البداية والنهاية/الجزء السابع/ثم دخلت سنة سبع وثلاثين
استهلت هذه السنة وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه متواقف هو ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، كل منهما في جنوده بمكان يقال له: صفين بالقرب من الفرات شرقي بلاد الشام، وقد اقتتلوا في مدة شهر ذي الحجة كل يوم، وفي بعض الأيام ربما اقتتلوا مرتين، وجرت بينهم حروب يطول ذكرها.
والمقصود: أنه لما دخل شهر المحرم تحاجز القوم رجاء أن يقع بينهم مهادنة وموادعة يؤول أمرها إلى الصلح بين الناس، وحقن دمائهم.
فذكر ابن جرير: من طريق هشام، عن أبي مخنف مالك، حدثني سعيد بن المجاهد الطائي، عن محل بن خليفة أن عليا بعث عدي بن حاتم، ويزيد بن قيس الأرحبي، وشبيث بن ربعي، وزياد بن حفصة إلى معاوية، فلما دخلوا عليه - وعمرو بن العاص إلى جانبه - قال عدي بعد حمد الله والثناء عليه:
أما بعد يا معاوية فإنا جئناك ندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وأمرنا، وتحقن به الدماء، ويأمن به السبل، ويصلح ذات البين، إن ابن عمك سيد المسلمين أفضلها سابقة، وأحسنها في الإسلام أثرا وقد استجمع له الناس وقد أرشدهم الله بالذي رأوا فلم يبق أحد غيرك وغير من معك من شيعتك، فأنت يا معاوية لا يصبك الله وأصحابك مثل يوم الجمل.
فقال له معاوية: كأنك إنما جئت مهددا ولم تأت مصلحا، هيهات والله يا عدي، كلا والله إني لابن حرب، لا يقعقع لي بالشنان، أما والله إنك لمن المجلبين على ابن عفان، وإنك لمن قتلته، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتله الله به.
وتكلم شبيث بن ربعي وزياد بن حفصة فذكرا من فضل علي وقالا: اتق الله يا معاوية ولا تخالفه، فإنا والله ما رأينا رجلا قط أعمل بالتقوى، ولا أزهد في الدنيا، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه.
فتكلم معاوية: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنكم دعوتموني إلى الجماعة والطاعة، فأما الجماعة فمعنا هي، وأما الطاعة فكيف أطيع رجلا أعان على قتل عثمان وهو يزعم أنه لم يقتله؟ ونحن لا نرد ذلك عليه ولا نتهمه به، ولكنه آوى قتلته، فيدفعهم إلينا حتى نقتلهم ثم نحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة.
فقال له شبيث بن ربعي: أنشدك الله يا معاوية، لو تمكنت من عمار أكنت قاتله بعثمان؟
قال معاوية: لو تمكنت من ابن سمية ما قتلته بعثمان، ولكني كنت قتلته بغلام عثمان.
فقال له شبيث بن ربعي: وإله الأرض والسماء لا تصل إلى قتل عمار حتى تندر الرؤوس عن كواهلها، ويضيق فضاء الأرض ورحبها عليك.
فقال معاوية: ولو قد كان ذلك كانت عليك أضيق.
وخرج القوم من بين يديه فذهبوا إلى علي فأخبروه بما قال.
وبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري، وشرحبيل بن السمط، ومعن بن يزيد بن الأخنس إلى علي، فدخلوا عليه فبدأ حبيب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن عثمان بن عفان كان خليفة مهديا عمل بكتاب الله وثبت لأمر الله، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته، فعدوتم عليه فقتلتموه فادفع إلينا قتلته إن زعمت أنك لم تقتله، ثم اعتزل أمر الناس فيكون أمرهم شورى بينهم، فيولي الناس أمرهم من جمع عليه رأيهم.
فقال له علي: وما أنت لا أم لك وهذا الأمر وهذا العزل، فاسكت فإنك لست هناك ولا بأهل لذاك.
فقال له حبيب: أما والله لتريني حيث تكره.
فقال له علي: وما أنت؟ ولو أجلبت بخيلك ورجلك لا أبقى الله عليك إن أبقيت، اذهب فصعد وصوّب ما بدا لك.
ثم ذكر أهل السير كلاما طويلا جرى بينهم وبين علي، وفي صحة ذلك عنهم وعنه نظر فإن في مطاوي ذلك الكلام من علي ما ينتقض فيه معاوية وأباه، وإنهم إنما دخلوا في الإسلام ولم يزالا في تردد فيه، وغير ذلك وإنه قال في غبون ذلك: لا أقول إن عثمان قتل مظلوما ولا ظالما.
فقالوا: نحن نبرأ ممن لم يقل إن عثمان قتل مظلوما، وخرجوا من عنده، فقال علي: { إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ } [النمل: 80] .
ثم قال لأصحابه: لا يكن هؤلاء أولى بالجد في ضلالتهم منكم بالجد في حقكم وطاعة نبيكم، وهذا عندي لا يصح عن علي رضي الله عنه.
وروى ابن ديزيل، من طريق عمرو بن سعد بإسناده: أن قراء أهل العراق وقراء أهل الشام عسكروا ناحية وكانوا قريبا من ثلاثين ألفا، وأن جماعة من قراء العراق منهم عبيدة السلماني، وعلقمة بن قيس، وعامر بن عبد قيس، وعبد الله بن عتبة بن مسعود، وغيرهم جاؤوا معاوية فقالوا له: ما تطلب؟
قال: أطلب بدم عثمان.
قالوا: فمن تطلب به؟
قال: عليا.
قالوا: أهو قتله؟
قال: نعم! وآوى قتلته.
فانصرفوا إلى علي فذكروا له ما قال فقال: كذب!لم أقتله وأنتم تعلمون أني لم أقتله.
فرجعوا إلى معاوية فقال: إن لم يكن قتله بيده فقد أمر رجالا.
فرجعوا إلى علي فقال: والله لا قتلت ولا أمرت ولا ماليت.
فرجعوا فقال معاوية: فإن كان صادقا فليقدنا من قتلة عثمان، فإنهم في عسكره وجنده.
فرجعوا فقال علي: تأول القوم عليه القرآن في فتنة ووقعت الفرقة لأجلها وقتلوه في سلطانه، وليس لي عليهم سبيل.
فرجعوا إلى معاوية فأخبروه فقال: إن كان الأمر على ما يقول، فماله أنفذ الأمر دوننا من غير مشورة منا ولا ممن هاهنا؟
فرجعوا إلى علي فقال علي: إنما الناس مع المهاجرين والأنصار، فهم شهود الناس على ولايتهم وأمر دينهم، ورضوا وبايعوني، ولست أستحل أن أدع مثل معاوية يحكم على الأمة، ويشق عصاها.
فرجعوا إلى معاوية فقال: ما بال من هاهنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر؟
فرجعوا فقال علي: إنما هذا للبدريين دون غيرهم، وليس على وجه الأرض بدري إلا وهو معي، وقد بايعني وقد رضي، فلا يغرنكم من دينكم وأنفسكم.
