مجموع الفتاوى/المجلد الخامس عشر/فصل في تفسير قوله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون
فصل في تفسير قوله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون
[عدل]فى قوله في آخر الآية: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } 1، فوائد جليلة، منها: أن أمره لجميع المؤمنين بالتوبة في هذا السياق تنبيه على أنه لا يخلو مؤمن من بعض هذه الذنوب التي هي ترك غض البصر وحفظ الفرج، وترك إبداء الزينة وما يتبع ذلك، فمستقل ومستكثر، كما في الحديث: «ما من أحد من بني آدم إلا أخطأ أو هَمَّ بخطيئة إلا يحيى بن زكريا». وذلك لا يكون إلا عن نظر، وفى السنن عن النبي ﷺ أنه قال: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون»، وفى الصحيح عن أبى ذر عن النبي ﷺ: «يقول الله تعالى: يا عبادى إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا ولا أبالي، فاستغفرونى أغفر لكم».
وفى الصحيحين عن ابن عباس قال: ما رأيت شىئًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة: إن النبي ﷺ قال: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق» الحديث إلى آخره. وفيه: «والنفس تتمنى ذلك وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» أخرجه البخاري تعليقًا من حديث طاووس عن أبى هريرة. ورواه مسلم من حديث سهيل بن أبى صالح، عن أبيه عن أبى هريرة، عن النبي ﷺ قال: «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا يدرك ذلك لا محالة: العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليدان زناهما البطش، والرجلان زناهما الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه»، وقد روى الترمذي حديثًا واستغربه عن ابن عباس في قوله: { إِلَّا اللَّمَمَ } 2، قال رسول الله ﷺ: «إن تغفر اللهم تغفر جمًا، وأي عبد لك لا ألما».
ومنها: أن أهل الفواحش الذين لم يغضوا أبصارهم ولم يحفظوا فروجهم مأمورون بالتوبة، وإنما أمروا بها لتقبل منهم، فالتوبة مقبولة منهم ومن سائر المذنبين، كما قال تعالى: { يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } 3، وقال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } 4، وسواء كانت الفواحش مغلظة لشدتها وكثرتها كإتيان ذوات المحارم، وعمل قوم لوط أو غير ذلك وسواء تاب الفاعل أو المفعول به فمن تاب تاب الله عليه، بخلاف ما عليه طائفة من الناس فإنهم إذا رأوا من عمل من هذه الفواحش شيئًا أيسوه من رحمة الله، حتى يقول أحدهم: من عمل من ذلك شيئًا لا يفلح أبدًا، ولا يرجون له قبول توبة، ويروى عن على أنه قال: منا كذا ومنا كذا، والمعفوج 5 ليس منا، ويقولون: إن هذا لا يعود صالحًا ولو تاب، مع كونه مسلمًا مقرًا بتحريم ما فعل.
ويدخلون في ذلك من استكره على فعل شيء من هذه الفواحش، ويقولون: لو كان لهذا عند الله خير ما سلط عليه من فعل به مثل هذا واستكرهه، كما يفعل بكثير من المماليك طوعًا وكرهًا، وكما يفعل بأجراء أهل الصناعات طوعًا وكرهًا، وكذلك من في معناهم من صبيان الكتاتيب وغيرهم، ونسوا قوله تعالى: { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } 6، وهؤلاء قد لا يعلمون صورة التوبة، وقد يكون هذا حالا وعملا لأحدهم، وقد يكون اعتقادًا، فهذا من أعظم الضلال والغى، فإن القنوط من رحمة الله بمنزلة الأمن من مكر الله تعالى وحالهم مقابل لحال مستحلى الفواحش، فإن هذا أمن مكر الله بأهلها، وذاك قنط أهلها من رحمة الله، والفقيه كل الفقيه هو الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله، ولا يجرئهم على معاصى الله.
وهذا في أصل الذنوب الإرادية نظير ما عليه أهل الأهواء والبدع فإن أحدهم يعتقد تلك السيئات حسنات فيأمن مكر الله، وكثير من الناس يعتقد أن توبة المبتدع لا تقبل، وقد قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } 7، وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى قال: كان رسول الله ﷺ يسمى لنا نفسه أسماء، فقال: «أنا محمد، وأنا أحمد، والمُقَفِّي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة»، وفى حديث آخر: «أنا نبي الرحمة وأنا نبي الملحمة». وذلك أنه بعث بالملحمة، وهى: المقتلة لمن عصاه، وبالتوبة لمن أطاعه، وبالرحمة لمن صدقه واتبعه، وهو رحمة للعالمين، وكان من قبله من الأنبياء لا يؤمر بقتال.
