مجموع الفتاوى/المجلد الحادي عشر/سئل ما الحكمة أن المشتغلين بالذكر يفتح عليهم من الكشوفات والكرامات
سئل ما الحكمة أن المشتغلين بالذكر يفتح عليهم من الكشوفات والكرامات
[عدل]ما الحكمة في أن المشتغلين بالذكر والفكر والرياضة ومجاهدة النفس وما أشبهه يفتح عليهم من الكشوفات والكرامات وما سوى ذلك من الأحوال مع قلة علمهم، وجهل بعضهم ما لا يفتح على المشتغلين بالعلم ودرسه؟ والبحث عنه؟ حتى لو بات الإنسان متوجها مشتغلا بالذكر والحضور لا بد أن يرى واقعه أو يفتح عليه شيء، ولو بات ليلة يكرر على باب من أبواب الفقه لا يجد ذلك، حتى إن كثيرًا من المتعبدين يجد للذكر حلاوة ولذة. ولا يجد ذلك عند قراءة القرآن. مع أنه قد وردت السنة بتفضيل العالم على العابد، لا سيما إذا كان العابد محتاجًا إلى علم هو مشتغل به عن العبادة.
ففي الحديث: «إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب» وفي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا كان يوم القيامة يقول الله عز وجل للعابدين والمجاهدين: ادخلوا الجنة، فيقول العلماء: بفضل علمنا عبدوا وجاهدوا، فيقول الله عز وجل لهم: أنتم عندي كملائكتي، اشفعوا فيشفعون. ثم يدخلون الجنة وغير ذلك من الأحاديث والآثار.
ثم إن كثيرًا من المتعبدين يؤثر العبادة على طلب العلم، مع جهله بما يبطل كثيرًا من عبادته، كنواقض الوضوء، أو مبطلات الصلاة والصوم. وربما يحكي بعضهم حكاية في هذا المعنى: بأن: رابعة العدوية رحمها الله أتت ليلة بالقدس تصلي حتى الصباح، وإلى جانبها بيت فيه فقيه يكرر على باب الحيض إلى الصباح، فلما أصبحت رابعة قالت له: يا هذا، وصل الواصلون إلى ربهم، وأنت مشتغل بحيض النساء، أو نحوها. فما المانع أن يحصل للمشتغلين بالعلم ما يحصل للمشتغلين بالعبادة مع فضله عليه؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، لا ريب أن الذي أوتي العلم والإيمان أرفع درجة من الذين أوتوا الإيمان فقط، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، والعلم الممدوح الذي دل عليه الكتاب والسنة هو العلم الذي ورثته الأنبياء. كما قال النبي ﷺ: «إن العلماء ورثة الأنبياء؛ إن الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر».
وهذا العلم ثلاثة أقسام:
علم بالله وأسمائه وصفاته: وما يتبع ذلك، وفي مثله أنزل الله سورة الإخلاص، وآية الكرسي، ونحوهما.
والقسم الثاني: العلم بما أخبر الله به، مما كان من الأمور الماضية، وما يكون من الأمور المستقبلة، وما هو كائن من الأمور الحاضرة، وفي مثل هذا أنزل الله آيات القصص، والوعد، والوعيد وصفة الجنة والنار، ونحو ذلك.
والقسم الثالث: العلم بما أمر الله به من الأمور المتعلقة بالقلوب والجوارح من الإيمان بالله من معارف القلوب وأحوالها وأقوال الجوارح وأعمالها، وهذا العلم يندرج فيه العلم بأصول الإيمان وقواعد الإسلام ويندرج فيه العلم بالأقوال والأفعال الظاهرة، وهذا العلم يندرج فيه ما وجد في كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال الظاهرة، فإن ذلك جزء من جزء من جزء من علم الدين، كما أن المكاشفات التي تكون لأهل الصفا جزء من جزء من جزء من علم الأمور الكونية.