قال: فأقاموا يتراسلون في ذلك شهر ربيع الآخر وجماديين ويقرعون في غبون ذلك القرعة بعد القرعة ويزحف بعضهم على بعض، ويحجز بينهم القراء، فلا يكون قتال.
قال: فقرعوا في ثلاثة أشهر خمسة وثمانين قرعة.
قال: وخرج أبو الدرداء، وأبو أمامة فدخلا على معاوية فقالا له: يا معاوية على مَ تقاتل هذا الرجل؟ فوالله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلاما، وأقرب منك إلى رسول الله ﷺ، وأحق بهذا الأمر منك.
فقال: أقاتله على دم عثمان، وإنه آوى قتلته، فاذهبا إليه فقولا له فليقدنا من قتلة عثمان، ثم أنا أول من بايعه من أهل الشام.
فذهبا إلى علي فقالا له ذلك فقال: هؤلاء الذين تريان، فخرج خلق كثير فقالوا: كلنا قتلة عثمان، فمن شاء فليرمنا.
قال: فرجع أبو الدرداء وأبو أمامة فلم يشهدا لهم حربا.
وقال عمرو بن سعد بإسناده: حتى إذا كان رجب، وخشي معاوية أن تبايع القراء كلهم عليا كتب في سهم من عبد الله الناصح: يا معشر أهل العراق! إن معاوية يريد أن يفجر عليكم الفرات ليغرقكم فخذوا حذركم، ورمى به في جيش أهل العراق.
فأخذه الناس فقرؤه وتحدثوا به، وذكروه لعلي فقال: إن هذا ما لا يكون ولا يقع.
وشاع ذلك، وبعث معاوية مائتي فاعل يحفرون في جنب الفرات وبلغ الناس ذلك فتشوش أهل العراق من ذلك وفزعوا إلى علي فقال: ويحكم! إنه يريد خديعتكم ليزيلكم عن مكانكم هذا وينزل فيه لأنه خير من مكانه.
فقالوا: لا بد من أن نخلي عن هذا الموضع فارتحلوا منه، وجاء معاوية فنزل بجيشه - وكان علي آخر من ارتحل - فنزل بهم، وهو يقول:
فلو أني أطعت عصمت قومي * إلى ركن اليمامة أوشآم
ولكني إذا أبرمت أمرا * يخالفه الطغام بنو الطغام
قال: فأقاموا إلى شهر ذي الحجة ثم شرعوا في المقاتلة فجعل علي يؤمر على الحرب كل يوم رجلا، وأكثر من كان يؤمر الأشتر.
وكذلك معاوية يؤمر كل يوم أميرا فاقتتلوا شهر ذي الحجة بكماله، وربما اقتتلوا في بعض الأيام مرتين.
قال ابن جرير رحمه الله: ثم لم تزل الرسل تتردد بين علي ومعاوية والناس كافّون عن القتال حتى انسلخ المحرم من هذه السنة ولم يقع بينه صلح، فأمر علي بن أبي طالب يزيد بن الحارث الجشمي فنادى أهل الشام عند غروب الشمس: ألا إن أمير المؤمنين يقول لكم: إني قد أستأنيتكم لتراجعوا الحق، وأقمت عليكم الحجة فلم تجيبوا، وإني قد نبذت إليك على سواء إن الله لا يحب الخائنين.
ففزع أهل الشام إلى أمرائهم فأعلموهم بما سمعوا المنادي ينادي، فنهض عند ذلك معاوية وعمرو فعبيا الجيش ميمنة وميسرة، وبات علي يعبي جيشه من ليلته، فجعل على خيل أهل الكوفة الأشتر النخعي، وعلى رجالتهم عمار بن ياسر، وعلى خيل أهل البصرة سهل بن حنيف، وعلى رجالتهم قيس بن سعد وهاشم بن عتبة، وعلى قرائهم سعد بن فدكي التميمي.
وتقدم علي إلى الناس أن لا يبدأوا واحدا بالقتال حتى يبدأ أهل الشام، وأنه لا يذفف على جريح ولا يتبع مدبر ولا يكشف ستر امرأة ولا تهان، وإن شتمت أمراء الناس وصلحائهم.
وبرز معاوية صبح تلك الليلة وقد جعل على الميمنة ابن ذي الكلاع الحميري، وعلى الميسرة حبيب بن مسلم الفهري، وعلى المقدمة أبا الأعور السلمي، وعلى خيل دمشق عمرو بن العاص، وعلى رجالتهم الضحاك بن قيس. ذكره ابن جرير.
وروى ابن ديزيل، من طريق جابر الجعفي عن أبي جعفر الباقر، ويزيد بن الحسن بن علي، وغيرهما، قالوا: لما بلغ معاوية سير علي سار معاوية نحو علي واستعمل على مقدمته سفيان بن عمرو أبا الأعور السلمي، وعلى الساقة بسر بن أبي أرطأة حتى توافوا جميعا سائرين إلى جانب صفين.
وزاد ابن الكلبي فقال: جعل على المقدمة أبا الأعور السلمي، وعلى الساقة بسرا، وعلى الخيل عبيد الله بن عمر، ودفع اللواء إلى عبد الرحمن بن الوليد، وجعل على الميمنة حبيب بن مسلمة، وعلى رجالتها يزيد بن زحر العنسي، وعلى الميسرة عبد الله بن عمرو بن العاص، وعلى رجالتها حابس بن سعد الطائي، وعلى خيل دمشق الضحاك بن قيس وعلى رجالتهم يزيد بن لبيد بن كرز البجلي، وجعل على أهل حمص ذا الكلاع، وعلى أهل فلسطين مسلمة بن مخلد.
وقام معاوية في الناس خطيبا: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس! والله ما أصبت الشام إلا بالطاعة، ولا أضبط حرب أهل العراق إلا بالصبر ولا أكابد أهل الحجاز إلا باللطف، وقد تهيأتم وسرتم لتمنعوا الشام، وتأخذوا العراق.
وسار القوم ليمنعوا العراق ويأخذوا الشام، ولعمري ما للشام رجال العراق ولا أموالها، ولا للعراق خبرة أهل الشام ولا بصائرها، مع أن القوم وبعدهم أعدادهم، وليس بعدكم غيركم فإن غلبتموهم لم تغلبوا إلا من أناتكم، وإن غلبوكم غلبوا من بعدكم والقوم لاقوكم بكيد أهل العراق، ورقة أهل اليمن وبصائر أهل الحجاز، وقسوة أهل مصر، وإنما ينصر غدا من ينصر اليوم { اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا } [الأعراف: 128] ، { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }. [البقرة: 153]
وقد بلغ عليا خطبة معاوية فقام في أصحابه فحرضهم على الجهاد، ومدحهم بالصبر، وشجعهم بكثرتهم بالنسبة إلى أهل الشام.
