مجموع الفتاوى/المجلد الحادي عشر/فصل فيمن قال إن أحدا من الصحابة أهل الصفة أو غيرهم أو التابعين أو تابعي التابعين قاتل مع الكفار
فصل فيمن قال إن أحدا من الصحابة أهل الصفة أو غيرهم أو التابعين أو تابعي التابعين قاتل مع الكفار
[عدل]وأما من قال إن أحدًا من الصحابة أهل الصفة أو غيرهم أو التابعين أو تابعي التابعين قاتل مع الكفار، أو قاتلوا النبي ﷺ أو أصحابه، أو أنهم كانوا يستحلون ذلك، أو أنه يجوز ذلك، فهذا ضال غاو؛ بل كافر يجب أن يستتاب من ذلك، فإن تاب وإلا قتل. { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا } 1 ؛ بل كان أهل الصفة وغيرهم كالقراء الذين قنت النبي ﷺ يدعو على من قتلهم من أعظم الصحابة إيمانًا وجهادًا مع رسول الله ﷺ ونصرًا لله ورسوله، كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } 2.
وقال: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا } إلى قوله: { وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } 3 وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } 4.
وقد غزا النبي ﷺ غزوات متعددة، وكان القتال منها في تسع مغاز: مثل بدر. وأحد. والخندق. وخيبر. وحنين. وانكسر المسلمون يوم أحد وانهزموا، ثم عادوا يوم حنين، ونصرهم الله ببدر وهم أذلة، وحصروا في الخندق حتى دفع الله عنهم أولئك الأعداء، وفي جميع المواطن كان يكون المؤمنون من أهل الصفة وغيرهم مع النبي ﷺ، لم يقاتلوا مع الكفار قط، وإنما يظن هذا ويقوله من الضلال والمنافقين قسمان:
قسم منافقون. وإن أظهروا الإسلام، وكان في بعضهم زهادة وعبادة، يظنون أن إلى الله طريقا غير الإيمان بالرسول ومتابعته، وإن من أولياء الله من يستغنى عن متابعة الرسول، كاستغناء الخضر عن متابعة موسى. وفي هؤلاء من يفضل شيخه أو عالمه أو ملكه على النبي ﷺ: إما تفضيلا مطلقًا، أو في بعض صفات الكمال. وهؤلاء منافقون كفار يجب قتلهم بعد قيام الحجة عليهم.
فإن الله تعالى بعث محمدا ﷺ إلى جميع الثقلين: إنسهم وجنهم وزهادهم وملوكهم. وموسى عليه السلام إنما بعث إلى قومه لم يكن مبعوثا إلى الخضر، ولا كان يجب على الخضر اتباعه؛ بل قال له: إني على علم من علم الله تعالى علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. وقد قال النبي ﷺ: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة. وبعثت إلى الناس عامة» وقال الله تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } 5 وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } 6.
والقسم الثاني: من يشاهد ربوبية الله تعالى لعباده التي عمت جميع البرايا، ويظن أن دين الله الموافقة للقدر، سواء كان في ذلك عبادة الله وحده لا شريك له، أو كان فيه عبادة الأوثان واتخاذ الشركاء والشفعاء من دونه، وسواء كان فيه الإيمان بكتبه ورسله، أو الإعراض عنهم والكفر بهم، وهؤلاء يسوون بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض، وبين المتقين والفجار، ويجعلون المسلمين كالمجرمين، ويجعلون الإيمان والتقوى والعمل الصالح بمنزلة الكفر والفسوق والعصيان، وأهل الجنة كأهل النار، وأولياء الله كأعداء الله، وربما جعلوا هذا من باب الرضا بالقضاء وربما جعلوه التوحيد والحقيقة بناء على أنه توحيد الربوبية الذي يقر به المشركون، وأنه الحقيقة الكونية.
