذه المخازي فاضل وهلا كان يرحم عباده بأن يغفر لأبيهم ولا يحتاج إلى هذا كله أو ليس كان يكون غفران الذنب أهون عليه ابتداء وأليق بالحكمة والرحمة والرأفة من أن يعاقب من لم يجن ثم ذلك المعاقب الذي لم يجن الذنب ابنه بل وهو عندكم نفسه باعتبار ما حل فيه منه فلم يرض من عقوبة الذنب الذي جناه آدم حتى عاقب نفسه أو ابنه فأنتم في هذا القول الوقاح والإفك الصراح بمنزلة رجل أخطأ عليه عبده فبقى بعد مدة غاضبا عليه وعلى غيره من عبيده ناويا على معاقبتهم حتى ولد لنفسه ولد فعمد إليه فقتله بذنب العبد الذي كان أذنب ثم لم يقنع بذلك حتى ضرب نفسه ولامها وأهانها على ما صنع عبده مع أنه قد كان متمكنا من أن يغفر لعبده ولا يفعل هذا بولده ولا بنفسه فأي تشف يحصل له مما فعل بل يحصل له كل ألم ونقص وخلل مثل السفيه الأحمق الجاهل بل يزيده ذلك في كربته ويدعو إلى دوام حزنه وحسرته
ويلزمكم على ذلك أن يكون الله تعالى لم يتب على آدم عليه السلام إلا بعد أن صلب المسيح وبذلك تكذيب كتب الأنبياء فإنها تقتضى أن آدم بكى على خطيته ودعا الله تعالى حتى تاب عليه واجتباه ويلزمكم أيضا عليه أن يكون نوح وإبراهيم وموسى وما بينهم من النبيين عصاة بذنب آدم حتى صلب عيسى وحينئذ غفر لهم
وقد صرح بعض أقستكم لعنه الله أن آدم وجميع ولده إلى زمان عيسى كانوا كلهم ثاويين في الجحيم بخطيئة أبيهم حتى فداهم عيسى بهرق دمه في الخشبة فلما صلب نزل جهنم وأخرج منها جميعهم إلا يهوذا الأشكريوث
فانظر هل يستجرئ مجنون موسوس على أن يقول أن نوحا وإبراهيم الخليل وموسى الكليم ومن بينهم من النبيين مثل يعقوب وإسحق وغيرهما من الأبناء صلوات الله عليهم أجمعين كلهم في نار الجحيم والعذاب الأليم وفي السخط العظيم حتى صلب الإله نفسه وابنه
فانظر هل سب الأنبياء بأقبح من هذه الشتائم أو هل تجرأ أحد قط أن يقول على الله وعلى رسله مثل هذه العظائم فسبحان الحليم الذي يمهلكم والكريم الذي يرزقكم ولكن إنما يعجل من يخاف الفوت أو يجزع من الموت ويوم القيامة ترى الذي كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين
ثم يلزمكم عليه أيضا نسبة الله إلى الجور وإلى أنه يأخذ بالذنب غير فاعله ويعاقب على الزور غير قائله وهذا يهون عليكم إذ ليس للإله قدر عندكم إذ قد صرحتم بأن آدم ظلمه وأنه لا يمكن أن ينتقم ممن ظلمه واستهان بقدره
فياليت شعري لأي شيء لم يمكنه أن ينتقم من عبده العاجز عن ذلك أم لأنه لا يقدر على عقاب أحد ممن هنالك أم بحكمة أنه يعاقب غير الجاني أم لحكمة قتل ولده في جناية عبده
قاتلكم الله ما أسخف عقولكم وما أرك فروعكم وأصولكم ثم أعجب من ذلك أنهم يقولون الكلمة هي الله والله هو المسيح ثم يقولون إنه لم يمكنه أن ينتقم من عبده العاصي الذي ظلمه وإنما انتقم من إله مثله
فانظر إلى هذا التناقض الشنيع كيف يعتقدونه تارة أنه هو فيلزم عليه أنه هو المنتقم والمنتقم منه والمعاقب والمعاقب وتارة يعتقدون أن الإهانة والصلب لم يحل بلاهوته بل حل بناسوته وناسوته ليس بإله فيلزم على هذا القول الآخر أنه لم ينتقم من إله مثله وكيف ما كان فالتناقض لهم لازم والمحال
وهكذا يفعل الله بالجهال أهل الضلال ثم انظر سخف جرأتهم على الكذب وقولهم بالمحال من غير سبب حيث قال فأخذوه وصلبوه فغار دمه في اصبعه وهذا لم يرد منه شيء في كتبهم بل هو من كذبهم واختراعهم
ولو كان هذا حقا لكان أولى بالنقل من نقلهم جعل الصليب على عنقه وأنه رفع إليه إناء خل ليشربه وكتب على خشبته بالرومية والعبرانية والعجمية هذا ملك اليهود فهذا ولابد كذب وتواقح فإن كابروا في ذلك على عادتهم قلنا لهم فأتوا بالإنجيل فاتلوه إن كنتم صادقين
ثم انظر كيف تناقض ذلك المتكلم على الفور في قوله لأنه لو وقع شيء من دمه على الأرض ليبست ثم إنه أثر ذلك قال ألا شيء وقع فيها نبت منه النوار فكيف يصح في عقل مجنون فأحرى في عقل عاقل أن يتكلم بمثل هذا الهذيان أو يستحل أن يتحرك له بذلك لسان فإنه كذب فاسد متناقض فلعمري لو أن شيطانا يتقول على ألسنتهم وهو يريد الإضحاك بهم ما بلغ منهم بأكثر مما بلغوا من أنفسهم بهذا القول السفساف الذي اتفق العقلاء على فساده وإستحالته من غير خلاف
ولقد أحسن بعض عقلاء الشعراء في إفحام هؤلاء الأغبياء فقال
عجبى للمسيح بين النصارى... وإلى أي والد نسبوه
أسلموه إلى اليهود وقالوا... أنهم بعد قتله صلبوه
فإذا كان ما تقولون حقا... وصحيحا فأين كان أبوه
حين حل ابنه رهين الأعادي... أتراهم قد رضوه أم أغضبوه
فلئن كان راضيا بأذاهم... فاحمدوهم لأنهم عذبوه
وإذا كان ساخطا فاتركوه... واعبدوهم لأنهم غلبوه
فقد جعلتم أنفسكم ضحكة العقلاء حيث ارتكبتم كل قبيحة شنعاء وما بالنا نطول الكلام مع من تبين عارهم ومحالهم للخاص والعام فقدر هؤلاء القوم عند العقلاء أحقر من قلامة في قمامة وأخس من بقة في حقه ولولا أن هذيانهم ومحالهم طبق الوجود لما كان ينبغي أن يتكلم معهم من العقلاء موجود فإن الكلام معهم مخل بالعقول محوج لحكاية القبائح والفضول
وقد قدمت في صدر الكتاب ما يمهد العذر ويزيل العتاب وأنا استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأسأله التوبة من حكاية قبائحهم وأسأله جزيل الأجر في إبداء فضائحهم