قال جابر الجعفي، عن أبي جعفر الباقر وزيد بن أنس وغيرهما قالوا: سار علي في مائة وخمسين ألفا من أهل العراق وأقبل معاوية في نحو منهم من أهل الشام.
وقال غيرهم: أقبل علي في مائة ألف أو يزيدون، وأقبل معاوية في مائة ألف وثلاثين ألفا - رواها ابن ديزيل في كتابه - وقد تعاقد جماعة من أهل الشام على أن لا يفروا فعقلوا أنفسهم بالعمائم.
وكان هؤلاء خمسة صفوف ومعهم ستة صفوف آخرين، وكذلك أهل العراق كانوا أحد عشر صفا أيضا فتواقفوا على هذه الصفة أول يوم من صفر وكان ذلك يوم الأربعاء، وكان أمير الحرب يومئذٍ للعراقيين الأشتر النخعي، وأمير الحرب يومئذ للشاميين حبيب بن مسلمة، فاقتتلوا ذلك اليوم قتالا شديدا ثم تراجعوا من آخر يومهم وقد انتصف بعضهم من بعض، وتكافؤا في القتال.
ثم أصبحوا من الغد يوم الخميس وأمير حرب أهل العراق هاشم بن عتبة، وأمير الشاميين يومئذٍ أبا الأعور السلمي فاقتتلوا قتالا شديدا تحمل الخيل على الخيل والرجال على الرجال، ثم تراجعوا من آخر يومهم وقد صبر كل من الفريقين للآخر وتكافؤا.
ثم خرج في اليوم الثالث - وهو يوم الجمعة - عمار بن ياسر من ناحية أهل العراق وخرج إليه عمرو بن العاص في الشاميين، فاقتتل الناس قتالا شديدا، وحمل على عمار عمرو بن العاص فأزاله عن موقفه وبارز زياد بن النضر الحارثي وكان على الخيالة رجلا فلما توقفا تعارفا فإذا هما أخوان من أم، فانصرف كل واحد منهما إلى قومه وترك صاحبه.
وتراجع الناس من العشي وقد صبر كل فريق لصاحبه، وخرج في اليوم الرابع - وهو يوم السبت -محمد بن علي - وهو ابن الحنفية - ومعه جمع عظيم فخرج إليه في كثير من جهة الشاميين عبيد الله بن عمر، فاقتتل الناس قتالا شديدا.
وبرز عبيد الله بن عمر فطلب من ابن الحنفية أن يبرز إليه فبرز إليه.
فلما كادا أن يقتربا قال علي: من المبارز؟
قالوا: محمد ابنك وعبيد الله.
فيقال: إن عليا حرك دابته وأمر ابنه أن يتوقف وتقدم إلى عبيد الله فقال له: تقدم إلي.
قال له: لا حاجة لي في مبارزتك.
فقال: بلى.
فقال: لا.
فرجع عنه علي، وتحاجز الناس يومهم ذلك.
ثم خرج في اليوم الخامس - وهو يوم الأحد - في العراقيين عبد الله بن عباس، وفي الشاميين الوليد بن عقبة، واقتتل الناس قتالا شديدا، وجعل الوليد ينال من ابن عباس فيما ذكره أبو مخنف ويقول: قتلتم خليفتكم ولم تنالوا ما طلبتم، ووالله إن الله ناصرنا عليكم.
فقال له ابن عباس: فابرز إلي، فأبى عليه.
ويقال: إن ابن عباس قاتل يومئذ قتالا شديدا بنفسه رضي الله عنه.
ثم خرج في اليوم السادس - وهو يوم الاثنين - وعلى الناس من جهة العراقيين قيس بن سعد، ومن جهة أهل الشام ابن ذي الكلاع فاقتتلوا قتالا شديدا أيضا، وتصابروا ثم تراجعوا.
ثم خرج الأشتر النخعي في اليوم السابع - وهو يوم الثلاثاء - وخرج إليه قرنه حبيب بن مسلمة فاقتتلوا قتالا شديدا أيضا، ولم يغلب أحد أحدا في هذه الأيام كلها.
قال أبو مخنف: حدثني مالك بن أعين الجهني، عن زيد بن وهب أن عليا قال: حتى متى لا نناهض هؤلاء القوم بأجمعنا؟
ثم قام في الناس عشية الأربعاء بعد العصر فقال: الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض وما أبرم لم ينقضه الناقضون، لو شاء ما اختلف اثنان من خلقه، ولا تنازعت الأمة في شيء من أمره، ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله، وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار، وألقت بيننا في هذا المكان، فنحن من ربنا بمرأى ومسمع، فلو شاء لعجل النقمة وكان منه التعسير حتى يكذب الله الظالم، ويعلم الحق أين مصيره، ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال، وجعل الآخرة عنده هي دار القرار { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [النجم: 31] .
ألا وأنكم لاقوا القوم غدا فأطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرآن، وأسالوا الله النصر والصبر والقوة بالجد والحزم وكونوا صادقين.
قال: فوثب الناس إلى سيوفهم ورماحهم ونبالهم يصلحونها قال: ومر بالناس وهم كذلك كعب بن جعيل التغلبي، فرأى ما يصفون فجعل يقول:
أصبحت الأمة في أمر عجب * والملك مجموع غدا لمن غلب
فقلت قولا غير كذب * إن غدا تهلك أعلام العرب
قال: ثم أصبح علي في جنوده قد عبأهم كما أراد، وركب معاوية في جيشه قد عبأهم كما أراد، وقد أمر علي كل قبيلة من أهل العراق أن تكفيه أختها من أهل الشام، فتقاتل الناس قتالا عظيما لا يفر أحد من أحد ولا يغلب أحد أحدا، ثم تحاجزوا عند العشي، وأصبح علي فصل الفجر بغلس وباكر القتال.
ثم استقبل أهل الشام فاستقبلوه بوجوههم فقال علي فيما رواه ابن مخنف عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب: اللهم رب السقف المحفوظ المكفوف الذي جعلته سقفا لليل والنهار، وجعلت فيه مجرى الشمس والقمر ومنازل النجوم، وجعلت فيه سبطا من الملائكة لا يسأمون العبادة.
ورب الأرض التي جعلتها قرارا للأنام والهوام والأنعام، وما لا يحصى مما نرى وما لا نرى من خلقك العظيم، ورب الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، ورب السحاب المسخر بين السماء والأرض، ورب البحر المسجور المحبط بالعالم، ورب الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتادا وللخلق متاعا إن أظهرتنا على عدونا فجنبنا البغي والفساد وسددنا للحق، وإن أظهرتهم علينا فارزقني الشهادة وجنب بقية أصحابي من الفتنة.
ثم تقدم علي وهو في القلب في أهل المدينة وعلى ميمنته يومئذ عبد الله بن بديل، وعلى الميسرة عبد الله بن عباس، وعلى القراء عمار بن ياسر وقيس بن سعد، والناس على راياتهم فزحف بهم إلى القوم.