وهؤلاء يعبدون الله على حرف: فإن أصابهم خير اطمأنوا به، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم، خسروا الدنيا والآخرة، وغالبهم يتوسعون في ذلك حتى يجعلوا قتال الكفار قتالًا لله، ويجعلون أعيان الكفار والفجار والأوثان من نفس الله وذاته، ويقولون: ما في الوجود غيره، ولا سواه، بمعنى أن المخلوق هو الخالق، والمصنوع هو الصانع. وقد يقولون: { لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } 7 ويقولون: { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللهُ أَطْعَمَهُ } 8.
إلى نحو ذلك من الأقوال والأفعال التي هي شر من مقالات اليهود والنصارى، بل ومن مقالات المشركين والمجوس، وسائر الكفار، من جنس مقالة فرعون والدجال، ونحوهما ممن ينكر الصانع الخالق البارئ رب العالمين، أو يقولون: إنه هو، أو أنه حل فيه.
وهؤلاء كفار بأصلي الإسلام وهما: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
فإن التوحيد الواجب أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، ولا نجعل له ندا في إلهيته، لا شريكا ولا شفيعا. فأما توحيد الربوبية وهو الإقرار بأنه خالق كل شيء، فهذا قد أقر به المشركون الذين قال الله فيهم: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ } 9 قال ابن عباس: تسألهم من خلق السموات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم يعبدون غيره. وقال تعالى: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } 10 وقال تعالى: { قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } 11.
فالكفار المشركون مقرون أن الله خالق السموات والأرض، وليس في جميع الكفار من جعل لله شريكا مساويا له في ذاته وصفاته وأفعاله، هذا لم يقله أحد قط، لا من المجوس الثنوية، ولا من أهل التثليث، ولا من الصابئة المشركين الذين يعبدون الكواكب والملائكة، ولا من عباد الأنبياء والصالحين، ولا من عباد التماثيل والقبور وغيرهم؛ فإن جميع هؤلاء - وإن كانوا كفارًا مشركين متنوعين في الشرك - فهم مقرون بالرب الحق الذي ليس له مثل في ذاته وصفاته، وجميع أفعاله؛ ولكنهم مع هذا مشركون به في ألوهيته، بأن يعبدوا معه آلهة أخرى، يتخذونها شفعاء أو شركاء؛ أو في ربوبيته بأن يجعلوا غيره رب بعض الكائنات دونه مع اعترافهم بأنه رب ذلك الرب، وخالق ذلك الخلق.
وقد أرسل الله جميع الرسل، وأنزل جميع الكتب بالتوحيد الذي هو عبادة الله وحده، لا شريك له. كما قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونَِ } 12 وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } 13 وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ } 14، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } 15.
وقد قالت الرسل كلهم مثل نوح وهود وصالح وغيرهم: { أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } 16 فكل الرسل دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى طاعتهم.
والإيمان بالرسل، هو الأصل الثاني من أصلي الإسلام، فمن لم يؤمن بأن محمدا رسول الله إلى جميع العالمين، وأنه يجب على جميع الخلق متابعته، وإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه، فهو كافر: مثل هؤلاء المنافقين ونحوهم ممن يجوز الخروج عن دينه وشرعته وطاعته؛ إما عمومًا وإما خصوصًا. ويجوز إعانة الكفار والفجار على إفساد دينه وشرعته.
ويحتجون بما يفترونه: إن أهل الصفة قاتلوه. وإنهم قالوا: نحن مع الله، من كان الله معه كنا معه، يريدون بذلك القدر والحقيقة الكونية دون الأمر والحقيقة الدينية ويحتج بمثل هذا من ينصر الكفار والفجار، ويخفرهم بقلبه وهمته، وتوجهه من ذوي الفقر، ويعتقدون مع هذا أنهم من أولياء الله، وإن الخروج عن الشريعة المحمدية سائغ لهم، وكل هذا ضلال وباطل. وإن كان لأصحابه زهد وعبادة، فهم في العباد مثل أوليائهم من التتار ونحوهم في الأجناد فإن «المرء على دين خليله» و«المرء مع من أحب». هكذا قال النبي ﷺ، وقد جعل الله المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والكافرين بعضهم أولياء بعض.