والناس إنما يغلطون في هذه المسائل، لأنهم يفهمون مسميات الأسماء الواردة في الكتاب والسنة، ولا يعرفون حقائق الأمور الموجودة، فرب رجل يحفظ حروف العلم التي أعظمها حفظ حروف القرآن ولا يكون له من الفهم، بل ولا من الإيمان ما يتميز به على من أوتي القرآن ولم يؤت حفظ حروف العلم، كما قال النبي ﷺ في الحديث المتفق عليه: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها».
فقد يكون الرجل حافظًا لحروف القرآن وسوره، ولا يكون مؤمنا بل يكون منافقًا. فالمؤمن الذي لا يحفظ حروفه وسوره خير منه. وإن كان ذلك المنافق ينتفع به الغير كما ينتفع بالريحان. وأما الذي أوتي العلم والإيمان فهو مؤمن عليم، فهو أفضل من المؤمن الذي ليس مثله في العلم مثل اشتراكهما في الإيمان، فهذا أصل تجب معرفته.
وههنا أصل آخر وهو أنه ليس كل عمل أورث كشوفًا أو تصرفًا في الكون يكون أفضل من العمل الذي لا يورث كشفًا وتصرفًا، فإن الكشف والتصرف إن لم يكن مما يستعان به على دين الله وإلا كان من متاع الحياة الدنيا. وقد يحصل ذلك للكفار من المشركين وأهل الكتاب، وإن لم يحصل لأهل الإيمان الذين هم أهل الجنة، وأولئك أصحاب النار.
ففضائل الأعمال ودرجاتها لا تتلقى من مثل هذا، وإنما تتلقى من دلالة الكتاب والسنة، ولهذا كان كثير من الأعمال يحصل لصاحبه في الدنيا رئاسة ومال، فأكرم الخلق عند الله أتقاهم، ومن عبد الله بغيرعلم فقد أفسد أكثر مما يصلح، وإن حصل له كشف وتصرف، وإن اقتدى به خلق كثير من العامة، وقد بسطنا الكلام في هذا الباب في مواضعه، فهذا أصل ثان.
وأصل ثالث أن تفضيل العمل على العمل قد يكون مطلقًا مثل تفضيل أصل الدين على فرعه، وقد يكون مقيدًا. فقد يكون أحد العملين في حق زيد أفضل من الآخر، والآخر في حق عمرو أفضل، وقد يكونان متماثلين في حق الشخص، وقد يكون المفضول في وقت أفضل من الفاضل، وقد يكون المفضول في حق من يقدر عليه وينتفع به أفضل من الفاضل في حق من ليس كذلك.
مثال ذلك: أن قراءة القرآن أفضل من مجرد الذكر بسنة رسول الله ﷺ، وإجماع الأمة ولا اعتبار بمن يخالف ذلك من جهال العباد ثم الركوع والسجود ينهي فيه عن قراءة القرآن، ويؤمر فيه بالذكر، وكذلك الذكر والدعاء في الطواف وعرفة ونحوهما، أفضل من قراءة القرآن، وكذلك الأذكار المشروعة: مثل ما يقال عند سماع النداء ودخول المسجد والمنزل والخروج منهما، وعند سماع الديكة والحمر ونحو ذلك أفضل من قراءة القرآن في هذا الموطن، وأيضا فأكثر السالكين إذا قرؤوا القرآن لا يفهمونه. وهم بعد لم يذوقوا حلاوة الإيمان الذي يزيدهم بها القرآن إيمانًا، فإذا أقبلوا على الذكر أعطاهم الذكر من الإيمان ما يجدون حلاوته ولذته، فيكون الذكر أنفع لهم حينئذ من قراءة لا يفهمونها، ولا معهم من الإيمان ما يزداد بقراءة القرآن، أما إذا أوتي الرجل الإيمان فالقرآن يزيده من الإيمان ما لا يحصل بمجرد الذكر، فهذا أصل ثالث.
وأصل رابع وهو أن الرجل قد يأتي بالعمل الفاضل من غير قيام بشروطه، ولا إخلاص فيه، فيكون بتفويت شرائطه دون من أتى بالمفضول المكمل.
فهذه الأصول ونحوها تبين جواب هذا السائل، وإن كان تفصيل ذلك لا تتسع له الورقة، والله أعلم.
هامش