الإعلام بما في دين النصارى/الباب الثالث/النوع الأول
النوع الأول من الأدلة على نبوة محمد ﷺ: إخبار الأنبياء به قبله
[عدل]وإنما قدمنا هذا النوع وإن كان غيره أولى بالتقديم لكون الأنبياء الخبيرين بعلاماته متقدمين عليه في الزمان ولكون هذه البشائر كانت معروفة قبل مجيئه ولكون السائل الذي كتبنا هذا الكتاب جوابه لم يطلب منا بجهله إلا الاستدلال بما جاء في كتب الأنبياء وليكون هذا الباب مؤنسا له وباعثا على النظر فيما بعده ولتعلم أن الاستدلال بهذا النوع لا ينتفع به إلا من صدق بتلك الكتب وتواترت عنده
ومن خلى عن شيء من ذلك لا ينتفع بشيء منها ولا يستدل بها عليه وأما ما بعد هذا النوع فيستدل به على كل من أنكر نبوته من سائر الفرق فأما هذا النوع فإنما هو حجة على اليهود والنصارى لإدعائهم أن تلك الكتب تواترت عندهم
وهذا النوع عندنا على التحقيق إنما هو داخل في باب الإلزامات لهم ليظهر عنادهم وإفحامهم ثم لتعلم أنا إنما نذكر أخبار الأنبياء المبشرة بنبوة محمد ﷺ من كتبهم التي بأيديهم وعلى ما ترجمها مترجموهم من غير زيادة ولا نقصان
فمن ذلك
ما جاء في التوراة أن الله قال لموسى بن عمران إني أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم نبي مثلك أجعل كلامي على فيه فمن عصاه انتقمت منه
فإن قلت إن ذلك إنما هو يشوع بن نون قلنا لا
فقد قال في آخر التوراة لا يخلف من بني إسرائيل نبي مثل موسى فلا محالة أن ذلك الذي بشرت به التوراة لا يكون من بني إسرائيل لكن من إخوة بني إسرائيل فلننظر من هم إخوة بني إسرائيل فلا محالة أنهم العرب أو الروم
فأما الروم فلم يكن منهم نبي سوى أيوب وكان قبل موسى بزمان فلا يجوز أن يكون هو الذي بشرت به التوراة فلم يبق إلا العرب فهو إذن محمد عليه السلام وقد قال في التوراة حين ذكر إسماعيل جد العرب أنه يضع فسطاطه في وسط بلاد إخوته فكنى عن بني إسرائيل بإخوة إسماعيل كما كنى عن العرب بإخوة بني إسرائيل في قوله إني أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم نبي مثلك ويدل على ذلك أيضا قوله أجعل كلامي على فيه فإن هذا تصريح بالقرآن إذ هو كلام الله الذي جاء به محمد ﷺ وتلقيناه من فلق فيه ويدل أيضا على ذلك قوله من عصاه انتقمت منه إذ قد فعل الله ذلك بصناديد قريش وعظماء ملوك الروم وغيرهم فهم بين أسير وقتيل ومعطى الجزية على وجه الصغار والذلة ولعذاب الآخرة أشق
ومن ذلك
ما جاء فيها أنه قال وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته فقال جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبار فاران ومعه جماعة من الصالحين
فمجيئه من جبل سيناء أن الله أنزل فيه التوراة وكلم عليه موسى وإشراقه من جبل ساعير أن دين المسيح إنما أشرق من جبال ساعير وهي جبال الروم من أدوم وإستعلانه من جبال فاران أن الله تعالى بعث منها محمدا ﷺ وأوحى إليه فيها، ولا اختلاف أن فاران مكة وقد قال في التوراة إن الله أسكن هاجر وابنها إسماعيل فاران
وفي بعض التراجم أقبل السيد من سيناء ومن شعير تراءى لنا وأقبل من جبال فاران ومعه آلاف من الصالحين ومعه كتاب ناري وهو ختم الأجناس وجميع الصالحين في قبضته ومن تدانى من قدميه يصب من علمه