وأقبل معاوية - وقد بايعه أهل الشام على الموت - فتواقف الناس في موطن مهول وأمر عظيم وحمل عبد الله بن بديل أمير ميمنة على علي ميسرة أهل الشام وعليها حبيب بن مسلمة فاضطره حتى ألجأه إلى القلب، وفيه معاوية.
وقام عبد الله بن بديل خطيبا في الناس يحرضهم على القتال، ويحثهم على الصبر والجهاد.
وحرض أمير المؤمنين علي الناس على الصبر والثبات والجهاد، وحثهم على قتال أهل الشام، وقام كل أمير في أصحابه يحرضهم وتلا عليهم آيات القتال من أماكن متفرقة من القرآن، فمن ذلك قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } [الصف: 4] .
ثم قال: قدموا المدارع وأخروا الحاسر وعضوا على الأضراس، فإنه أنكى للسيوف عن الهام وألبوا إلى أطراف الرماح فإنه أفوق للأسنة وغضوا الأبصار فإنه أربط للجاش وأسكن للقلب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار، راياتكم لا تميلوها ولا نزيلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم.
وقد ذكر علماء التاريخ وغيرهم: أن عليا رضي الله عنه بارز في أيام صفين وقاتل وقتل خلقا حتى ذكر بعضهم: أنه قتل خمسمائة فمن ذلك أن كريب بن الصباح قتل أربعة من أهل العراق ثم وضعهم تحت قدميه ثم نادى: هل من مبارز؟
فبرز إليه علي فتجاولا ساعة ثم ضربه علي فقتله ثم قال علي: هل من مبارز؟
فبرز إليه الحارث بن وداعة الحميري فقتله ثم برز إليه راود بن الحارث الكلاعي فقتله، ثم برز إليه المطاع بن المطلب القيسي فقتله. فتلا علي قوله تعالى: { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } [البقرة: 194] .
ثم نادى: ويحك يا معاوية ابرز إلي ولا تفتن العرب بيني وبينك.
فقال له عمرو بن العاص: اغتنمه فإنه قد أثخن بقتل هؤلاء الأربعة.
فقال له معاوية: والله لقد علمت أن عليا لم يقهر قط، وإنما أردت قتلي لتصيب الخلافة من بعدي، اذهب إليك فليس مثلي يخدع.
وذكروا أن عليا حمل على عمرو بن العاص يوما فضربه بالريح فألقاه إلى الأرض فبدت سوءته فرجع عنه.
فقال له أصحابه: مالك يا أمير المؤمنين رجعت عنه؟ فقال: أتدرون ما هو؟
قالوا: لا.
قال: هذا عمرو بن العاص تلقاني بسوءته فذكرني بالرحم، فرجعت عنه.
فلما رجع عمرو إلى معاوية قال له: أحمد الله، وأحمد إستك.
وقال إبراهيم بن الحسين بن ديزيل، ثنا يحيى، ثنا نصر، ثنا عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن نمير الأنصاري قال: والله لكأني أسمع عليا وهو يقول لأصحابه يوم صفين:
أما تخافون مقت الله حتى متى، ثم انفتل إلى القبلة يدعو ثم قال: والله ما سمعنا برئيس أصاب بيده ما أصاب علي يومئذ إنه قتل فيما ذكر العادون زيادة على خمسمائة رجل، يخرج فيضرب بالسيف حتى ينحني ثم يجيء فيقول: معذرة إلى الله وإليكم والله لقد هممت أن أقلعه، ولكن يحجزني عنه، إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي ».
قال: فيأخذه فيصلحه ثم يرجع به، وهذا إسناد ضعيف وحديث منكر.
وحدثنا يحيى ثنا ابن وهب، أخبرني الليث، عن يزيد بن حبيب: أنه أخبره من حضر صفين مع علي ومعاوية قال ابن وهب: وأخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ربيعة بن لقيط قال: شهدنا صفين مع علي ومعاوية قال: فمطرت السماء علينا دما عبيطا.
قال الليث في حديثه: حتى أن كانوا ليأخذونه بالصحاف والآنية.
قال ابن لهيعة: فتمتلئ ونهريقها.
وقد ذكرنا: أن عبد الله بن بديل كسر الميسرة التي فيها حبيب بن مسلمة حتى أضافها إلى القلب فأمر معاوية الشجعان أن يعاونوا حبيبا على الكرة وبعث إليه معاوية يأمره بالحملة والكرة على ابن بديل، فحمل حبيب بمن معه من الشجعان على ميمنة أهل العراق فأزالوهم عن أماكنهم وانكشفوا عن أميرهم حتى لم يبق معه إلا زهاء ثلاثمائة.
وانجفل بقية أهل العراق ولم يبق مع علي من تلك القبائل إلا أهل مكة وعليهم سهل بن حنيف، وثبت ربيعة مع علي رضي الله عنه واقترب أهل الشام منه حتى جعلت نبالهم تصل إليه.
وتقدم إليه مولى لبني أمية فاعترضه مولى لعلي فقتله الأموي وأقبل يريد عليا وحوله بنوه الحسن، والحسين، ومحمد بن حنفية، فلما وصل إلى علي أخذه علي بيده فرفعه ثم ألقاه على الأرض فكسر عضده ومنكبه وابتدره الحسين ومحمد بأسيافهما فقتلاه.
فقال علي للحسن ابنه وهو واقف معه: ما منعك أن تصنع كما صنعا؟
فقال: كفيان أمره يا أمير المؤمنين.
وأسرع إلى علي أهل الشام فجعل علي لا يزيده قربهم منه سرعة في مشيته بل هو سائر على هينته فقال له ابنه الحسن: يا أبة لو سعيت أكثر من مشيتك هذه؟
فقال: يا بني إن لأبيك يوما لن يعدوه ولا يبطىء به عنه السعي ولا يعجل به إليه المشي إن أباك والله ما يبالي وقع على الموت أو وقع عليه.
ثم إن عليا أمر الأشتر النخعي: أن يلحق المنهزمين فيردهم فسار فأسرع حتى استقبل المنهزمين من العراق فجعل يؤنبهم ويوبخهم ويحرض القبائل والشجعان منهم على الكرة فجعل طائفة تتابعه وآخرون يستمرون في هزيمتهم، فلم يزل ذلك دأبه حتى اجتمع عليه خلق عظيم من الناس، فجعل لا يلقى قبيلة إلا كشفها، ولا طائفة إلا ردها، حتى انتهى إلى أمير الميمنة وهو عبد الله بن بديل ومعه نحو في ثلاثمائة قد ثبتوا في مكانهم، فسألوا عن أمير المؤمنين فقالوا: حي صالح، فالتفوا إليه، فتقدم بهم حتى تراجع كثير من الناس وذلك ما بين صلاة العصر إلى الغروب.
