البداية والنهاية/الجزء السابع/ذكر حصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان
لما وقع ما وقع يوم الجمعة، وشج أمير المؤمنين عثمان، وهو في رأس المنبر، وسقط مغشيا عليه واحتمل إلى داره وتفاقم الأمر، وطمع فيه أولئك الأجلاف الأخلاط من الناس، وألجاؤه إلى داره، وضيقوا عليه، وأحاطوا بها محاصرين له، ولزم كثير من الصحابة بيوتهم.
وسار إليه جماعة من أبناء الصحابة عن أمر آبائهم، منهم: الحسن والحسين، وعبد الله بن الزبير - وكان أمير الدار - وعبد الله بن عمرو، وصاروا يحاجون عنه، ويناضلون دونه أن يصل إليه أحد منهم، وأسلمه بعض الناس رجاء أن يجيب أولئك إلى واحدة مما سألوا، فإنهم كانوا قد طلبوا منه إما أن يعزل نفسه، أو يسلم إليهم مروان بن الحكم، ولم يقع في خلد أحد أن القتل كان في نفس الخارجين.
وانقطع عثمان عن المسجد فكان لا يخرج إلا قليلا في أوائل الأمر، ثم انقطع بالكلية في آخره، وكان يصلي بالناس في هذه الأيام الغافقي بن حرب.
وقد استمر الحصر أكثر من شهر، وقيل: أربعين يوما حتى كان آخر ذلك أن قتل شهيدا رضي الله عنه، على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.
والذي ذكره ابن جرير: أن الذي كان يصلي بالناس في هذه المدة وعثمان محصور، طلحة بن عبيد الله.
وفي صحيح البخاري عن، وروى الواقدي: أن عليا صلى أيضا، وصلى أبو أيوب، وصلى بهم سهل بن حنيف، وكان يجمع بهم علي، وهو الذي صلى بهم بعد، وقد خاطب الناس في غبوب ذلك بأشياء، وجرت أمور سنورد منها ما تيسر. وبالله المستعان.
قال الإمام أحمد: حدثنا بهز، ثنا أبو عوانة، ثنا حصين عن عمرو بن جاوان قال: قال الأحنف: انطلقنا حجاجا، فمررنا بالمدينة، فبينا نحن في منزلنا إذ جاءنا آت فقال: الناس في المسجد، فانطلقت أنا وصاحبي، فإذا الناس مجتمعون على نفر في المسجد، قال: فتخللتهم، حتى قمت عليهم، فإذا علي بن أبي طالب، والزبير، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، قال: فلم يكن ذلك بأسرع من أن جاء عثمان يمشي.
فقال: ههنا علي؟
قالوا: نعم!
قال: ههنا الزبير؟
قالوا: نعم!
قال: ههنا طلحة؟
قالوا: نعم!
قال: ههنا سعد بن أبي وقاص؟
قالوا: نعم!
فقال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، تعلمون أن رسول الله ﷺ قال: « من يبتاع مربد بني فلان غفر الله له » فابتعته، فأتيت رسول الله فقلت: إني قد ابتعته، فقال: « اجعله في مسجدنا وأجره لك ».
قالوا: نعم!
قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، تعلمون أن رسول الله ﷺ قال: « من يبتاع بئر رومة » فابتعتها بكذا وكذا.
فأتيت رسول الله ﷺ فقلت: إني قد ابتعتها - يعني: بئر رومة -.
قال: « اجعلها سقاية للمسلمين، ولك أجرها ».
قالوا: نعم!
قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، تعلمون أن رسول الله ﷺ نظر في وجوه القوم يوم جيش العسرة، فقال: « من يجهز هؤلاء غفر الله له » فجهزتهم حتى ما يفقدون خطاما ولا عقالا؟
قالوا: اللهم نعم!
فقال: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثم انصرف.
ورواه النسائي من حديث حصين وعنده جاء رجل وعليه ملاءة صفراء.
