مجموع الفتاوى/المجلد الخامس عشر/فصل في تفسير قوله تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة
فصل في تفسير قوله تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة
[عدل]قال شيخ الإسلام رَحِمهُ الله:
قال الله تعالى: { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } 1، فأمر بذكر الله في نفسه، فقد يقال: هو ذكره في قلبه بلا لسانه؛ لقوله بعد ذلك: { وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } ، وقد يقال: وهو أصح بل ذكر الله في نفسه باللسان مع القلب، وقوله: { وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } كقوله: { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا } 2.
وفى الصحيح عن عائشة قالت: نزلت في الدعاء، وفى الصحيح عن ابن عباس قال: كان النبي ﷺ يجهر بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله، ومن أُنزل عليه، فقال الله: لا تجهر بالقرآن فيسمعه المشركون فيسبوا القرآن، ولا تخافت به عن أصحابك فلا يسمعوه، فنهاه عن الجهر والمُخافَتة. فالمُخافَتة هي ذكره في نفسه، والجهر المنهى عنه هو الجهر المذكور في قوله: { وَدُونَ الْجَهْرِ } فإن الجهر هو الإظهار الشديد، يقال: رجل جهورى الصوت، ورجل جهير.
وكذلك قول عائشة في الدعاء، فإن الدعاء كما قال تعالى: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } 3 وقال: { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا } 4، فالإخفاء قد يكون بصوت يسمعه القريب وهو المناجاة، والجهر مثل المناداة المطلقة، وهذا كقوله ﷺ لما رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير فقال: «أيها الناس، ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تَدْعُون أصمَّ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عُنُق راحلته».
ونظير قوله: { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ } 5، قوله ﷺ فيما روى عن ربه: «من ذكرنى في نفسه ذكرته في نفسى، ومن ذكرنى في ملأ ذكرته في ملأ خير منه»، وهذا يدخل فيه ذكره باللسان في نفسه، فإنه جعله قسيم الذكر في الملأ، وهو نظير قوله: { دون الجهر من القول }، والدليل على ذلك أنه قال: { بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } ومعلوم أن ذكر الله المشروع بالغدو والآصال في الصلاة، وخارج الصلاة هو باللسان مع القلب، مثل صلاتى الفجر والعصر، والذكر المشروع عقب الصلاتين، وما أمر به النبي ﷺ وعلَّمه وفعله من الأذكار والأدعية المأثورة من عمل اليوم والليلة المشروعة طرفى النهار بالغدو والآصال.
وقد يدخل في ذلك أيضا ذكر الله بالقلب فقط، لكن يكون الذكر في النفس كاملا وغير كامل، فالكامل باللسان مع القلب، وغير الكامل بالقلب فقط.
ويشبه ذلك قوله تعالى: { وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } 6، فإن القائلين بأن الكلام المطلق كلام النفس استدلوا بهذه الآية، وأجاب عنها أصحابنا وغيرهم بجوابين:
أحدهما: أنهم قالوا بألسنتهم قولا خفيًا.
والثاني: أنه قيده بالنفس، وإذا قيد القول بالنفس فإن دلالة المقيد خلاف دلالة المطلق. وهذا كقوله ﷺ: «إن الله تجاوز لأمتي عما حَدَّثَتْ به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به» فقوله: حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به: دليل على أن حديث النفس ليس هو الكلام المطلق، وأنه ليس باللسان.
وقد احتج بعض هؤلاء بقوله: { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } 7، وجعلوا القول المسر في القلب دون اللسان؛ لقوله: { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ، وهذه حجة ضعيفة جدًا؛ لأن قوله: { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ } يبين أن القول يسر به تارة ويجهر به أخرى، وهذا إنما هو فيما يكون في القول الذي هو بحروف مسموعة.
وقوله بعد ذلك: { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإنه إذا كان عليمًا بذات الصدور، فعلمه بالقول المسر والمجهور به أولى.
ونظيره قوله: { سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } 8.
هامش
- ↑ [الأعراف: 205]
- ↑ [الإسراء: 110]
- ↑ [الأعراف: 55]
- ↑ [مريم: 3]
- ↑ [الأعراف: 205]
- ↑ [المجادلة: 8]
- ↑ [الملك: 13]
- ↑ [الرعد: 10]