ففكر على إنصاف وتثبت من الجائي المقبل من جبال فاران مع الآلاف من الصالحين ومن جاء بالكتاب الذي ما منه سورة لا وفيها الوعيد على المخالف بالنار وعذابها وأنكالها وأغلالها
ومن ذلك
ما جاء فيها أيضا أن الله قال لإبراهيم قد استجبتك في إسماعيل وباركته وكثرته وأنميته جدا جدا يولد له اثنا عشر عظيما وأجعله لشعب عظيم ولا يشك في أن الشعب العظيم هو محمد عليه السلام وأمته إذ لم يكن في ولد إسماعيل أعظم منهم
وقد تفطن بعض النبهاء ممن نشأ على لسان اليهود وقرأ بعض كتبهم فقال في التوراة موضعان يخرج منهما اسم محمد بالعدد على ما تستعمله اليهود فيما بينهم
ثم ذكر ما قدمته من قول الله لإبراهيم قد استجبتك في إسماعيل
فأما قوله جدا جدا فهو بتلك اللغة بمأد ماد وعدد هذه الحروف إثنان وتسعون وذلك أن الباء عندهم إثنان والميم أربعون والألف واحد والدال أربعة والميم الثانية أربعون والألف واحد والدال أربعون وكذلك الميم من محمد أربعون والحاء ثمانية والميم أربعون والدال أربعة
وأما قوله لشعب عظيم فهو بتلك اللغة لغوي غدول فاللام عندهم ثلاثون والغين ثلاثة وهي عندهم مقام الجيم إذ ليس في لغتهم جيم ولا ضاد والواو ستة والياء عشرة والغين أيضا ثلاثة والدال أربعة والواو ستة واللام ثلاثون فمجموع هذه أيضا اثنان وتسعون
وهذا من رشيق الفهم وملح البحث وغرائب العلم
وفي التوراة
أيضا أن ملاك الرب قال لهاجر ستلدين ابنا وتدعين اسمه إسماعيل يده على كل ويد كل به وسيحل على جميع حدود إخوته
ولا محالة أن إسماعيل وولده لم تكن أيديهم إلا تحت يد إسحق لأن النبوة والملك إنما كانا في ولد إسحق فلما بعث الله تعالى محمدا جعل يد بني إسماعيل فوق أيدي الجميع ورد النبوة والملك فيهم وأنماهم وعظمهم وبارك عليهم جدا جدا
ومن ذلك ما جاء في الزبور
الذي بأيديكم أنه قال سبحوا الرب تسبيحا حديثا سبحوا الذي هيكله الصالحون ليفرح إسرائيل بخالقه وبنو صهيون من أجل أن الله اصطفى لهم أمة وأعطاهم النصر وسدد الصالحين منهم بالكرامة يسبحون الله على مضاجعهم ويكبرونه بأصوات مرتفعة بأيديهم سيوف ذوات شفرتين لينتقم الله بهم من الأمم الذين لا يعبدونه يوثقون ملوكهم بالقيود وأشرافهم بالأغلال
أخبرونا يا هؤلاء الجاحدون للحق المعرضون عن أخبار الصدق، من هذه الأمة التي سيوفها سيوف ذوات شفرتين ينتقم الله بهم من الأمم الذين لا يعبدونه ومن المبعوث بالسيف من الأنبياء ومن الذين يكبرون الله بأصوات مرتفعة في الأذان هذه أوصاف محمد ﷺ وأوصاف أمته بلا ريب ولا رجم غيب
وفي الزبور أيضا
ذكر صفة محمد ﷺ فقال ويجوز من البحر إلى البحر ومن منقطع الأنهار إلى منقطع الأنهار وأنه يخر أهل الجزائر بين يديه على ركبهم ويلحس أعداؤه بالتراب وتأتيه ملوك بالقرابين وتسجد له وتدين له الأمم بالطاعة والإنقياد لأنه يخلص المضطهد البائس من الأقوى منه وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له ويرأف بالضعفاء والمساكين وأنه يعطى من ذهب بلاد سبأ ويصلي عليه في كل وقت ويدوم أمره إلى آخر الدهر
تأمل أوصاف النبي ﷺ فهي على ما ذكر ما غادر منها واحدا ولم تجتمع هذه الصفات والعلامات لأحد قبله على ما هو معروف من أحوال الأنبياء المتقدمين عند العلماء المنصفين غير الجاهلين المتعصبين