وأراد ابن بديل: أن يتقدم إلى أهل الشام، فأمره الأشتر أن يثبت مكانه فإنه خير له، فأبى عليه ابن بديل.
وحمل نحو معاوية، فلما انتهى إليه وجده واقفا أمام أصحابه، وفي يده سيفان، وحوله كتائب أمثال الجبال، فلما اقترب ابن بديل تقدم إليه جماعة منهم فقتلوه وألقوه إلى الأرض قتيلا، وفر أصحابه منهزمين وأكثرهم مجروح.
فلما انهزم أصحابه، قال معاوية لأصحابه: انظروا إلى أميرهم، فجاؤوا إليه فلم يعرفوه، فتقدم معاوية إليه فإذا هو عبد الله بن بديل.
فقال معاوية: هذا والله كما قال الشاعر وهو حاتم الطائي:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها * وإن شمرت يوما به الحرب شمرا
ويحمي إذا ما الموت كان لقاؤه * كذلك ذو الأشبال يحمي إذا ما تأمرا
كليث هزبر كان يحمي ذماره * رمته المنايا سهمها فتقطرا
ثم حمل الأشتر النخعي بمن رجع معه من المنهزمين فصدق الحملة حتى خالط الصفوف الخمسة الذين تعاقدوا أن لا يفروا، وهم حول معاوية فخرق منهم أربعة وبقي بينه وبين معاوية صف.
قال الأشتر: فرأيت هولا عظيما، وكدت أن أفر فما ثبتني إلا قول ابن الأطنابة وهي أمه من بلقين وكان هو من الأنصار وهو جاهلي:
أبت لي عفتي وأبي بلائي * وإقدامي على البطل المشيح
وإعطائي على المكروه مالي * وضربي هامة الرجل السميح
وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي
قال: فهذا الذي ثبتني في ذلك الموقف.
والعجب أن ابن ديزيل روى في كتابه أن أهل العراق حملوا حملة واحدة، فلم يبق لأهل الشام صف إلا أزالوه، حتى أفضوا إلى معاوية فدعى بفرسه لينجو عليه، قال معاوية: فلما وضعت رجلي في الركاب تمثلت بأبيات عمرو بن الإطناب:
أبت لي عفتي وأبي بلائي * وأخذي الحمل بالثمن البيح
وإعطائي على المكروه مالي * وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي
قال: فثبت ونظر معاوية إلى عمرو بن العاص فقال: اليوم صبر وغدا فخر.
فقال له عمرو: صدقت.
قال معاوية: فأصبت خير الدنيا، وأنا أرجو أن أصيب خير الآخرة.
ورواه محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الرحمن بن حاطب، عن معاوية، وبعث معاوية إلى خالد بن المعتمر وهو أمير الخيالة لعلي فقال له: اتبعني على ما أنت عليه، ولك إمرة العراق، فطمع فيه.
فلما ولي معاوية ولاه العراق فلم يصل إليها خالد رحمه الله.
ثم إن عليا لما رأى الميمنة قد اجتمعت رجع إلى الناس فأنب بعضهم وعذر بعضهم وحرض الناس وثبتهم ثم تراجع أهل العراق فاجتمع شملهم ودارت رحى الحرب بينهم، وجالوا في الشاميين وصالوا، وتبارز الشجعان فقتل خلق كثير من الأعيان من الفريقين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقيل: ممن قتل في هذا اليوم عبيد الله بن عمر بن الخطاب من الشاميين، واختلفوا فيمن قتله من العراقيين.
وقد ذكر إبراهيم بن الحسين بن ديزيل: أن عبيد الله لما خرج يومئذ أميرا على الحرب أحضر امرأتيه أسماء بنت عطارد بن حاجب التميمي وبحرية بنت هانئ بن قبيصة الشيباني فوقفتا وراءه في راحلتين لينظرا إلى قتاله وشجاعته وقوته، فواجهته من جيش العراقيين ربيعة الكوفة وعليهم زياد بن حفصة التميمي، فشدوا عليه شدة رجل واحد فقتلوه بعد ما انهزم عنه أصحابه، ونزلت ربيعة فضربوا لأميرهم خيمة فبقي طنب منها لم يجدوا له وتدا فشدوه برجل عبيد الله.
وجاءت امرأتاه يولولان حتى وقفتا عليه وبكتا عنده، وشفعت امرأته بحرية إلى الأمير فأطلقه لهما فاحتملتاه معهما في هودجهما، وقتل معه أيضا ذو الكلاع.
قال الشعبي: ففي مقتل عبيد الله بن عمر يقول كعب بن جعل التغلبي:
ألا إنما تبكي العيون لفارس * بصفين ولت خيله وهو واقف
تبدل من أسماء أسياف وائل * وكان فتى لو أخطأته المتالف
تركن عبيد الله بالقاع ثاويا * تسيل دماه والعروق نوازف
ينوء ويغشاه شآبيب من دم * كما لاح من جيب القميص الكفائف
وقد صبرت حول ابن عم محمد * لدى الموت أرباب المناقب شارف
فما برحوا حتى رأى الله صبرهم * وحتى رقت فوق الأكف المصاحف
وزاد غيره فيها:
معاويَ لا تنهض بغير وثيقة * فإنك بعد اليوم بالذل عارف
وقد أجابه أبو جهم الأسدي بقصيدة فيها أنواع من الهجاء تركناها قصدا.
وهذا مقتل عمار بن ياسر رضي الله عنه مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قتله أهل الشام وبان وظهر بذلك سر ما أخبر به الرسول ﷺ من أنه تقتله الفئة الباغية وبان بذلك أن عليا محقٌ وأن معاوية باغٍ، وما في ذلك من دلائل النبوة.
ذكر ابن جرير من طريق أبي مخنف، حدثني مالك بن أعين الجهني، عن زيد بن وهب الجهني: أن عمارا قال يومئذ: من يبتغي رضوان ربه ولا يلوي إلى مال ولا ولد؟
قال: فأتته عصابة من الناس.
فقال: أيها الناس اقصدوا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يبتغون دم عثمان ويزعمون أنه قتل مظلوما والله ما قصدهم الأخذ بدمه ولا الأخذ بثأره ولكن القوم ذاقوا الدنيا واستحلوها واستمروا الآخرة فقلوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من دنياهم وشهواتهم، ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها طاعة الناس لهم ولا الولاية عليهم، ولا تمكنت من قلوبهم خشية الله التي تمنع من تمكنت من قلبه عن نيل الشهوات، وتعقله عن إرادة الدنيا، وطلب العلو فيها، وتحمله على إتباع الحق والميل إلى أهله.
فخدعوا أتباعهم بقولهم: إمامنا قتل مظلوما، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا، وتلك مكيدة بلغوا بها ما ترون، ولولا ذلك ما تبعهم من الناس رجل ولكانوا أذل وأخس وأقل، ولكن قول الباطل له حلاوة في أسماع الغافلين، فسيروا إلى الله سيرا جميلا، واذكروا ذكرا كثيرا.