طريق أخرى
قال عبد الله بن أحمد: حدثني عبد الله بن عمر القواريري، حدثني القاسم بن الحكم بن أوس الأنصاري، حدثني أبو عبادة الدرقي الأنصاري، من أهل الحديبية، عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: شهدت عثمان يوم حصر في موضع الجنائز، ولو ألقى حجر لم يقع إلا على رأس رجل، فرأيت عثمان أشرف من الخوخة التي تلي مقام جبريل، فقال: أيها الناس! أفيكم طلحة؟ فسكتوا، ثم قال: أيها الناس، أفيكم طلحة؟ فسكتوا، ثم قال: أيها الناس، أفيكم طلحة؟
فقام طلحة بن عبيد الله، فقال له عثمان: ألا أراك ههنا، ما كنت أرى أنك تكون في جماعة قوم تسمع نداي إلى آخر ثلاث مرات، ثم لا تجيبني، أنشدك الله يا طلحة تذكر يوم كنت وأنا وأنت مع رسول الله ﷺ في موضع كذا وكذا، ليس معه أحد من أصحابه غيري وغيرك؟
فقال: نعم!
قال: فقال لك رسول الله ﷺ: « يا طلحة إنه ليس من نبي إلا ومعه من أصحابه رفيق من أمته معه في الجنة، وإن عثمان بن عفان هذا - يعني - رفيقي في الجنة ».
فقال طلحة: اللهم نعم! ثم انصرف. لم يخرجوه.
طريق أخرى
قال عبد الله بن أحمد: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدسي، ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا هلال بن إسحاق، عن الجريري، عن ثمامة بن جزء القشيري. قال: شهدت الدار يوم أصيب عثمان، فاطلع عليه اطلاعه فقال: ادعوا لي صاحبيكم اللذين ألباكم علي، فدعيا له، فقال: أنشدكما الله، تعلمان أن رسول الله ﷺ لما قدم المدينة ضاق المسجد بأهله، فقال: « من يشتري هذه البقعة من خالص ماله فيكون فيها كالمسلمين، وله خير منها في الجنة »؟ فاشتريتها من خالص مالي فجعلتها بين المسلمين، وأنتم تمنعوني أن أصلي فيه ركعتين.
ثم قال: أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله ﷺ لما قدم المدينة لم يكن فيها بئر يستعذب منه إلا بئر رومة.
فقال رسول الله ﷺ: « من يشتريها من خالص ماله، فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين وله خير منها في الجنة »؟
فاشتريتها من خالص مالي، وأنتم تمنعوني أن أشرب منها.
ثم قال: هل تعلمون أني صاحب جيش العسرة؟
قالوا: اللهم نعم!
وقد رواه الترمذي: عن عبد الله بن عبد الرحمن الدرامي، وعباس الدوري وغير واحد.
أخرجه النسائي، عن زياد بن أيوب كلهم، عن سعيد بن عامر، عن يحيى بن أبي الحجاج المنقري، عن أبي مسعود الجريري به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
طريق أخرى
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، ثنا القاسم - يعني: ابن المفضل - ثنا عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد قال: دعا عثمان رجالا من أصحاب رسول الله ﷺ، فيهم عمار بن ياسر، فقال: إني سائلكم وإني أحب أن تصدقوني، نشدتكم الله أتعلمون أن رسول الله ﷺ كان يؤثر قريش على الناس، ويؤثر بني هاشم على سائر قريش؟ فسكت القوم.
فقال: لو أن بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوا من عند آخرهم.
فبعث إلى طلحة والزبير فقال عثمان: ألا أحدثكما عنه - يعني: عمارا - أقبلت مع رسول الله ﷺ.
أخذ بيدي يمشي في البطحاء، حتى أتى على أبيه وأمه وهم يعذبون، فقال أبو عمار: يا رسول الله الدهر هكذا.
فقال له النبي ﷺ: « اصبر » ثم قال: « اللهم اغفر لآل ياسر » وقد فعلت، تفرد به أحمد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب.
طريق أخرى
قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن سليمان، سمعت معاوية بن سلم أن سلمة يذكر عن مطرف، عن نافع، عن ابن عمر: أن عثمان أشرف على أصحابه، وهو محصور، فقال: على مَ تقتلونني؟ فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « لا يحل دم امرئ إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم، أو قتل عمدا فعليه القتل، أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل »، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا قتلت أحدا فأقيد نفسي منه، ولا ارتددت منذ أسلمت، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده رسوله. ورواه النسائي عن أحمد بن الأزهر عن إسحاق بن سليمان به.