وقد أمر النبي ﷺ بقتال المارقين من الإسلام مع عبادتهم العظيمة الذين قال فيهم النبي ﷺ: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم. يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» وهؤلاء قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لما خرجوا عن شريعة رسول الله ﷺ وسنته، وفارقوا جماعة المسلمين، فكيف بمن يعتقد أن المؤمنين كانوا يقاتلون النبي ﷺ؟
ومثل هذا ما يرويه بعض هؤلاء المفترين: أن أهل الصفة سمعوا ما خاطب الله به رسوله ليلة المعراج؛ وإن الله أمره ألا يعلم به أحدا. فلما أصبح وجدهم يتحدثون، فأنكر ذلك، فقال الله تعالى: «أنا أمرتك ألا تعلم به أحدًا؛ لكن أنا الذي أعلمتهم به».
إلى أمثال هذه الأكاذيب التي هي من أعظم الكفر. وهي كذب واضح؛ فإن أهل الصفة لم يكونوا إلا بالمدينة؛ لم يكن بمكة أهل صفة؛ والمعراج إنما كان من مكة؛ كما قال سبحانه وتعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى } 17.
ومما يشبه هذا من بعض الوجوه: رواية بعضهم عن عمر أنه قال: كان النبي ﷺ يتحدث هو أبو بكر وكنت كالزنجي بينهما.
وهذا من الإفك المختلق. ثم أنهم مع هذا يجعلون عمر الذي سمع كلام النبي ﷺ وصديقه، وهو أفضل الخلق بعد الصديق لم يفهم ذلك الكلام، بل كان كالزنجي. ويدعون أنهم هم سمعوه وعرفوه ثم كل منهم يفسره بما يدعيه من الضلالات الكفرية التي يزعم أنها علم الأسرار والحقائق ويريدون بذلك إما الاتحاد وإما تعطيل الشرائع ونحو ذلك. مثل ما تدعي النصيرية والإسماعيلية؛ والقرامطة والباطنية الثنوية، والحاكمية وغيرهم، من الضلالات المخالفة لدين الإسلام. وما ينسبونه إلى علي بن أبي طالب؛ أو جعفر الصادق أو غيرهما من أهل البيت كالبطاقة والهفت والجدول والجفر وملحمة بن عنضب، وغير ذلك من الأكاذيب المفتراة باتفاق جميع أهل المعرفة، وكل هذا باطل.
فإنه لما كان لآل رسول الله ﷺ به اتصال النسب والقرابة، وللأولياء الصالحين منهم ومن غيرهم به اتصال الموالاة والمتابعة، صار كثير ممن يخالف دينه وشريعته وسنته يموه باطله ويزخرفه بما يفتريه على أهل بيته، وأهل موالاته ومتابعته، وصار كثير من الناس يغلو إما في قوم من هؤلاء، أو من هؤلاء، حتى يتخذهم آلهة أو يقدم ما يضاف إليهم على شريعة النبي ﷺ وسنته، وحتى يخالف كتاب الله وسنة رسوله، وما اتفق عليه السلف الطيب من أهل بيته ومن أهل الموالاة له والمتابعة، وهذا كثير في أهل الضلال.
هامش
- ↑ [النساء: 115]
- ↑ [الحشر: 8]
- ↑ [الفتح: 29]
- ↑ [المائدة: 54]
- ↑ [الأعراف: 158]
- ↑ [سبأ: 28]
- ↑ [الأنعام: 148]
- ↑ [يس: 47]
- ↑ [يوسف: 106]
- ↑ [ الزمر: 38 ]
- ↑ [المؤمنون: 84: 89]
- ↑ [الأنبياء: 25]
- ↑ [الزخرف: 45]
- ↑ [النحل: 36]
- ↑ [المؤمنون: 51، 52]
- ↑ [نوح: 3]
- ↑ [الإسراء: 1]