ثم تقدم فلقيه عمرو بن العاص، وعبيد الله بن عمر، فلامهما وأنبهما ووعظمها، وذكروه من كلامه لهما ما فيه غلظة، فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، سمعت عبد الله بن سلمة يقول: رأيت عمارا يوم صفين شيخا كبيرا آدم طوالا أخذ الحربة بيده ويده ترعد فقال: والذي نفسي بيده لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول الله ﷺ ثلاث مرات وهذه الرابعة، والذي نفسي بيده لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعرفت أن مصلحينا على الحق، وأنهم على الضلالة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة وحجاج، حدثني شعبة، سمعت قتادة يحدث، عن أبي نضرة، قال حجاج: سمعت أبا نضرة، عن قيس بن عباد قال: قلت لعمار بن ياسر: أرأيت قتالكم مع علي رأيا رأيتموه؟ فإن الرأي يخطئ ويصيب، أو عهد عهده إليكم رسول الله ﷺ؟
فقال: ما عهد إلينا رسول الله ﷺ شيئا لم يعهده إلى الناس كافة.
وقد رواه مسلم، من حديث شعبة، وله تمام عن عمار، عن حذيفة في المنافقين.
وهذا كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، عن جماعة من التابعين، منهم: الحارث بن سويد، وقيس بن عبادة، وأبو جحيفة وهب بن عبد الله السوائي، ويزيد بن شريك، وأبو حسان الأجرد وغيرهم، أن كلا منهم قال: قلت لعلي: هل عندكم شيء عهده إليكم رسول الله ﷺ لم يعهده إلى الناس؟
فقال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في القرآن، وما في هذه الصحيفة.
قلت: وما في هذه الصحيفة؟ فإذا فيها العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر، وأن المدينة حرم ما بين ثبير إلى ثور.
وثبت في الصحيحين أيضا من حديث الأعمش، عن أبي وائل، عن سفيان بن مسلم، عن سهل بن حنيف، أنه قال يوم صفين: يا أيها الناس؟ اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أقدر لرددت على رسول الله ﷺ أمره، ووالله ما حملنا سيوفنا على عواتقنا منذ أسلمنا لأمر يقطعنا إلا أسهل إلى أمر نعرفه غير أمرنا هذا، فإنا لا نسد منه خصما إلا انفتح لنا غيره، لا ندري كيف نبالي له.
وقال أحمد: حدثنا وكيع، ثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري قال: قام عمار يوم صفين، فقال: إيتوني بشربة لبن، فإن رسول الله ﷺ قال: « آخر شربة تشربها من الدنيا تشربها يوم تقتل ».
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن حبيب، عن أبي البختري: أن عمارا أتي بشربة لبن فضحك، وقال: إن رسول الله قال لي: « آخر شراب أشربه لبن حين أموت ».
وقال إبراهيم بن الحسين بن ديزيل: ثنا يحيى بن نصر، ثنا عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي قال: سمعت الشعبي، عن الأحنف بن قيس قال: ثم حمل عمار بن ياسر عليهم، فحمل عليه ابن جوى السكسكي، وأبو الغادية الفزاري، فأما أبو الغادية فطعنه، وأما ابن جوى فاحتز رأسه.
وقد كان ذو الكلاع سمع قول عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله ﷺ لعمار بن ياسر: « تقتلك الفئة الباغية، وآخر شربة تشربها صاع لبن »، فكان ذو الكلاع يقول لعمرو: ويحك! ما هذا يا عمرو؟!
فيقول له عمرو: إنه سيرجع إلينا.
قال: فلما أصيب عمار بعد ذو الكلاع.
قال عمرو لمعاوية: ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحا بقتل عمار أو ذي الكلاع؟ والله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمار لمال بعامة أهل الشام، ولأفسد علينا جندنا.
قال: وكان لا يزال يجيء رجل فيقول لمعاوية وعمرو: أنا قتلت عمارا.
فيقول له عمرو: فما سمعته يقول؟
فيخلطون حتى جاء جوى، فقال: أنا سمعته يقول:
اليوم ألقى الأحبة * محمدا وحزبه
فقال له عمرو: صدقت، أنت إنك لصاحبه.
ثم قال له: رويدا، أما والله ما ظفرت يداك، ولقد أسخطت ربك.
وقد روى ابن ديزيل، من طريق أبي يوسف، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الرحمن الكندي، عن أبيه، عن عمرو بن العاص: أن رسول الله ﷺ قال لعمار: « تقتلك الفئة الباغية ».
ورواه أيضا من حديث جماعة من التابعين أرسلوه، منهم: عبد الله بن أبي الهذيل، ومجاهد، وحبيب بن أبي ثابت، وحبة العرني، وساقه من طريق إبان، عن أنس مرفوعا.
ومن حديث عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن أبي الزبير، عن حذيفة مرفوعا: « ما خُير عمار بين شيئين إلا اختار أرشدهما ».
وبه عن عمرو بن شمر، عن السري، عن يعقوب بن راقط قال: اختصم رجلان في سلب عمار وفي قتله، فأتيا عبد الله بن عمرو بن العاص ليتحاكما إليه، فقال لهما: ويحكما اخرجا عني، فإن رسول الله ﷺ قال - ولعبت قريش بعمار -: « ما لهم ولعمار؟ عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، قاتله وسالبه في النار ».
قال: فبلغني أن معاوية قال: إنما قتله من أخرجه، يخدع بذلك أهل الشام.
وقال إبراهيم بن الحسين: حدثنا يحيى، ثنا عدي بن عمر، ثنا هشيم، ثنا العوام بن حوشب بن الأسود بن مسعود عن حنظلة بن خويلد - وكان ناس عند علي ومعاوية - قال: بينا هو عند معاوية إذ جاءه رجلان يختصمان في قتل عمار، فقال لهما عبد الله بن عمرو: ليطب كل واحد منكما نفسا لصاحبه بقتل عمار، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « تقتله الفئة الباغية ».
فقال معاوية لعمرو: ألا تنهي عنا مجنونك هذا؟ ثم أقبل معاوية على عبد الله فقال له: فلم تقاتل معنا؟
فقال له: إن رسول الله ﷺ أمرني بطاعة والدي ما كان حيا، وأنا معكم، ولست أقاتل.
وحدثنا يحيى بن نصر، ثنا حفص بن عمران البرجمي، حدثني نافع بن عمر الجمحي، عن ابن أبي مليكة: أن عبد الله بن عمر قال لأبيه: لولا أن رسول الله ﷺ أمرني بطاعتك ما سرت معك هذا المسير، أما سمعت رسول الله ﷺ يقول لعمار بن ياسر: « تقتلك الفئة الباغية ».
