مجموع الفتاوى/المجلد الخامس عشر/فصل في مقارنة حال يوسف عليه السلام بحال محمد
فصل في مقارنة حال يوسف عليه السلام بحال محمد
[عدل]واختيار النبي ﷺ له ولأهله الاحتباس في شعب بني هاشم بضع سنين، لا يبَايعُون ولا يشَارون؛ وصبيانهم يتَضَاغُون من الجوع، قد هجرهم وقَلاهُم قومهم، وغير قومهم. هذا أكمل من حال يوسف عليه السلام.
فإن هؤلاء كانوا يدعون الرسول إلى الشرك، وأن يقول على الله غير الحق. يقول: ما أرسلني ولا نهي عن الشرك، وقد قال تعالى: { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلا وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا إِذا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلا سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا } 1.
وكان كذب هؤلاء على النبي ﷺ أعظم من الكذب على يوسف؛ فإنهم قالوا: إنه ساحر، وإنه كاهن، وإنه مجنون، وإنه مُفْتَر. وكل واحدة من هؤلاء أعظم من الزنا والقذف؛ لا سيما الزنا المستور الذي لا يدري به أحد. فإن يوسف كذب عليه في أنه زني، وأنه قذفها وأشاع عنها الفاحشة؛ فكان الكذب على النبي ﷺ أعظم من الكذب على يوسف.
وكذلك الكذب على أولي العزم، مثل نوح وموسى، حيث يقال عن الواحد منهم: إنه مجنون، وإنه كَذَّاب، يكذب على الله، وما لقي النبي ﷺ وأصحابه من أذى المشركين أعظم من مجرد الحبس، فإن يوسف حُبِسَ وسُكِت عنه، والنبي ﷺ وأصحابه كانوا يؤذون بالأقوال والأفعال مع منعهم من تصرفاتهم المعتادة.
وهذا معنى الحبس، فإنه ليس المقصود بالحبس سكناه في السجن، بل المراد منعه من التصرف المعتاد. والنبي ﷺ لم يكن له حبس، ولا لأبي بكر، بل أول من اتخذ السجن عمر، وكان النبي ﷺ يسَلِّمُ الغريم إلى غريمه، ويقول: «ما فعل أسيرك؟ »، فيجعله أسيرا معه، حتى يقضيه حقه، وهذا هو المطلوب من الحبس.
والصحابة رضي الله عنهم منعوهم من التصرف بمكة أذى لهم، حتى خرج كثير منهم إلى أرض الحبشة، فاختاروا السكنى بين أولئك النصارى عند ملك عادل على السكنى بين قومهم، والباقون أُخرجوا من ديارهم وأموالهم أيضا مع ما آذوهم به، حتى قتلوا بعضهم، وكانوا يضربون بعضهم ويمنعون بعضهم ما يحتاج إليه، ويضعون الصخرة على بطن أحدهم في رَمْضَاء 2 مكة، إلى غير ذلك من أنواع الأذي.
وكذلك المؤمن من أمة محمد ﷺ يختار الأذى في طاعة الله على الإكرام مع معصيته، كأحمد بن حنبل اختار القيد والحبس والضرب على موافقة السلطان وجنده، على أن يقول على الله غير الحق في كلامه، وعلى أن يقول ما لا يعلم أيضا فإنهم كانوا يأتون بكلام يعرف أنه مخالف للكتاب والسنة، فهو باطل، وبكلام مجمل يحتاج إلى تفسير، فيقول لهم الإمام أحمد: ما أدري ما هذا؟ فلم يوافقهم على أن يقول على الله غير الحق، ولا على أن يقول على الله ما لا يعلم.
هامش