الإعلام بما في دين النصارى/الباب الثالث/وجوه إعجاز القرآن/الوجه الثالث

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد  المؤلف القرطبي
الوجه الثالث


الوجه الثالث[عدل]

الوجه الثالث من وجوه إعجاز القرآن ما تضمنه من الأخبار بالمغيبات قبل أن يحيط أحد من البشر بعلمها وبوقوع كائنات قبل وجودها وذلك أمر لا يتوصل إلى العلم به إلا من جهة الصادقين الذي يخبرون عن الله تعالى

ونحن نذكر منها مواضع على شرط التقريب والإختصار تغني عن التطويل والإكثار

فمن ذلك قوله تعالى لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون

فهذه الآية من أوضح معجزاته وذلك أن الله تعالى وعده بأن يدخله المسجد الحرام هو وقومه في حالة أمن ويفتح عليهم مكة على أحسن حال فما زالوا ينتظرون ذلك حى بلغ وقته وصدق وعده فدخلوا كما وعدهم وفتحوه على ما أخبرهم

ومن ذلك قوله تعالى ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنين بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون

وهذه الآية أيضا من أعظم معجزاته وذلك أن هذه الآية لما نزلت كانت فارس غالبي الروم وكان المسلمون يحبون ظهور الروم على فارس لكون الروم أهل كتاب وكانت قريش يحبون ظهور فارس على الروم لأنهم وإياهم ليسوا أهل كتاب ولا إيمان فلما أنزل الله تعالى هذه الآية خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه يصيح في الناس وفي نواحي مكة بهذه الآية ويقرأها على مشركي قريش فقال ناس من قريش زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين أفلا نراهنك على ذلك فقال بلى وذلك قبل تحريم الرهان فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان وقالوا لأبي بكر كم نجعل البضع البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين فسم بيننا وبينك وسطا ننتهي إليه قال فسموا بينهم ست سنين فمضت الست سنين قبل أن يظهروا فأخذ المشركون رهن أبي بكر فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين لأن الله تعالى قال في بضع سنين، قال وأسلم عند ذلك ناس كثير

ومن ذلك قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا

وقد فعل الله ذلك بمحمد وأمته ملكهم الأرض واستخلفهم فيها وأذل لهم ملوكا تحت سيف القهر بعد أن كانوا أهل عز وكبر وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم ومنحهم رقابهم وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد

ومن ذلك قوله تعالى يريدون ليطفئوا نور الله بأفواهههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون

فإن قيل كيف يصح لكم قوله ليظهره على الدين كله ومعلوم أن ملك النصارى لم ينقطع في حياته ولا بعد موته وهذا ملكهم قائم فلم يظهر دينكم على دينهم فلا معنى لقوله ليظهره على الدين كله

الجواب أن الله تعالى بعث محمدا إلى الناس كافة وإلى جميع أهل الملل عامة نصرانيهم ويهوديهم وغير ذلك فبلغهم ما أمره الله فكلمهم فناصبوه العداة وأبدوا له صفحة الخلاف وهموا بإبطال دعوته وإطفاء كلمته وبذلوا في ذلك غاية جدهم واستفرغوا أقصى جهدهم فنصبوا لحربه وعزموا على قتله ونهبه ومرسله يقول له بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس

فأول من حاربه كفار قريش فأظفره الله بهم وأظهره عليهم ثم حاربته يهود فأمكنه الله منهم وملكه أرضهم وديارهم فقتل وسبأ وأسر فعلا عليهم وظهر ثم حاربته النصارى فغزاهم بتبوك ودخل عليهم بلادهم وافتتح في طريقه حصونا لهم ولغيرهم وأظهره الله عليهم وضرب على كثير من ملوكهم الجزية

ثم إن أصحابه بعده لم يزالوا على مثل حاله يقاتلون كل من كفر بالله ولا يخافون لومة لائم في الله فلقد صيروا ملوك الروم وغيرهم أذلة أهل صغار وجزية وذلة ثم لم يزل دين الإسلام مع مرور الأيام ينتشر بكل مكان ويظهر وغيره من الأديان يقل ويصغر

وحسبك شاهدا على ذلك فتح هذه الجزيرة الأندلسية على يدي جماعة من العرب قليل عددهم وعددهم كثير دينهم ومددهم على أعداد من النصارى لا تحصى وجنود لا تستقى ولكن صدق الله عبده وأنجز وعده وهزم الأحزاب وحده فأمكنهم الله منكم وأظهرهم عليكم فأجدادكم عندهم بين أسير وقتيل وتحت صغار الجزية ذليل وأصدق شاهد على ظهور دين الإسلام على دينكم وجميع الأديان غلبتهم على بيت حجكم وموضع قرابينكم المعظم والمسجد المكرم بيت المقدس حيث أراد الله أن يطهره من رذائلكم وينزهه عن جهالاتكم وخبائثكم فافتتحه المسلمون وظهر دين الله على الدين كله ولو كره الكافرون

ومن ذلك قوله تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم

وقوله في الآفاق يريد بذلك فتح الأمصار وقوله وفي أنفسهم يعني به فتح مكة وقوله سنريهم يرجع إلى كفار قريش ولذلك قال النبي إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن ملك أمتي سيبلغ ما زوى منها ومعنى زوى جمع

ومن ذلك قوله تعالى سيهزم الجمع ويولون الدبر

يريد بذلك والله أعلم جمع كفار قريش وكذلك فعل بهم وذلك أنهم خرجوا إلى حربه في غير موطن فهزمهم الله وولوا الأدبار وكانت عاقبتهم الخسار والبوار

وكذلك قال تعالى في آيات أخر قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد

وفي آية أخرى ان يضروكم إلا أذى وان يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون

فهذه الآية اقتضت بشارتين

أحداهما أنهم لن يصلوا إلى أصحاب النبي بضر أكثر من السب

والثانية أنهم يغلبون ويولون الأدبار وكذلك كان على نحو ما أنزله ذو العزة والسلطان

والآيات في القرآن لهذا النوع كثيرة ومن ذلك قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون يعني بالذكر القرآن العزيز

أخبرنا الله تعالى في هذه الآية أنه أنزله وأنه تولى حفظه وهذا كتاب الله محفوظ بحفظه لا يقدر أحد على تغيير كلمة واحدة من لفظه على كثرة من سعى في تغييره فأطفأ نوره لا سيما القرامطة فإنهم كانوا قد أجمعوا كيدهم واستنفدوا في تغييره وتحريفه جهدهم ولم يزل كذلك دأبهم ودأب غيرهم من أعداء الدين وعتاة الملحدين ويأبى الله إلا أن تعلى كلمته وتظهر شريعته

وقد قدمنا أسباب حفظ القرآن فلا معنى لاعادتها مع الأحيان

ومن ذلك قوله تعالى إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر

وكان هؤلاء المستهزئون نفرا من الكفار معروفون بأعيانهم وأسمائهم ينفرون الناس عنه ويؤذونه ويهزأون به فأنزل الله على نبيه هذه الآية يبشره بإهلاكهم وهم أحياء فكان سبب أهلاكهم من أعجب آيات النبي وذلك أنه كان منهم الأسود بن عبدالمطلب رمى في وجهه النبي بورقة خضراء فعمى ومنهم الأسود بن عبد يغوث أشار إليه النبي فاستسقى بطنه فمات حبنا ومنه الوليد بن المغيرة أشار النبي إلى أثر جرح كان بأسفل كعبه كان أصابه قبل ذلك بسنتين وكان قد برأ فتجدد حتى قتله الله به ومنه العاص بن وائل أشار النبي إلى أخمص رجله فخرج على حمار له يريد الطائف فرماه حماره على الأرض فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته ومنه الحارث بن الطلالة أشار النبي إلى رأسه فاستحال دمه قيحا فقتله

فانظر بعقلك هذه الأمور العجيبة وهذه الأحوال الغريبة التي لا تلحق بالأفكار ويحار فيها أولى الأبصار بل تشهد عندها العقول أن المقصود بها تصديق الرسول فوالله لو لم يكن له من المعجزات إلا هذه الآية لكان فيها أعظم كفاية ولحصل من تصديقه على أبعد غاية

وفي كتاب الله تعالى من هذا القبيل ما يحتاج استقصائه إلى تكثير وتطويل وحسبك ما تضمنه من كشف أسرار المنافقين وفضيحة اليهود الضالين فلقد يقضي الناظر فيها من ذلك العجب العجاب ويتحقق انه من عند الله من غير شك ولا ارتياب

الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد
مقدمة | صدر الكتاب | الباب الأول: في بيان مذاهبهم في الأقانيم وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: أقانيم القدرة والعلم والحياة | الفصل الثالث: تعليل التثليث | الفصل الرابع: دليل التثليث | الفصل الخامس: في بيان اختلافهم في الأقانيم | الباب الثاني: في بيان مذاهبهم في الاتحاد والحلول وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: معنى الاتحاد | الفصل الثالث: الواسطة بين الله وبين موسى | الفصل الرابع: تجسد الواسطة | الفصل الخامس: في حكاية كلام المتقدمين | الفصل السادس: في حكاية مذهب أغشتين إذ هو زعيم القسيسين | الباب الثالث: في النبوات وذكر كلامهم | الفصل الأول: احتجاج أصحاب الملل | الفصل الثاني: المسيح المنتظر | الفصل الثالث: المسيح عيسى ابن مريم | فصل: في بيان بعض ما طرأ في التوراة من الخلل وأنها لم تنقل نقلا متواترا فتسلم لأجله من الخطأ والزلل | فصل في بيان أن الإنجيل ليس بمتواتر وبيان بعض ما وقع فيه من الخلل | الفصل السابع: هاجر أم إسماعيل الذبيح | القسم الثاني: في النبوات وإثبات نبوة محمد | القسم الثاني: في إثبات نبوة نبينا محمد | النوع الأول من الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: إخبار الأنبياء به قبله | النوع الثاني: الاستدلال على نبوته بقرائن أحواله | خاتمة جامعة في صفاته وشواهد صدقه وعلاماته | النوع الثالث: الاستدلال على نبوته صلى الله عليه وسلم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد | الوجه الأول من وجوه إعجاز القرآن | الوجه الثاني | الوجه الثالث | الوجه الرابع | النوع الرابع | الفصل الثالث عشر في ما ظهر على أصحابه والتابعين لهم من الكرامات الخارقة للعادات | الباب الرابع: في بيان أن النصارى متحكمون في أديانهم وأنهم لا مستند لهم في أحكامهم إلا محض أغراضهم وأهوائهم | الفصل الأول: ليست النصارى على شيء | الفصل الثاني: خروج النصارى على تعاليم التوراة والإنجيل | الفن الأول: شعائر الدين النصراني وطقوسه | مسألة في المعمودية | مسألة في غفران الأساقفة والقسيسين ذنوب المذنبين واختراعهم الكفارة للعاصين | مسألة في الصلوبية وقولهم فيها | مسألة في تركهم الختان | مسألة في أعيادهم المصانة | مسألة في قربانهم | مسألة في تقديسهم دورهم وبيوتهم بالملح | مسألة في تصليبهم على وجوههم في صلاتهم | مسألة في قولهم في النعيم والعذاب الأخراوين | الفن الثاني: محاسن دين الإسلام