مجموع الفتاوى/المجلد الخامس عشر/تفسير قوله تعالى قل نزله روح القدس من ربك بالحق
تفسير قوله تعالى قل نزله روح القدس من ربك بالحق[عدل]
قال شيخ الإسلام:
قوله عز وجل: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } الآيتين 1. لفظ: الإنزال في القرآن يرد مقيدًا بأنه منه كالقرآن، وبالإنزال من السماء، ويراد به: العلو كالمطر، ومطلقًا فلا يختص بنوع، بل يتناول إنزال الحديد من الجبال، والإنزال من ظهور الحيوان، وغير ذلك، فقوله: { نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } بيان لنزول جبريل به من الله، كقوله: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } 2، أي: أنه مؤتمن لا يزيد ولا ينقص، فإن الخائن قد يغير الرسالة.
وفيها دلالة علي أمور:
منها: بطلان قول من زعم خلقه في جسم كالجهمية من المعتزلة وغيرهم، فإن السلف يسمون من قال بخلقه ونفي الصفات والرؤية جهميا، فإن جهمًا أول من ظهرت عنه بدعة نفي الأسماء والصفات وبالغ في ذلك، فله مزية المبالغة والابتداء بكثرة إظهاره، وإن كان جعد سبقه إلي بعض ذلك، لكن المعتزلة وإن وافقوه في البعض فهم يخالفونه في مثل مسائل الإيمان والقدر وبعض الصفات، وجهم يقول: إن الله لا يتكلم، أو يتكلم مجازا، وهم يقولون: يتكلم حقيقة، ولكن قولهم في المعني قوله، وهو ينفي الأسماء كالباطنية والفلاسفة.
ومنها: بطلان قول من زعم أنه فاض من العقل الفعال أو غيره، وهذا أعظم كفرًا وضلالا من الذي قبله.
ومنها: إبطال قول الأشعرية: إن كلام الله معني وهذا العربي خلق ليدل عليه، سواء قالوا: خلق في بعض الأجسام، أو ألهمه جبريل، أو أخذه من اللوح، فإن هذا لابد له من متكلم تكلم به أولا، وهذا يوافق قول من قال: إنه مخلوق، لكن يفارقه من وجهين:
أحدهما: أن أولئك يقولون: المخلوق كلام الله، وهؤلاء يقولون: إنه كلام مجازًا، وهذا أشر من قول المعتزلة، بل هو قول الجهمية المحضة، لكن المعتزلة يوافقونهم في المعني.
الثاني: أنهم يقولون: لله كلام قائم بذاته، والخلقية يقولون: لا يقوم بذاته؛ فإن الكُلاَّبية خير منهم في الظاهر، لكن في الحقيقة لم يثبتوا كلاما له غير المخلوق.
والمقصود أن الآية تبطل هذا، والقرآن اسم للعربي، لقوله: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ } 3. وأيضا، فقوله: { نَزَّلَهُ } عائد إلي قوله: { وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } 4، فالذي نزله الله هو الذي نزله روح القدس، وأيضا، قال: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ } الآية 5، وهم يقولون: إنما يعَلِّم هذا القرآن العربي بشر لقوله: { لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ } 6... إلخ، فعلم أن محمدا لم يؤلف نظما بل سمعه من روح القدس، وروح القدس الذي نزل به من الله، فعلم أنه سمعه منه، لم يؤلفه هو.
ونظيرها قوله: { وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا } 7 والكتاب: اسم للقرآن بالضرورة والاتفاق؛ فإنهم أو بعضهم يفرقون بين كتاب الله وكلامه، ولفظ «الكتاب»: يراد به المكتوب فيه، فيكون هو الكلام، ويراد به ما يكتب فيه، كقوله: { فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } 8، وقوله: { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا } 9، وقوله: { يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } 10، إخبار مستشهد بهم، فمن لم يقر به منا فهم خير منه من هذا الوجه.
وهذا لا ينافي ما جاء عن ابن عباس وغيره: أنه أنزل في ليلة القدر إلي بيت العزة في السماء الدنيا، ولا ينافي أنه مكتوب في اللوح قبل نزوله، سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل، أو بعده. فإذا أنزل جملة إلي بيت العزة فقد كتبه كله قبل أن ينزله، والله يعلم ما كان وما يكون، وما لا يكون لو كان كيف يكون، وهو قد كتب المقادير وأعمال العباد قبل أن يعملوها، ثم يأمر بكتابتها بعد أن يعملوها، فيقابل بين الكتابة المتقدمة والمتأخرة فلا يكون بينهما تفاوت، هكذا قال ابن عباس وغيره. فإذا كان ما يخلقه بائنًا عنه قد كتبه قبل أن يخلقه، فكيف لا يكتب كلامه الذي يرسل به ملائكته قبل أن يرسلهم؟.
ومن قال: إن جبرائيل أخذه عن الكتاب، لم يسمعه من الله فهو باطل من وجوه:
منها: أنه سبحانه كتب التوراة لموسى بيده، فبنو إسرائيل أخذوا كلامه من الكتاب الذي كتبه ومحمد عن جبريل عن الكتاب فهم أعلي بدرجة، ومن قال: إنه ألقي إلي جبريل معاني وعبر بالعربي فمعناه أنه ألهمه إلهاما، وهذا يكون لآحاد المؤمنين، كقوله: { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي } 11، { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى } 12، فيكون هذا أعلي من أخذ محمد ﷺ.
وأيضا: فإنه سبحانه قال: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ } إلي قوله: { وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } 13، وهذا يدل علي أمور: علي أنه يكلم العبد تكليما زائدًا علي الوحي الذي هو قسيم التكليم الخاص.
فإن لفظ التكليم والوحي كل منهما ينقسم إلي عام وخاص، فالتكليم العام: هو المقسوم في قوله: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } الآية 14. فالتكليم المطلق قسيم الوحي الخاص، لا قسمًا منه، وكذلك الوحي يكون عامًا فيدخل فيه التكليم الخاص، كقوله: { فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } 15، ويكون قسيمًا له كما في الشورى، وهذا يبطل قول من قال: إنه معني واحد قائم بالذت، فإنه لا فرق بين العام وما لموسى. وفرق سبحانه في الشورى بين الإيحاء، وبين التكليم من وراء حجاب، وبين إرسال رسول فيوحي بإذنه ما يشاء.
هامش
- ↑ [النحل: 102، 103]
- ↑ [الشعراء: 193]
- ↑ [النحل: 98]
- ↑ [النحل: 101]
- ↑ [النحل: 103]
- ↑ [النحل: 103]
- ↑ [الأنعام: 114]
- ↑ [الواقعة: 78]
- ↑ [الإسراء: 13]
- ↑ [الأنعام: 114]
- ↑ [المائدة: 111]
- ↑ [القصص: 7]
- ↑ [النساء: 163، 164]
- ↑ [الشورى: 51]
- ↑ [طه: 13]