مجموع الفتاوى/المجلد الحادي عشر/فصل في بشرية النبي
فصل في بشرية النبي
والنبي ﷺ خلق مما يخلق منه البشر؛ ولم يخلق أحد من البشر من نور، بل قد ثبت في الصحيح عن النبى ﷺ أنه قال: «إن الله خلق الملائكة من نور؛ وخلق إبليس من مارج من نار؛ وخلق آدم مما وصف لكم» وليس تفضيل بعض المخلوقات على بعض باعتبار ما خلقت منه فقط؛ بل قد يخلق المؤمن من كافر، والكافر من مؤمن، كابن نوح منه وكإبراهيم من آزر، وآدم خلقه الله من طين، فلما سواه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، وفضله عليهم بتعليمه أسماء كل شيء وبأن خلقه بيديه، وبغير ذلك. فهو وصالحو ذريته أفضل من الملائكة؛ وإن كان هؤلاء مخلوقين من طين، وهؤلاء من نور. وهذه مسألة كبيرة مبسوطة في غير هذا الموضع، فإن فضل بنى آدم هو بأسباب يطول شرحها هنا. وإنما يظهر فضلهم إذا دخلوا دار القرار: { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } 1 والآدمى خلق من نطفة، ثم من مضغة، ثم من علقة، ثم انتقل من صغر إلى كبر، ثم من دار إلى دار، فلا يظهر فضله وهو في ابتداء أحواله، وإنما يظهر فضله عند كمال أحواله، بخلاف الملك الذى تشابه أول أمره وآخره. ومن هنا غلط من فضل الملائكة على الأنبياء حيث نظر إلى أحوال الأنبياء. وهم في أثناء الأحوال، قبل أن يصلوا إلى ما وعدوا به في الدار الآخرة من نهايات الكمال.
وقد ظهر فضل نبينا على الملائكة ليلة المعراج لما صار بمستوى يسمع فيه صريف الأقلام، وعلا على مقامات الملائكة، والله تعالى أظهر من عظيم قدرته وعجيب حكمته من صالحى الآدميين من الأنبياء والأولياء ما لم يظهر مثله من الملائكة، حيث جمع فيهم ما تفرق في المخلوقات. فخلق بدنه من الأرض، وروحه من الملأ الأعلى، ولهذا يقال: هو العالم الصغير، وهو نسخة العالم الكبير. ومحمد سيد ولد آدم، وأفضل الخلق، وأكرمهم عليه. ومن هنا قال من قال: إن الله خلق من أجله العالم، أو أنه لولا هو لما خلق عرشًا، ولا كرسيًا، ولا سماء ولا أرضًا ولا شمسًا ولا قمرًا.
لكن ليس هذا حديثا عن النبى ﷺ لا صحيحًا ولا ضعيفًا، ولم ينقله أحد من أهل العلم بالحديث عن النبى ﷺ، بل ولا يعرف عن الصحابة، بل هو كلام لا يدرى قائله. ويمكن أن يفسر بوجه صحيح كقوله: { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } 2، وقوله: { وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } 3 وأمثال ذلك من الآيات التي يبين فيها أنه خلق المخلوقات لبنى آدم. ومعلوم أن لله فيها حكمًا عظيمة غير ذلك، وأعظم من ذلك. ولكن يبين لبنى آدم ما فيها من المنفعة، وما أسبغ عليهم من النعمة.
فإذا قيل: فعل كذا لكذا لم يقتض ألا يكون فيه حكمة أخرى. وكذلك قول القائل: لولا كذا ما خلق كذا. لا يقتضى ألا يكون فيه حكم أخرى عظيمة، بل يقتضى إذا كان أفضل صالحى بنى آدم محمد، وكانت خلقته غاية مطلوبة، وحكمة بالغة مقصودة أعظم من غيره، صار تمام الخلق، ونهاية الكمال، حصل بمحمد ﷺ.
والله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وكان آخر الخلق يوم الجمعة، وفيه خلق آدم وهو آخر ما خلق، خلق يوم الجمعة بعد العصر في آخر يوم الجمعة. وسيد ولد آدم هو محمد ﷺ آدم فمن دونه تحت لوائه قال ﷺ: «إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل 4 في طينته» أي كتبت نبوتي وأظهرت لما خلق آدم قبل نفخ الروح فيه، كما يكتب الله رزق العبد وأجله وعمله وشقى أو سعيد إذا خلق الجنين قبل نفخ الروح فيه.
فإذا كان الإنسان هو خاتم المخلوقات وآخرها وهو الجامع لما فيها، وفاضله هو فاضل المخلوقات مطلقًا، ومحمد إنسان هذا العين، وقطب هذه الرحى، وأقسام هذا الجمع كان كأنها غاية الغايات في المخلوقات، فما ينكر أن يقال: إنه لأجله خلقت جميعها، وأنه لولاه لما خلقت، فإذا فسر هذا الكلام ونحوه بما يدل علىه الكتاب والسنة قبل ذلك.
وأما إذا حصل في ذلك غلو من جنس غلو النصارى بإشراك بعض المخلوقات في شيء من الربوبية، كان ذلك مردودًا غير مقبول، فقد صح عنه ﷺ أنه قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» وقد قال تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ } 5.
والله قد جعل له حقًا لا يشركه فيه مخلوق فلا تصلح العبادة إلا له، ولا الدعاء إلا له، ولا التوكل إلا عليه، ولا الرغبة إلا إليه، ولا الرهبة إلا منه، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، ولا يأتى بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا حول ولا قوة إلا به { وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } 6، { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } 7 { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } 8، وقال تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } 9، فجعل الطاعة لله وللرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده، وكذلك في قوله: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ } 10 فالإيتاء لله والرسول. وأما التوكل فعلى الله وحده، والرغبة إلى الله وحده.
هامش
- ↑ [الرعد: 23، 24]
- ↑ [الجاثية: 13]
- ↑ [إبراهيم: 32 34 ]
- ↑ [منجدل: أى ملقى على الجَدَالة وهى الأرض. انظر غريب الحديث والأثر لابن الأثير 1 248]
- ↑ [النساء: 171]
- ↑ [سبأ: 23]
- ↑ [البقرة: 255]
- ↑ [مريم: 93 95]
- ↑ [ النور: 52]
- ↑ [التوبة: 59]