البداية والنهاية/الجزء السابع/كائنة غريبة فيها عزل خالد عن قنسرين أيضا
قال ابن جرير: وفي هذه السنة: أدرب خالد بن الوليد، وعياض بن غنم، أي: سلكا درب الروم، وأغارا عليهم، فغنموا أموالا عظيمةً، وسبيا كثيرا.
ثم روي من طريق سيف، عن أبي عثمان، وأبي حارثة، والربيع، وأبي المجالد.
قالوا: لما رجع خالد ومعه أموال جزيلة من الصائفة، انتجعه الناس يبتغون وفده ونائله، فكان ممن دخل عليه الأشعث بن قيس، فأجازه بعشرة آلاف.
فلما بلغ ذلك عمر كتب إلى أبي عبيدة: يأمره أن يقيم خالدا ويكشف عمامته، وينزع عنه قلنسوته، ويقيده بعمامته، ويسأله عن هذه العشرة آلاف، إن كان أجازها الأشعث من ماله فهو سرف، وإن كان من مال الصائفة فهي خيانة ثم أعزله عن عمله.
فطلب أبو عبيدة خالدا، وصعد أبو عبيدة المنبر، وأقيم خالد بين يدي المنبر، وقام إليه بلال، ففعل ما أمر به عمر بن الخطاب هو والبريد الذي قدم بالكتاب.
هذا وأبو عبيدة ساكت لا يتكلم، ثم نزل أبو عبيدة واعتذر إلى خالد مما كان بغير اختياره وإرادته، فعذره خالد وعرف أنه لا قصد له في ذلك.
ثم سار خالد إلى قنسرين، فخطب أهل البلد وودعهم، وسار بأهله إلى حمص، فخطبهم أيضا وودعهم، وسار إلى المدينة، فلما دخل خالد على عمر أنشد عمر قول الشاعر:
صنعت فلم يصنع كصنعك صانع * وما يصنع الأقوام فالله صانع
ثم سأله من أين هذا اليسار الذي تجيز منه بعشرة آلاف؟
فقال: من الأنفال والسهمان.
قال: فما زاد على الستين ألفا فلك، ثم قوم أمواله وعروضه، وأخذ منه عشرين ألفا، ثم قال: والله إنك علي لكريم، وإنك إليَّ لحبيب، ولن تعمل لي بعد اليوم على شيء.
وقال سيف، عن عبد الله، عن المستورد، عن أبيه، عن عدي بن سهل قال: كتب عمر إلى الأمصار: إني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا خيانة، ولكن الناس فتنوا به، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع.
ثم رواه سيف، عن مبشر، عن سالم قال: لما قدم خالد على عمر فذكر مثله.
قال الواقدي: وفي هذه السنة اعتمر عمر في رجب منها، وعمَّر في المسجد الحرام، وأمر بتجديد أنصاب الحرم أمر بذلك لمخرمة بن نوفل، وأزهر بن عبد عوف، وحويطب بن عبد العزى، وسعيد بن يربوع.
قال الواقدي: وحدثني كثير بن عبد الله المري، عن أبيه، عن جده قال: قدم عمر مكة في عمرة سنة سبع عشرة، فمر في الطريق فكلمه أهل المياه أن يبنوا منازل بين مكة والمدينة - ولم يكن قبل ذلك بناء - فأذن لهم وشرط عليهم أن ابن السبيل أحق بالظل والماء.
قال الواقدي: وفيها تزوج عمر بأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، من فاطمة بنت رسول الله ﷺ، ودخل بها في ذي القعدة.
وقد ذكرنا في سيرة عمر ومسنده صفة تزويجه بها أنه أمهرها أربعين ألفا، وقال: إنما تزوجتها لقول رسول الله ﷺ: « كل سبب ونسب فإنه ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي ».
قال: وفي هذه السنة ولى عمر أبا موسى الأشعري البصرة، وأمره أن يشخص إليه المغيرة بن شعبة في ربيع الأول، فشهد عليه فيما حدثني معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب: أبو بكرة، وشبل بن معبد البجلي، ونافع بن عبيد، وزياد.