وفي الزبور أيضا
أن الله تعالى أظهر من صهيون أكليلا محمودا
فالأكليل ضرب مثل لرياسته ومحمود هو محمد ﷺ وقد بلغ دينه صهيون غيره
وفيه أيضا
تقلد أيها الجبار سيفك فإن ناموسك وشريعتك مقرونة بيمينك وسهامك مسنونة والأمم يخرون تحتك
تأمل من الجبار الآتي بشرائع يظهرها بالسيف والسهام فإنك إذا تأملت ذلك لم تجد على هذه الصفات أحدا من عهد داوود إلا النبي محمد ﷺ فهو المبشر به لا محالة
وقد تقدم قول داوود: اللهم ابعث جاعل السنة كي يعلم الناس أنه بشر
فلينظر هنالك فإنه نص على نبينا محمد ﷺ فإنه جاعل السنة وهو أخبر بأن المسيح بشر وليس باله
وفي الزبور
ترجمة وهب بن منبه يقول الله تعالى لداوود عليه السلام في المزمور الخامس إسمع ما أقول ومر سليمان فليقله للناس من بعدك إن الأرض لي أورثها محمدا وأمته فهم خلافكم لم تكن صلاتهم بالطنابير ولا قدسوني بالأوتار
وهذا تصريح باسمه وتأييد شريعته وبصفات أمته وزبور وهب بن منبه هذا الذي نقلت منه أصح ما يوجد من كتاب الزبور فإنه أوثق وأعلم من كل ترجمة في سالف الدهور ولكن النصارى مع ذلك يكذبون إذ هم جاهلون ومعاندون
ومن ذلك ماجاء في الإنجيل الذي بأيديكم أن المسيح قال إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي وسأرغب إلى الأب في أن يبعث إليكم البرقليط ليكون معكم إلى الأبد روح الحق الذي لا تقبله الدنيا لأنها لا تراه ولا تعرفه وأنتم تعرفونه لأنه نازك عليك وعندكم لابث ولست أدعكم أيتاما
وفيه أيضا عن يوحنا:
أن المسيح قال سينفعكم ذهابي لأني إن لم أذهب لم يأتكم البرقليط وإن ذهبت سأبعثه إليكم وإذا قدم سيعرف الدنيا بالمأثم والعدل والحكم فأما المأثم فتركهم الإيمان بي وأما العدل فذهابي إلى الأب ولا تروني بعدها وأما الذي يحكم بي فيها فإنه يحكم على صاحب الدنيا ويقهر. وقد بقيت لي أشياء كثيرة أعلمكم بها إلا أنكم لا تحملونها الآن فإذا قدم الروح الصادق فهو يعرفكم بالصواب وليس يعلمكم من ذاته إلا بما يسمع وسيعلمكم بما يكون وسيعظمني لأنه يصيب مني ويعلمكم
وفيه أيضا:
أن المسيح قال للحواريين الذي يبغضني يبغض أبي فلو لم أطلع عندهم من العجائب ما لم يطلع غيري لم يكن قبلهم ذنب ولكنهم الآن قد عابوا وكرهوني ليتم ما كتب في كتبهم حيث قال أنهم كرهوني بلا ذنب فإذا أقبل البرقليط الذي أبعث إليكم من عند الأب الروح الصادق المنبثق من الأب هو يؤدي الشهادة عني وأنتم تستشهدون لأنكم كنتم معي من أول الأمر وإنما أقول لكم هذا لئلا يواقعكم التشكيك
فالبرقليط بالرومية المنحمنا بالسريانية وهو محمد بالعربية
فتأمل هذه البشائر التي لا ينكرها إلا معاند مجاهر فقد أخبر به المسيح بالعين والاسم والأفعال فماذا بعد الحق إلا الضلال
وفيه أيضا:
أنه قال لليهود وتقولون لو كنا في أيام آبائنا لم نساعدهم على قتل الأنبياء فأتموا كيل آبائكم يا ثعابين بني الأفاعي كيف لكم والنجاة من عذاب النار وسأبعث إليكم أنبياء وعلماء وستقتلون منهم وتصلبون وتجلدونهم في جماعتكم وتطلبونهم من مدينة إلى أخرى لتتكامل عليكم دماء المؤمنين المهراقة على الأرض من دم هابيل الصالح إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين المذبح والهيكل آمين آمين أقول أنه سيأتي جميع ما وصفت على هذه الأمة يرشالم يرشالم التي تقتل الأنبياء وترجم من بعث إليها قد أردت أن أجمع بنيك جمع الدجاجة فراريجها تحت جناحيها وكرهت أنت ذلك سأقفر عليكم بيتكم وأنا أقول لكم لا تروني الآن حتى يأتي من تقولون له مبارك الآتي على اسم الله
تأمل بشارته بالنبي محمد عليه السلام وتوعده لهم بالانتقام منهم على يديه
فإذا تأملت هذا على جهة الإنصاف لاح الحق لك وإلا فمن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا
وقوله سأبعث في الموضعين تحريف بدليل قوله فيما تقدم سأرغب إلى الأب في أن يبعث إليكم البرقليط فقد صرح هنا بأن الباعث له هو الله لا هو وهو الحق إذ قد تبين أن المسيح لا يفعل شيئا من ذاته وإنما يفعل ما يريده الله تعالى وقد تقدم قوله لست أنفذ إرادتي وإنما أنفذ إرادة الرب
وفيه أيضا
أن المسيح قال إن التوراة وكتب الأنبياء يتلو بعضها بعضا بالنبوة والوحي حتى جاء يحيى وأما الآن فإن شئتم فاقبلوا فإن أيل مزمع أن يأتي فمن كانت له أذنان سامعتان فليسمع
أيل هو الله تعالى ومجيئه هو مجئ رسوله بكتابه وأمره كما قال في التوراة جاء الله من سيناء وما أشبه ذلك
فإن قلت قوله فإن أيل مزمع أن يأتي وقوله حتى يأتي من تقولون له مبارك الآتي إنما أراد من كان بعده من الأنبياء مثل بارنابا وشمعون وليوقيوش ومناين هؤلاء أنبياء أنطاكية ومن بيت المقدس أعفانوس ومن فلسطين جرجيس
فالجواب
أنه لا يصح لكم أن تعترفوا بنبوة واحد من هؤلاء بل ينبغي لكم أن تكفروا بهم لأنكم ترون أنه لا نبي بعد المسيح وتسندون ذلك إلى كتبكم فأما أن تكذبوا بقولكم لا نبي بعد المسيح أو تنكروا نبوة من ذكرتم
ثم لو سلمنا أنهم أنبياء فليسوا المرادين بما ذكر لأنهم لم يأتوا بكتب من الله ولا بأوامر أخر
وغايتهم أن يحكموا بكتب الأنبياء قبلهم
وإتيان الله فيما ذكر إنما هو عبارة عن إتيان نبي من أنبيائه بكلامه وكتابه كما قال جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران وهذا واضح للمنصف
وقد زعم بعض المعاندين الجاهلين من ينتمي إلى دينكم أن المبشر به في ذينك الموضعين إنما المراد به رجوع بعض ما مضى من الرسل وعودهم إلى الأرض وإلى الناس وهذا قول باطل صدر عن معاند جاهل إذ لم يثبت شيء من ذلك على لسان نبي فاضل إلا ما صح على لسان نبينا من رجوع عيسى ابن مريم صلوات الله عليهم وسلامه إذ أخرج الدجال وقتله له وفي إنجيلكم إشارة إلى هذا وهذا عندنا مبنى على أن الله تعالى رفع المسيح إليه ولم يقتل ولا مات بل رفعه الله إليه على ما يأتي عند ذكر الصلوبية وإنما يموت إذا قتل الدجال عند باب لد وبعد أن يهلك الله يأجوج ومأجوج على يديه
وفي الإنجيل أيضا:
أنه ضرب مثلا للدنيا فقال مثل الدنيا كمثل رجل اغترس كرما وسبخ حوله وجعل فيه معصرة وشيد فيه قصرا ووكل به أعوانا وتغرب عنه فلما دنا أوان قطافه بعث عبيده إلى أعوانه بالموكلين بالكرم
فضرب المسيح عليه السلام مثلا للأنبياء ثم لنفسه ثم قال سيزاح عنكم ملك الله وتعطاه الأمة المطيعة
