مجموع الفتاوى/المجلد الحادي عشر/فصل في الفقراء
فصل في الفقراء
وأما «الفقراء» الذين ذكرهم الله في كتابه فهم صنفان: مستحقوا الصدقات، ومستحقوا الفيء.
أما مستحقوا الصدقات فقد ذكرهم الله في كتابه في قوله: { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لكم } 1 وفي قوله: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ } 2.
وإذا ذكر في القرآن اسم الفقير وحده، والمسكين وحده كقوله: { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } 3 فهما شيء واحد، وإذا ذكرا جميعًا فهما صنفان. والمقصود بهما أهل الحاجة. وهم الذين لا يجدون كفايتهم، لا من مسألة ولا من كسب يقدرون عليه، فمن كان كذلك من المسلمين استحق الأخذ من الصدقات المفروضة، والموقوفة والمنذورة، والموصى بها، وبين الفقهاء نزاع في بعض فروع المسألة معروف عند أهل العلم.
وضد هؤلاء الأغنياء الذين تحرم عليهم الصدقة، ثم هم نوعان: نوع تجب عليهم الزكاة، وإن كانت الزكاة تجب على من قد تباح له عند جمهور العلماء.
ونوع لا تجب عليه الزكاة.
وكل منهما قد يكون له فضل عن نفقاته الواجبة، وهم الذين قال الله فيهم: { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } 4. وقد لا يكون له فضل، وهؤلاء الذين رزقهم قوت وكفاف هم أغنياء باعتبار غناهم عن الناس، وهم فقراء باعتبار أنه ليس لهم فضول يتصدقون بها.
وإنما يسبق الفقراء الأغنياء إلى الجنة بنصف يوم، لعدم فضول الأموال التي يحاسبون على مخارجها ومصارفها، فمن لم يكن له فضل كان من هؤلاء، وإن لم يكن من أهل الزكاة، ثم أرباب الفضول إن كانوا محسنين في فضول أموالهم، فقد يكونون بعد دخول الجنة أرفع درجة من كثير من الفقراء الذين سبقوهم، كما تقدم أغنياء الأنبياء والصديقين من السابقين وغيرهم على الفقراء الذين دونهم. ومن هنا قال الفقراء: «ذهب أهل الدثور بالأجور» وقيل لما ساواهم الأغنياء في العبادات البدنية، وامتازوا عنهم بالعبادات المالية: { ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } فهذا هو الفقير في عرف الكتاب والسنة.
وقد يكون الفقراء سابقين، وقد يكونون مقتصدين، وقد يكونون ظالمي أنفسهم كالأغنياء، وفي كلا الطائفتين: المؤمن الصديق، والمنافق الزنديق.
وأما المستأخرون ف الفقير في عرفهم عبارة عن السالك إلى الله تعالى، كما هو الصوفي في عرفهم أيضا، ثم منهم من يرجح مسمى الصوفي على مسمى الفقير لأنه عنده الذي قام بالباطن والظاهر ومنهم من يرجح مسمي الفقير؛ لأنه عنده الذي قطع العلائق، ولم يشتغل في الظاهر بغير الأمور الواجبة، وهذه منازعات لفظية اصطلاحية.
والتحقيق أن المراد المحمود بهذين الاسمين، داخل في مسمى الصديق، والولي والصالح، ونحو ذلك من الأسماء التي جاء بها الكتاب والسنة، فمن حيث دخل في الأسماء النبوية، يترتب عليه من الحكم ما جاءت به الرسالة، وأما ما تميز به مما يعده صاحبه فضلًا وليس بفضل، أو مما يوالي عليه صاحبه غيره، ونحو ذلك من الأمور التي يترتب عليها زيادة الدرجة في الدين والدنيا، فهي أمور مهدرة في الشريعة إلا إذا جعلت من المباحات كالصناعات، فهذا لا بأس به، بشرط ألا يعتقد أن تلك المباحات من الأمور المستحبات. وإما ما يقترن بذلك من الأمور المكروهة في دين الله: من أنواع البدع والفجور. فيجب النهي عنه كما جاءت به الشريعة.
هامش