ثم ذكر الواقدي وسيف هذه القصة وملخصها: أن امرأة كان يقال لها أم جميل بنت الأفقم، من نساء بني عامر بن صعصعة، ويقال: من نساء بني هلال.
وكان زوجها من ثقيف قد توفي عنها، وكانت تغشى نساء الأمراء والأشراف، وكانت تدخل على بيت المغيرة بن شعبة، وهو أمير البصرة، وكانت دار المغيرة تجاه دار أبي بكرة، وكان بينهما طريق، وفي دار أبي بكرة كوة تشرف على كوة في دار المغيرة، وكان لا يزال بين المغيرة وبين أبي بكرة شنآن.
فبينما أبو بكرة في داره وعنده جماعة يتحدثون في العلية إذ فتحت الريح باب الكوة، فقام أبو بكرة ليغلقها، فإذا كوة المغيرة مفتوحة، وإذا هو على صدر امرأة وبين رجليها، وهو يجامعها.
فقال أبو بكرة لأصحابه: تعالوا فانظروا إلى أميركم يزني بأم جميل، فقاموا فنظروا إليه وهو يجامع تلك المرأة.
فقالوا لأبي بكرة: ومن أين قلت أنها أم جميل؟ - وكان رأساهما من الجانب الآخر -.
فقال: انتظروا، فلما فرغا قامت المرأة، فقال أبو بكرة: هذه أم جميل. فعرفوها فيما يظنون.
فلما خرج المغيرة وقد اغتسل ليصلي بالناس منعه أبو بكرة أن يتقدم.
وكتبوا إلى عمر في ذلك، فولى أبا موسى الأشعري أميرا على البصرة.
وعزل المغيرة، فسار إلى البصرة فنزل البرد.
فقال المغيرة: والله ما جاء أبو موسى تاجرا ولا زائرا ولا جاء إلا أميرا.
ثم قدم أبو موسى على الناس وناول المغيرة كتابا من عمر، هو أوجز كتاب فيه:
أما بعد، فإنه بلغني نبأ عظيم، فبعثت أبا موسى أميرا، فسلم ما في يديك والعجل.
وكتب إلى أهل البصرة: إني قد وليت عليكم أبا موسى ليأخذ من قويكم لضعيفكم، وليقاتل بكم عدوكم، وليدفع عن دينكم، وليجبي لكم فيأكم، ثم ليقسمه بينكم.
وأهدى المغيرة لأبي موسى جارية من مولدات الطائف تسمى: عقيلة، وقال: إني رضيتها لك، وكانت فارهة.
وارتحل المغيرة والذين شهدوا عليه، وهم أبو بكرة، ونافع بن كلدة، وزياد بن أمية، وشبل بن معبد البجلي.
فلما قدموا على عمر جمع بينهم وبين المغيرة، فقال المغيرة: سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني؟ مستقبلهم أو مستدبرهم؟ وكيف رأوا المرأة وعرفوها، فإن كانوا مستقبلي فكيف لم يستتروا؟ أو مستدبري فكيف استحلوا النظر في منزلي على امرأتي؟ والله ما أتيت إلا امرأتي، وكانت تشبهها.
فبدأ عمر بأبي بكرة فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أم جميل وهو يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة.
قال: كيف رأيتهما؟
قال: مستدبرهما.
قال: فكيف استبنت رأسها؟
قال: تحاملت.
ثم دعا شبل بن معبد فشهد بمثل ذلك.
فقال: استقبلتهما أم استدبرتهما؟
قال: استقبلتهما.
وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة، ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم.
قال: رأيته جالسا بين رجلي امرأة، فرأيت قدمين مخضوبتين يخفقان، وأستين مكشوفتين، وسمعت حفزانا شديدا.
قال: هل رأيت كالميل في المكحلة؟
قال: لا.
قال: فهل تعرف المرأة؟
قال: لا، ولكن أشبهها.
قال: فتنح.
وروي: أن عمر رضي الله عنه كبر عند ذلك، ثم أمر بثلاث فجلدوا الحد، وهو يقرأ قوله تعالى: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [النور: 13] .
فقال المغيرة: إشفني من الأعبد.
قال: اسكت، اسكت الله فاك، والله لو تمت الشهادة لرجمناك بأحجارك.