فتأمله ثم ذكر في المثل صخرة وقال من سقط على هذه الصخرة سينكسر ومن سقطت عليه يتهشم يريد بذلك محمدا ﷺ من ناوأه وحاربه أظهره الله عليه وكذلك قد أزاح الله ملككم وأزاله عنكم وأعطاه أمة محمد حيث افتتحوا عليكم بلاد الشام وبلاد الغرب وردوكم في أكثر الأرض أهل ذلة وصغار وأخذوا منكم الجزية بعد القتل الذريع والإسترقاق الشديد بعد أن كان ملككم راسخا وجبله شامخا فهد الله بنبيه قواعده ولينفذ به الله مواعده وأعظم شاهد على أن الله أزاح ملككم عنكم كما قال المسيح إن الله تعالى أعطانا بيت المقدس وأظهرنا عليه وإن كرهتم والحج إليه عندكم من أعظم شرائعكم وشرائع اليهود ثم الواحد منكم لا يصل إليه حتى يلحقه من الذلة والصغار ما لا يخفى عليكم والله متم نوره ولو كره الكافرون
وفي صحف أشعياء النبي الذي بأيديكم:
قال ستمتلئ البادية والقصور التي سكنها قيدار يسبحون ومن رؤوس الجبال ينادون هم الذين يجعلون لله الكرامة ويبثون تسبيحه في البر والبحر
وفي صحف حزقيال النبي عن الله يقول إني مؤيد قيدار بالملائكة
وقيدار ولد إسماعيل بلا شك فانظر أي بادية هذه البادية التي انتقلت من قصور إلى قيدار والذين ينادون بالأذان والتلبية من رؤوس الجبال ويجعلون لله الكرامة بالصلاة والحج والصوم والزكاة وغير ذلك وقد ثبت أن الملائكة قاتلت مع النبي ﷺ في مواطن على ما يأتي إن شاء الله تعالى
وقال أشعياءعن الله: عبدي الذي سرت به نفسي أنزل عليه وحيي فيظهر في الأمم عدلي يوصي الأمم بالوصايا لا يضحك ولا يسمع صوته في الأسواق يفتح العيون العور ويسمع الآذان الصم ويحيى القلوب الغلف وما أعطيه لا أعطيه غيره أحمد يحمد الله حمدا كثيرا يأتي من أقصى الأرض تفرح البرية وسكانها يهللون الله على كل شرف ويكبرونه على كل رابية لا يضعف ولا يغلب ولا يميل إلى الهوى ولا يسمع في الأسواق صوته ولا يذل الصالحين الذين هم كالعصفة الضعيفة بل يقوى الصديقين وهو ركن للمتواضعين وهو نور الله الذي لا يطفئ ولا يخاصم حتى تثبت في الأرض حجتي وينقطع العذر به وإلى توراته ينقاد الحق
فاعتبر هذا التصريح باسم محمد وصفاته وإن هذه العلامات المذكورات على لسان هذا النبي لا يصح بحال أن توجد لغيره ولم يكن إلا له
فإن قلت هو المسيح قيل لك تفهم لفظ الكلام ومساقه وحينئذ تحكم بأنه محمد قطعا وذلك أنه قال فيه يوصى الأمم
وهذا التصريح ببعثه للناس كافة وعيسى إنما بعث للأجناس من بني إسرائيل خاصة بدليل قوله في الإنجيل إني لم أبعث إلى الأجناس وإنما بعثت إلى الغنم الرابضة من نسل إسرائيل
وكذلك قال للحواريين لا تسلكوا في سبيل الأجناس ولكن اختصروا بالضرورة إلى الغنم الرابضة من بني إسرائيل
ثم قال أحمد يحمد الله وهذا تصريح باسمه فإن أسمائه كثيرة منها محمد وأحمد ثم قال يثللون الله على كل شرف ويكبرونه على كل رابية وهذا إخبار بآذانهم وتلبيتهم وليس هذا لأحد غيره ثم قال لا يضعف ولا يغلب وأنتم تزعمون أن المسيح غلب على نفسه وحمل على خشبة وسمرت يداه فيها وقتل عليها بعد صفع وإهانة عظيمة ولا درجة في الغلبة والضعف والذلة تزيد على هذا