وكان الواحد من أممهم إذا أصاب بعض الذنوب يحتاج مع التوبة إلى عقوبات شديدة، كما قال تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } 8، وقد روى عن أبى العالية وغيره: أن أحدهم كان إذا أصاب ذنبًا أصبحت الخطيئة والكفارة مكتوبة على بابه، فأنزل الله في حق هذه الأمة: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } إلى قوله: { وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } 9، فخص الفاحشة بالذكر مع قوله: { ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } ، والظلم يتناول الفاحشة وغيرها تحقيقًا لما ذكرناه من قبول التوبة من الفواحش مطلقًا: من اللذين يأتيانها من الرجال والنساء جميعًا.
وفى الصحيح عن النبي ﷺ قال: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها»، وفى الصحيح عنه أنه قال: «من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه»، وفى السنن عنه أيضا أنه قال: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها»، وعنه ﷺ قال: «قال الشيطان: وعزتك يارب لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب تعالى: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني»، وعن أبى ذر قال: قال رسول الله ﷺ: «يقول الله: يابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، ابن آدم، لو لقيتني بقراب الأرض خطيئة ثم لقيتنى لا تشرك بي شئًا لأتيتك بقرابها مغفرة».
والذي يمنع توبة أحد هؤلاء إما بحاله وإما بقاله، ولا يخلو من أحد أمرين: أن يقول: إذا تاب أحدهم لم تقبل توبته، وإما أن يقول أحدهم: لا يتوب الله على أبدًا، أما الأول فباطل بكتاب الله وسنة نبيه وإجماع المسلمين، وإن كان قد تكلم بعض العلماء في توبة القاتل وتوبة الداعي إلى البدع، وفى ذلك نزاع في مذهب أحمد، وفى مذهب مالك أيضًا نزاع ذكره صاحب التمثيل والبيان في الجامع وغيره، وتكلموا أيضا في توبة الزنديق، ونحو ذلك.
فهم قد يتنازعون في كون التوبة في الظاهر تدفع العقوبة: إما لعدم العلم بصحتها، وإما لكونها لا تمنع ما وجب من الحد، ولم يقل أحد من الفقهاء: إن الزنديق ونحوه إذا تاب فيما بينه وبين الله توبة صحيحة لم يتقبلها الله منه، وأما القاتل والمضل فذاك لأجل تعلق حق الغير به، والتوبة من حقوق العباد لها حال آخر، وليس هذا موضع الكلام فيها وفى تفصيلها، وإنما الغرض أن الله يقبل التوبة من كل ذنب، كما دل عليه الكتاب والسنة.
والفواحش خصوصًا ما علمت أحدًا نازع في التوبة منها، والزانى والمزنى به مشتركان في ذلك إن تابا تاب الله عليهما، ويبين التوبة خصوصًا من عمل قوم لوط من الجانبين ما ذكره الله في قصة قوم لوط، فإنهم كانوا يفعلون الفاحشة بعضهم ببعض، ومع هذا فقد دعاهم جميعهم إلى تقوى الله والتوبة منها، فلو كانت توبة المفعول به أو غيره لا تقبل لم يأمرهم بما لا يقبل، قال تعالى: { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } 10، فأمرهم بتقوى الله المتضمنة لتوبتهم من هذه الفاحشة، والخطاب وإن كان للفاعل فإنه إنما خص به، لأنه صاحب الشهوة والطلب في العادة، بخلاف المفعول به، فإنه لم تخلق فيه شهوة لذلك في الأصل، وإن كانت قد تعرض له لمرض طارئ، أو أجر يأخذه من الفاعل، أو لغرض آخر. والله سبحانه وتعالى أعلم.
هامش
- ↑ [النور: 31]
- ↑ [النجم: 32]
- ↑ [التوبة: 104]
- ↑ [الشورى: 25]
- ↑ [المعفوج: مأخوذ من العَفْج، وهو أن يفعل الرجل بالغلام فعل قوم لوط، وربما يكنى به عن الجماع]
- ↑ [النور: 33]
- ↑ [الزمر: 53]
- ↑ [البقرة: 54]
- ↑ [آل عمران: 135، 136]
- ↑ [الشعراء: 160 163]