طريق أخرى
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد بن زيد، ثنا يحيى بن سعيد، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: كنت مع عثمان في الدار وهو محصور، قال: وكنا ندخل مدخلا إذا دخلناه سمعنا كلام من على البلاط.
قال: فدخل عثمان يوما لحاجته فخرج إلينا منتقعا لونه، فقال: إنهم ليتواعدوني بالقتل آنفا.
قال: قلنا يكفيكهم الله يا أمير المؤمنين.
قال: ولم يقتلونني؟ فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس »، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام قط، ولا تمنيت بدلا بديني منذ هداني الله له، ولا قتلت نفسا، فبم يقتلونني؟.
وقد رواه أهل السنن الأربعة من حديث حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، حدثني أبو أسامة.
زاد النسائي وعبد الله بن عامر بن ربيعة قالا: كنا مع عثمان فذكره. وقال الترمذي: حسن.
وقد رواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد فرفعه.
طريق أخرى
قال الإمام أحمد: حدثنا قطن، ثنا يونس - يعني: ابن أبي إسحاق - عن أبيه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن. قال: أشرف عثمان من القصر وهو محصور، فقال: أنشد بالله من شهد رسول الله ﷺ يوم حراء إذا اهتز الجبل فركله بقدمه ثم قال: « اسكن حراء ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد » وأنا معه فانتشد له الرجال، ثم قال: أنشد بالله من شهد رسول الله يوم بيعة الرضوان إذ بعثني إلى المشركين إلى أهل مكة، فقال: « هذه يدي، وهذه يد عثمان ». ووضع يديه إحداهما على الأخرى فبايع لي فانتشد له رجال.
ثم قال: أنشد بالله من شهد رسول الله قال: « من يوسع لنا بهذا البيت في المسجد بنيت له بيتا في الجنة » فابتعته من مالي فوسعت به المسجد، فانتشد له رجال.
ثم قال: أنشد بالله من شهد رسول الله يوم جيش العسرة قال: « من ينفق اليوم نفقة متقبلة » فجهزت نصف الجيش من مالي، فانتشد له رجال.
ثم قال: أنشد بالله من شهد رومة يباع ماؤها ابن السبيل فابتعتها من مالي، فأبحتها ابن السبيل، قال فانتشد له رجال.
ورواه النسائي، عن عمران بن بكار، عن حطاب بن عثمان، عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن جده أبي إسحاق السبيعي به.
وقد ذكر ابن جرير: أن عثمان رضي الله عنه لما رأى ما فعل هؤلاء الخوارج من أهل الأمصار، من محاصرته في داره، ومنعه الخروج إلى المسجد، كتب إلى معاوية بالشام، وإلى ابن عامر بالبصرة، وإلى أهل الكوفة يستنجدهم في بعث جيش يطردون هؤلاء من المدينة، فبعث معاوية مسلمة بن حبيب، وانتدب يزيد بن أسد القشيري في جيش، وبعث أهل الكوفة جيشا، وأهل البصرة جيشا.
فلما سمع أولئك بخروج الجيوش إليهم صمموا في الحصار، فما اقترب الجيوش إلى المدينة حتى جاءهم قتل عثمان رضي الله عنه كما سنذكره.
وذكر ابن جرير: أن عثمان استدعى الأشتر النخعي ووضعت لعثمان وسادة في كوة من داره، فأشرف على الناس، فقال له عثمان: يا أشتر ماذا يريدون؟
فقال: إنهم يريدون منك، إما أن تعزل نفسك عن الإمرة، وإما أن تفتدي من نفسك من قد ضربته، أو جلدته، أو حبسته، وإما أن يقتلوك.