وأما نبينا محمد ﷺ فقد فتح الله عليه فتحا مبينا ونصره نصرا وأظهره على كل عدو معاند حتى أعلى الله دينه وأفشى توحيده وعصمه من كل الشرور ووقاه كل مخوف وكل محذور ومن أدل ما في كلامه أن نبينا محمد هو المراد والمبشر به قوله لا يخاصم حتى تثبت في الأرض حجتي فإن هذا تصريح بالقرآن الذي جاء به إذ قد عجز عن الإتيان بمثله أو بسورة مثله جميع البشر وإن كان فيهم اللد الفصحاء والمهرة الحكماء فثبتت في الأرض حجة الله وعلم أنه من عند الله وسيأتي بيان هذا المعنى إن شاء الله تعالى
وفي صحف حبقوق النبي التي بأيديكم:
قال جاء الله من التيمن والقدوس من جبل فاران وامتلأت الأرض من تحميد أحمد وتقديسه وملأ الأرض بهيبته
وقال أيضا تضئ لنوره الأرض وستنزع في قسيك إغراقا وترتوي السهام بأمرك يا محمد إرتواء
فيا معشر العقلاء انظروا عناد هؤلاء الجاحدين وإنكار هؤلاء المباهتي وتواقح هؤلاء الجاهلين كيف خالفوا هذه النصوص القاطعة والبشارات الصادعة محكمين في ذلك أهوائهم وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
وفي صحف أشعياء النبي قال:
قيل لي قم ناظرا فانظر فما ترى تخبر به قلت أرى راكبين مقبلين أحدهما على حمار والآخر على جمل يقول أحدهما لصاحبه سقطت بابل وأصنامها النخرة
فصاحب الجمل هو محمد ﷺ وصاحب الحمار بإتفاق منا ومنكم هو المسيح وليس محمد بركوب الجمل أشهر من عيسى بركوب الحمار وإنما سقطت عبادة الأصنام ببابل من دون الله وهدت أوثانها بالنبي محمد ﷺ وأمته لا بعيسى ولا بغيره فما زالت ملوك بابل يعبدون الأوثان من كون إبراهيم إلى زمان النبي ﷺ وأمته
وفي صحفه أيضا:
لتفرح أرض البادية العطشى ولتبتهج البراري والفلوات لأنها ستعطى بأحمد محاسن لبنان كمثل حسن الدساكير والرياض
هذا ينص على اسمه ووصفه وبلده بحيث لا ينكره إلا وقاح مجاهر بالباطل الصراح
وفي صحف أشعياء النبي:
أتت أيام الافتقاد أتت أيام الكمال. ثم قال لتعلموا يا بني إسرائيل الجاهلين أن الذي تسمونه ضالا هو صاحب النبوة تفترون ذلك على كثرة ذنوبكم وعظم فجوركم
وفي الصحف المنسوبة للاثنى عشر نبيا:
أن الله سيتجلى من القبلة وتظهر كلمة القدس من جبال فاران ظهورا أبديا ويحمد الله على ذلك في السموات والأرض وكلمة أحمد تملأ الأرض
وفي صحف حزقيال النبي التي بأيديكم يقول عن الله بعد ما ذكر معاصي بني إسرائيل وشبههم بكرمة غذاها وقال: لم تلبث تلك الكرمة أن قلعت بالسخطة ورمى بها على الأرض وأحرقت السمائم حرها فعند ذلك غرس غرس في البدو وفي الأرض المهملة العطشى وخرجت من أغصانها الفاضلة نار أكلت تلك حتى لم يوجد فيها عصن قوي ولا قضيب
اعتبر أيها العاقل هذا المثل على جهة الإنصاف يجانبك الخطأ والزلل فإن الكرمة مثل لدين المسيح ورسالته وذلك أن مقامه كان في قومه زمانا يسيرا ورفعه الله عن أتباع يسيرين أحد عشر على ما زعموا ثم أتباعهم على شرعهم المستقيم يسيرون
ثم بعد ذلك بنحو الأربعين سنة اعتراهم التبديل الكثير والتغيير العظيم حتى أحرقت ديار الكفر تلك الكرمة فلما لم يبق منهم إلا بقايا قليل عددهم وخفى موضعهم بعث الله نبيه في أرض البدو التي هي أرض إسماعيل ومنشأه ووصفه لها بالعطشى تصريح بوصفها فإنه صحراء وكونها مهملة إنما هو من النبوة فإنه لم يكن بها نبي من عهد إسماعيل إلى عهد محمد ﷺ ثم أنه شبه ما نصر به النبي عليه والسلام من الحرب والرعب بالنار التي تأتي على كل شيء فكذلك دين نبينا محمد ﷺ أظهره الله بالحجة والسيف على الدين كله ولو كره المشركون