وحدثنا يحيى، ثنا عبد الرحمن بن زياد، ثنا هشيم، عن مجالد، عن الشعبي قال: جاء قاتل عمار يستأذن على معاوية وعنده عمرو، فقال: ائذن له، وبشره بالنار.
فقال الرجل: أو ما تسمع ما يقول عمرو؟
قال: صدق؟ إنما قتله الذين جاؤوا به!.
وهذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما، عن جماعة من التابعين منهم: الحارث بن سويد، وقيس بن عبادة، وأبو جحيفة وهب بن عبد الله السوائي، ويزيد بن شريك، وأبو حسان الأجرد، وغيرهم: أن كلا منهم قال: قلت لعلي هل عندكم شيء عهده إليكم رسول الله ﷺ لم يعهده إلى الناس؟
فقال: لا! والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في القرآن، وما في هذه الصحيفة.
قلت: وما في هذه الصحيفة؟
فإذا فيها العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر، وأن المدينة حرام ما بين ثبير إلى ثور.
وثبت في الصحيحين أيضا، من حديث الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين:
أيها الناس، اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أقدر أن أرد على رسول الله ﷺ أمره لرددته، والله ما حملنا سيوفنا على عواتقنا منذ أسلمنا لأمر يقطعنا إلا أسهل بنا إلى أمر نعرفه غير أمرنا هذا.
وقال ابن جرير: وحدثنا أحمد بن محمد، ثنا الوليد بن صالح، ثنا عطاء بن مسلم، عن الأعمش قال: قال أبو عبد الرحمن السلمي قال: كنا مع علي بصفين، وكنا قد وكلنا بفرسه نفسين يحفظانه يمنعانه أن يحمل، فكان إذا حانت منهما غفلة حمل فلا يرجع حتى يخضب سيفه، وإنه حمل ذات يوم فلم يرجع حتى انثنى سيفه، فألقاه إليهم، وقال: لولا أنه انثنى ما رجعت.
قال: ورأيت عمارا لا يأخذ واديا من أودية صفين إلا اتبعه من كان هناك من أصحاب رسول الله ﷺ، ورأيته جاء إلى هاشم بن عتبة، وهو صاحب راية علي، فقال: يا هاشم تقدم! الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسنة، وقد فتحت أبواب الجنة، وتزينت الحور العين:
اليوم ألقى الأحبة * محمدا وحزبه
ثم حملا هو وهاشم فقتلا رحمهما الله تعالى، قال: وحمل حينئذ علي وأصحابه على أهل الشام حملة رجل واحد كأنهما - كان يعني عمارا وهاشما - علما لهم.
قال: فلما كان الليل قلت: لأدخلن الليلة إلى العسكر الشاميين حتى أعلم هل بلغ منهم قتل عمار ما بلغ منا؟ - وكنا إذا توادعنا من القتال تحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم -فركبت فرسي وقد هدأت الرجل، ثم دخلت عسكرهم فإذا أنا بأربعة يتسامرون معاوية، وأبو الأعور السلمي، وعمرو بن العاص، وابنه عبد الله بن عمرو، وهو خير الأربعة.
قال: فأدخلت فرسي بينهم مخافة أن يفوتني ما يقول بعضهم لبعض، فقال عبد الله لأبيه: يا أبة قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا، وقد قال فيه رسول الله ما قال.
قال: وما قال؟
قال: ألم يكن معنا ونحن نبني المسجد، والناس ينقلون حجرا حجرا، ولبنةً لبنةً، وعمار ينقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين فغشي عليه؟ فأتاه رسول الله ﷺ فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: « ويحك يا ابن سمية الناس ينقلون حجرا حجرا ولبنةً لبنةً، وأنت تنقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين، رغبة منك في الأجر، وكنت مع ذلك، ويحك تقتلك الفئة الباغية ».
قال: فرجع عمرو، وصدر فرسه، ثم جذب معاوية إليه فقال: يا معاوية، أما تسمع ما يقول عبد الله؟
قال: وما يقول؟
قال: يقول وأخبره الخبر.
فقال معاوية: إنك شيخ أخرق، ولا تزال تحدث بالحديث، وأنت تدحض في بولك، أو نحن قتلنا عمارا؟ إنما قتل عمارا من جاء به.
قال: فخرج الناس من عند فساطيطهم، وأخبيتهم، وهم يقولون: إنما قتل عمارا من جاء به، فلا أدري من كان أعجب هو أو هم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن عبد الرحمن بن أبي زياد قال: إني لأسير مع معاوية منصرفه من صفين بينه وبين عمرو بن العاص.
فقال عبد الله بن عمرو: يا أبة، أما سمعت رسول الله ﷺ يقول لعمار: « ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية ».
قال: فقال عمرو لمعاوية: ألا تسمع ما يقول عبد الله هذا؟
فقال معاوية: لا يزال يأتينا بهنة بعد هنة، أنحن قتلناه؟ إنما قتله الذين جاءوا به.
ثم رواه أحمد عن أبي نعيم، عن سفيان الثوري، عن الأعمش به نحوه.
تفرد به أحمد بهذا السياق من هذا الوجه، وهذا التأويل الذي سلكه معاوية رضي الله عنه بعيد، ثم لم ينفرد عبد الله بن عمرو بهذا الحديث، بل قد روي من وجوه أخر.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن خالد، عن عكرمة، عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله ﷺ قال لعمار: « تقتلك الفئة الباغية ».
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث عبد العزيز بن المختار، وعبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن أبي سعيد في قصة بناء المسجد: أن رسول الله ﷺ قال لعمار: « يا ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ».
قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن.
وفي بعض نسخ البخاري: « يا ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ».
وقال أحمد: حدثنا سليمان بن داود، ثنا شعبة، ثنا عمرو بن دينار، عن أبي هشام، عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله قال لعمار: « تقتلك الفئة الباغية ».
وروى مسلم من حديث شعبة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: حدثني من هو خير مني - يعني أبا قتادة - أن رسول الله ﷺ قال لعمار: « تقتلك الفئة الباغية ».
وروى مسلم أيضا من حديث شعبة، عن خالد الحذاء، عن الحسن وسعيد ابني أبي الحسن، عن أمهما حرة، عن أم سلمة: أن رسول الله ﷺ قال لعمار: « تقتلك الفئة الباغية ».
ورواه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن علية، عن ابن عون، عن الحسن، عن أبيه، عن أم سلمة به.
وفي رواية: « وقاتله في النار ».
وروى البيهقي، عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن أبي بكر محمد بن إسحاق الصنعاني، عن أبي الجواب، عن عمار بن زريق، عن عمار الذهبي، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول لعمار: « إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق ».
وقال إبراهيم بن الحسين بن ديزيل - في سيرة علي - ثنا يحيى بن عبيد الله الكرابيسي، ثنا أبو كريب، ثنا أبو معاوية، عن عمار بن زريق، عن عمار الذهبي، عن سالم بن أبي الجعد قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال: إن الله قد أمننا أن يظلمنا، ولم يؤمنا أن يفتننا، أرأيت إذا نزلت فتنة كيف أصنع؟
قال: عليك بكتاب الله.