وفي رواية: أنهم طلبوا منه أن يعزل نوابه عن الأمصار ويولي عليها من يريدون هم، وإن لم يعزل نفسه أن يسلم لهم مروان بن الحكم فيعاقبوه كما زور على عثمان كتابه إلى مصر، فخشي عثمان إن سلمه إليهم أن يقتلوه، فيكون سببا في قتل امرئ مسلم، وما فعل من الأمر ما يستحق بسببه القتل، واعتذر عن الاقتصاص مما قالوا بأنه رجل ضعيف البدن كبير السن.
وأما ما سألوه من خلعه نفسه فإنه لا يفعل ولا ينزع قميصا قمصه الله إياه: يترك أمة محمد يعدو بعضها على بعض، ويولي السفهاء من الناس من يختاروه هم فيقع الهرج ويفسد الأمر بسبب ذلك.
ووقع الأمر كما ظنه فسدت الأمة ووقع الهرج، وقال لهم فيما قال: وأي شيء إلى من الأمر إن كنت كلما كرهتم أميرا عزلته، وكلما رضيتم عنه وليته؟
وقال لهم فيما قال: والله لئن قتلتموني لا تتحابوا بعدي، ولا تصلوا جميعا أبدا، ولا تقاتلوا بعدي عدوا جميعا أبدا، وقد صدق رضي الله عنه فيما قال.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن أبي قيس، حدثني النعمان بن بشير قال: كتب معي عثمان إلى عائشة كتابا فدفعت إليها كتابه، فحدثتني أنها سمعت رسول الله ﷺ يقول لعثمان: « إن الله لعله يقمصك قميصا فإن أرادك أحد على خلعه فلا تخلعه، ثلاث مرات ».
قال النعمان: فقلت يا أم المؤمنين! فأين كنت عن هذا الحديث؟
فقالت: يا بني والله أنسيته.
وقد رواه الترمذي من حديث الليث، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن عامر، عن النعمان، عن عائشة به.
ثم قال: هذا حديث حسن غريب.
ورواه ابن ماجه، من حديث الفرج بن فضالة، عن ربيعة بن يزيد، عن النعمان فأسقط عبد الله بن عامر.
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسماعيل، ثنا قيس، عن أبي سهلة، عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: « ادع لي بعض أصحابي ».
قلت: أبو بكر؟
قال: « لا ».
قلت: عمر؟
قال: « لا ».
قلت: ابن عمك علي؟
قال: « لا »!
قالت قلت: عثمان؟
قال: « نعم! ».
فلما جاء قال: « تنحى »، فجعل يساره ولون عثمان يتغير.
فلما كان يوم الدار وحصر فيها، قلنا: يا أمير المؤمنين ألا تقاتل؟
قال: لا! إن رسول الله ﷺ عهد إلي عهدا، وإني صابر نفسي عليه ». تفرد به أحمد.
وقال محمد بن عائد الدمشقي: حدثنا الوليد بن مسلم، ثنا عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن عمرو أنه سمع أبا ثور الفقيمي يقول: قدمت على عثمان فبينا أنا عنده فخرجت فإذا بوفد أهل مصر قد رجعوا، فدخلت على عثمان فأعلمته، قال: فكيف رأيتهم؟
فقلت: رأيت في وجوههم الشر، وعليهم ابن عديس البلوي، فصعد ابن عديس منبر رسول الله ﷺ فصلى بهم الجمعة، وتنقص عثمان في خطبته، فدخلت على عثمان فأخبرته بما قال فيهم، فقال: كذب والله ابن عديس، ولولا ما ذكر ما ذكرت، إني رابع أربعة في الإسلام، ولقد أنكحني رسول الله ﷺ ابنته ثم توفيت، فأنكحني ابنته الأخرى، ولا زنيت، ولا سرقت في جاهلية ولا إسلام، ولا تعنيت ولا تمنيت منذ أسلمت، ولا مسست فرجي بيميني منذ بايعت بها رسول الله ﷺ، ولقد جمعت القرآن على عهد رسول الله ﷺ، ولا أتت علي جمعة إلا وأنا أعتق فيها رقبة منذ أسلمت، إلا أن لا أجدها في تلك الجمعة فأجمعها في الجمعة الثانية.
ورواه يعقوب بن سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، عن ابن لهيعة قال: لقد اختبأت عند ربي عشرا، فذكرهن.