وقد قدمت أن في صحف دانيال النبي وقد نعت الكذابين وقال لا تمتد دعوتهم ولا يتم قربانهم وأقسم الرب بساعده ألا يظهر الباطل ولا يقوم لمدع كاذب دعوة أكثر من ثلاثين سنة
وهذا دين الإسلام الذي جاء به محمد عليه السلام له ست مائة سنة ونيف من الأعوام وهو باق إلى آخر الأيام والحمد لله على ما أولى من الفضل والأنعام
وقال دانيال النبي وقد سأله الملك نبوخذناصر عن رؤيا رآها وطلب أن يخبر بها ثم بتفسيرها فقال أيها الملك رأيت صنما بارع الجمال أعلاه من ذهب ووسطه من فضة وأسفله من نحاس وساقاه من حديد ورجلاه من فخار فبينما أنت تنظر إليه وقد أعجبك إذ دقه الله بحجر من السماء فضرب رأس الصنم فطحنه حتى اختلط ذهبه وفضته ونحاسه وحديده وفخاره ثم إن الحجر ربا وعظم حتى ملأ الأرض كلها قال له نبوخذناصر صدقت فأخبرني بتأويلها
قال دانيال أما الصنم فأمم مختلفة في أول الزمان وفي وسطه وفي آخره فالرأس من الذهب أنت والفضة ابنك من بعدك والنحاس الروم والحديد الفرس والفخار أمتان ضعيفتان تملكهما إمرأتان باليمن والشام والحجر هو دين نبي وملك أبدي في آخر الزمان يغلب الأمم كلها ثم يعظم حتى يملأ الأرض كلها كما ملأها ذلك الحجر
قلت ولا يصح لك يا أيها المخدوع أن تدعي أنه المسيح فإنه لم يغلب الأمم كلها بل غلب بزعمكم فإنه استضعف فأهين وصلب ولم يبعث إلى الأمم كلها عامة بل إلى قوم بأعيانهم خاصة وإنا محمد الذي غلب كل الأمم العرب منها والعجم على اختلاف أصنافها وشتى ضروبها وأوصافها فجعل الكل جنسا واحدا وألزمهم دينا واحدا وصيرهم أمة واحدة وجعلهم على اختلاف لغاتهم يتكلمون بلغة واحدة أعنى إذا قرأوا القرآن إذ لا يمكن أن ينتقل عن لسان العرب إلى لسان غيرهم فإن ترجم بلسان آخر فليس ذلك هو القرآن وإنما هو تفسير القرآن
يا أيها الجاهل الناكث عن الحق العادل قد كنت ذكرت في كلامك أن المسلم إن أقام شاهدا من كتب الأنبياء أن فيها محمدا منتظرا فدينه حق ودين النصارى باطل وقد أقمنا والحمد لله الشواهد من كتب الأنبياء الأوائل على الذي طلبت على نحو ما رسمت بل هذه الشواهد في دلالتها على نبوة محمد أوضح وأقص مما استدللت أنت بها على نبوة المسيح
وقد وكلت العاقل المنصف للنظر في أي الدلالات أبين وأوضح أدلاتنا أم دلالتكم وعند الوصول إلى هذا القدر والوقوف على تلك الشواهد الغر تتبين أن دين النصارى واليهود باطل وأنهم إما معاندو وإما جاهل
ولقد جاء في كتاب أشعياء النبي من نعوته وأوصافه وذكر مكة بلده وحج الناس إليها ما لا يبقى معه ريب ولا أشكال
فمن ذلك قال حاكيا عن الله تعالى سأبعث قوما فيأتون من المشرق أفواجا كالصعيد كثرة ومثل الطيان الذي يدوس برجليه
ومن ذلك أنه قال أبشري واهتزي يا أيتها العاقر التي لم تلد وانطقي بالتسبيح وافرحي أن لم تحبلي فإن أهلك سيكونون أكثر من أهلي
هذه من الله مخاطبة لمكة على ما يقتضيه مساق كلامه ثم شبهها بالعاقر من النساء التي لم تلد من حيث أن مكة لم يبعث منها نبي من بعد إسماعيل إلا محمدا صلى الله عيله وسلم ولا يجوز أن يكون العاقر بيت المقدس لأنها كانت مقر الأنبياء وقوله فإن أهلك سيكونون أكثر من أهلي يعني بأهله بيت المقدس