قلت: أرأيت إن جاء قوم كلهم يدعون إلى كتاب الله؟
فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق ».
وروى ابن ديزيل، عن عمرو بن العاص نفسه حديثا في ذكر عمار، وأنه مع فرقة الحق، وإسناده غريب.
وقال البيهقي: أنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الله الصفار، ثنا الأسقاطي، ثنا أبو مصعب، ثنا يوسف بن الماجشون، عن أبيه، عن أبي عبيدة، عن محمد بن عمار بن ياسر، عن مولاة لعمار قالت: اشتكى عمار شكوى أرق منها فغشي عليه، فأفاق ونحن نبكي حوله، فقال: ما تبكون؟ أتخشون أن أموت على فراشي؟ أخبرني حبيبي ﷺ أنه تقتلني الفئة الباغية، وأن آخر زادي من الدنيا مذقة من لبن.
وقال أحمد: ثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: أمرنا رسول الله ﷺ ببناء المسجد، فجعلنا ننقل لبنة لبنة، وكان عمار ينقل لبنتين لبنتين، فتترب رأسه قال: فحدثني أصحابي ولم أسمعه من أن رسول الله أنه جعل ينفض رأسه ويقول: « ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية ». تفرد به أحمد.
وما زاده الروافض في هذا الحديث بعد قوله الباغية، لا أنالها والله شفاعتي يوم القيامة، فهو كذب وبهت على رسول الله ﷺ، فإنه قد ثبتت الأحاديث عنه صلوات الله عليه وسلامه بتسمية الفريقين مسلمين، كما سنورده قريبا إن شاء الله.
قال ابن جرير: وقد ذكر أن عمارا لما قتل، قال علي لربيعة وهمدان: أنتم درعي ورمحي.
فانتدب له نحو من اثني عشر ألفا، وتقدمهم علي ببغلته، فحمل وحملوا معه حملة رجل واحد، فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض، وقتلوا كل من انتهوا إليه حتى بلغوا معاوية، وعلي يقاتل ويقول:
أضربهم ولا أرى معاوية * الجاحظ العين عظيم الحاوية
قال: ثم دعى علي معاوية إلى أن يبارزه، فأشار عليه بالخروج إليه عمرو بن العاص، فقال له معاوية: إنك لتعلم أنه لم يبارزه رجل قط إلا قتله، ولكنك طمعت فيها بعدي.
ثم قدم على ابنه محمد في عصابة كثيرة من الناس فقاتلوه قتالا شديدا، ثم تبعه علي في عصابة أخرى، فحمل بهم فقتل في هذا الموطن خلق كثير من الفريقين لا يعلمهم إلا الله، وقتل من العراقيين خلق كثير أيضا، وطارت أكف ومعاصم ورؤوس عن كواهلها رحمهم الله.
ثم حانت صلاة المغرب فما صلى بالناس إلا إيماء صلاتي العشاء واستمر القتال في هذه الليلة كلها، وهي من أعظم الليالي شرا بين المسلمين، وتسمى هذه الليلة: ليلة الهرير.
وكانت ليلة الجمعة تقصفت الرماح، ونفذت النبال، وصار الناس إلى السيوف، وعلي رضي الله عنه يحرض القبائل ويتقدم أيهم يأمر بالصبر والثبات، وهو أمام الناس في قلب الجيش، وعلى الميمنة الأشتر تولاها بعد قتل عبد الله بن بديل عشية الخميس ليلة الجمعة - وعلى الميسرة ابن عباس، والناس يقتتلون من كل جانب، فذكر غير واحد من علمائنا علماء السير - أنهم اقتتلوا بالرماح حتى تقصفت، وبالنبال حتى فنيت، وبالسيوف حتى تحطمت.
ثم صاروا إلى أن تقاتلوا الأيدي والرمي بالحجارة والتراب في الوجوه، وتعاضوا بالأسنان يقتتل الرجلان حتى يثخنا ثم يجلسان يستريحان، وكل واحد منهما يهمر على الآخر ويهمر عليه ثم يقومان فيقتتلان كما كانا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولم يزل ذلك دأبهم حتى أصبح الناس من يوم الجمعة وهم كذلك وصلّى الناس الصبح إيماء وهم في القتال حتى تضاحى النهار وتوجه النصر لأهل العراق على أهل الشام، وذلك أن الأشتر النخعي صارت إليه إمرة الميمنة، فجعل بمن فيها على أهل الشام، وتبعه علي فتنقضت غالب صفوفهم وكادوا ينهزمون، فعند ذلك رفع أهل الشام المصاحف فوق الرماح وقالوا: هذا بيننا وبينكم وقد فني الناس فمن للثغور؟ ومن لجهاد المشركين والكفار؟
وذكر ابن جرير وغيره من أهل التاريخ: أن الذي أشار بهذا هو عمرو بن العاص، وذلك لما رأى أن أهل العراق قد استظهروا في ذلك الموقف، أحب أن ينفصل الحال وأن يتأخر الأمر فإن كلا من الفريقين صابر للآخر، والناس يتفانون.
فقال إلى معاوية: إني قد رأيت أمرا لا يزيدنا هذه الساعة إلا اجتماعا ولا يزيدهم إلا فرقة، أرى أن نرفع المصاحف وندعوهم إليها، فإن أجابوا كلهم إلى ذلك بَرَدَ القتال، وإن اختلفوا فيما بينهم فمن قائل نجيبهم، وقائل لا نجيبهم، فشلوا وذهب ريحهم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعلى بن عبيد، عن عبد العزيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت قال: أتيت أبا وائل في مسجد أهله أسأله عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي بالنهروان فيما استجابوا له، وفيما فارقوه، وفيما استحل قتالهم؟
فقال: كنا بصفين فلما استحر القتال بأهل الشام اعتصموا بتل فقال عمرو بن العاص لمعاوية: أرسل إلى علي بمصحف فادعه إلى كتاب الله فإنه لن يأبى عليك.
فجاء به رجل فقال: بيننا وبينكم كتاب الله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [آل عمران: 23] .
فقال علي: نعم أنا أولى بذلك، بيننا وبينكم كتاب الله.
قال: فجاءته الخوارج ونحن ندعوهم يومئذ القراء، وسيوفهم على عواتقهم فقالوا: يا أمير المؤمنين ما ينتظر هؤلاء القوم الذين على التل ألا نمشي إليهم سيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم؟
فتكلم سهل بن حنيف فقال: يا أيها الناس اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية - يعني: الصلح الذي كان بين رسول الله وبين المشركين - ولو نرى قتالا لقاتلنا فجاء عمر إلى رسول الله فقال: يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل؟
وذكر تمام الحديث كما تقدم في موضعه.