وفي نفس النص أنه قال حاكيا عن الله قد أقسمت بنفسي كقسمي أيام الطوفان أن أغرق الأرض بالطوفان كذلك أقسمت ألا أسخط عليك ولا أرفضك فإن الجبال تزول والقلاع تنحط ورحمتي عليك لا تزول
ثم قال في النص نفسه يا مسكينة يا مضطهدة ها أنذا بان بالجص حجارتك ومزينك بالجواهر ومكلل باللؤلؤ سقفك وبالزبرجد أبوابك وتبعدين من الظلم فلا تخافي ومن الضعف فلا تضعفي وكل سلاح يعمله صانع لا يعمل فيك وكل لسان ذلق يقوم معك بالخصومة تفلجين ويسميك الله إسما جديدا
وكذلك كان اسمها الكعبة فسماها الله المسجد الحرام وكذلك قوله بالخصومة تفلجين إنما هو إشارة إلى كتاب الله الذي جاء به محمد رسول الله الذي أفحم كل خصم وأسكت
وفي صحف أشعياء أيضا فقومي واشرفي فإنه قد ورى زندك ووقار الله عليك انظري بنيك حولك فإنهم مجتمعون يأتيك بنوك وبناتك على الأيدي فحينئذ تنظرين وتزهرين ويخفق قلبك ويتسع وكل غنم قيدار تجتمع إليك وسادت نبايوت يخدمونك وتفتح أبوابك الليل والنهار فلا تغلق ويتخذونك قبلة وتدعين بعد ذلك مدينة الرب
فهاهو عليه السلام قد وصف مكة بأوصافها التي لا تصح أن توجد في غيرها
ومن أبين ذلك وأدله قوله وكل غنم قيدار تجتمع إليك وسادات بنايوت يخدمونك وقيدار ونبايوت ولدا إسماعيل وأغنامهم هي التي تساق إلى مكة هديا وهم أهل مكة وخدام البيت وليس بعد هذا بيان وكذلك قوله ويتخذونك قبلة وهذا بشارة بالنبي ﷺ فإنها لم تتخذ قبلة إلا على عهده ﷺ
وقول أشعياء هذا في بعض التراجم هكذا ارفعي إلى ما حولك بصرك فستبتهجين وتفرحين من أجل أنه تميل إليك ثروة البحر ويأتي إليك غنى الأمم حتى تعمرك قطار الإبل المؤبلة تضيق أرضك عن القطارات التي تجمع إليك وتساق إليك كباش مدين ويسير إليك أهل سبأ وتسير إليك أعلام قيدار ويخدمك رجال نبايوت
فاعتبر هذه الأوصاف البينة والأعلام المتصلة الظاهرة التي لا توجد في بلد إلا في مكة ولا يصح شيء منها أن يوجد في بيت المقدس ولا في غيرها
وقال أيضا عن الله: أعطى البادية كرامات لبنان وبهاء جبل الكرمل فالبادية مكة ولبنان الشام وبيت المقدس
وقال على أثر ذلك: وتشق في البادية مياه وسواق في أرض الفلاة وتكون الفيافي والأماكن العطاش ينابيع وتصير هناك محجة وطريق الحرم لا تمر به أنجاس الأمم والجاهل لا يضل هناك ولا يكون به سباع ولا أسد ويكون هناك ممر المخلصين
وقال أشعياء أيضا عن الله: ها أنذا مؤسس بصهيون وهو بيت الله حجرا مقره في زاوية مكة فمن كان مؤمنا فلا يتعجل
وهذا أخبار منه عن الحجر المقدس الأسود الذي في الركن اليماني وهو الحجر الذي أنزله الله من الجنة وكان أبيض فاسود لأجل خطايا بني آدم وصهيون الجبل بلسانهم فهذه دلائل واضحة وشواهد راجحة لا يعدل عنها إلا من حرم التوفيق فاستدبر الطريق ولا يتدبرها ويتفهم معانيها إلا من رافقه التوفيق وساعده الفهم والتحقيق
فهذا ما رأينا أن نثبته هنا من شواهد نبوته ﷺ من الكتب المتقدمة وفيها من الشواهد ما هو أكثر من هذا ومن وقف بفهم على ما في تلك الكتب قضى من عناد المخالفين العجب