البداية والنهاية/الجزء السابع/ثم دخلت سنة ست عشرة
استُهلت هذه السنة، وسعد بن أبي وقاص منازل مدينة نهرشير، وهي إحدى مدينتي كسرى مما يلي دجلة من الغرب، وكان قدوم سعد إليها في ذي الحجة من سنة خمس عشرة، واستهلت هذه السنة وهو نازل عندها.
وقد بعث السرايا والخيول في كل وجه فلم يجدوا واحدا من الجند بل جمعوا من الفلاحين مائة ألف، فحبسوا حتى كتب إلى عمر ما يفعل بهم.
فكتب إليه عمر: إن من كان من الفلاحين لم يعن عليكم وهو مقيم ببلده فهو أمانه، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به.
فأطلقهم سعد بعد ما دعاهم إلى الإسلام، فأبوا إلا الجزية.
ولم يبقى من غربي دجلة إلا أرض العرب أحد من الفلاحين إلا تحت الجزية والخراج.
وامتنعت نهرشير من سعد أشد الامتناع، وقد بعث إليهم سعد سلمان الفارسي فدعاهم إلى الله عز وجل، أو الجزية، أو المقاتلة، فأبوا إلا المقاتلة والعصيان، ونصبوا المجانيق والدبابات.
وأمر سعد بعمل المجانيق فعملت عشرون منجنيقا ونصبت على نهرشير، واشتد الحصار، وكان أهل نهرشير يخرجون فيقاتلون قتالا شديدا ويحلفون أن لا يفروا أبدا، فأكذبهم الله وهزمهم زهرة بن حوية بعد ما أصابه سهم، وقتل بعد مصابه كثيرا من الفرس، وفروا بين يديه، ولجأوا إلى بلدهم، فكانوا يحاصرون فيه أشد الحصار، وقد انحصر أهل البلد حتى أكلوا الكلاب والسنانير، وقد أشرف رجل منهم على المسلمين فقال:
يقول لكم الملك: هل لكم إلى المصالحة على أن لنا ما يلينا من دجلة إلى جبلنا؟ ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أم شبعتم؟ لا أشبع الله بطونكم.
قال: فبدر الناس رجل يقال له أبو مقرن الأسود بن قطبة فأنطقه الله بكلام لم يدر ما قال لهم، قال: فرجع الرجل ورأيناهم يقطعون من نهرشير إلى المدائن.
فقال الناس لأبي مقرن: ما قلت لهم؟
فقال: والذي بعث محمد بالحق ما أدري ما قلت لهم، إلا أن علي سكينة، وأنا أرجو أن أكون قد أنطقت بالذي هو خير، وجعل الناس ينتابونه يسألونه عن ذلك، وكان فيمن سأله سعد بن أبي وقاص، وجاءه سعد إلى منزله فقال: يا أبا مقرن ما قلت؟ فوالله إنهم هراب.
فحلف له أنه لا يدري ما قال.
فنادى سعد في الناس، ونهد بهم إلى البلد والمجانيق تضرب في البلد، فنادى رجل من البلد بالأمان فأمناه، فقال: والله ما بالبلد أحد فتسور الناس السور فما وجدنا فيها أحد إلا قد هربوا إلى المدائن.
وذلك في شهر صفر من هذه السنة، فسألنا ذلك الرجل وأناسا من الأسارى فيها لأي شيء هربوا؟
قالوا: بعث الملك إليكم يعرض عليكم الصلح فأجابه ذلك الرجل بأنه لا يكون بينكم وبينه صلح أبدا حتى نأكل عسل أفريذين بأترج كوثى.
فقال الملك: يا ويلاه إن الملائكة لتتكلم على ألسنتهم، ترد علينا وتجيبنا عن العرب، ثم أمر الناس بالرحيل من هناك إلى المدائن، فجازوا في السفن منها إليها، وبينهما دجلة، وهي قريبة منها جدا.
ولما دخل المسلمون نهرشير لاح لهم القصر الأبيض من المدائن، وهو قصر الملك الذي ذكره رسول الله ﷺ أنه سيفتحه الله على أمته، وذلك قريب الصباح، فكان أول من رآه من المسلمين ضرار بن الخطاب فقال: الله أكبر، أبيض كسرى، هذا ما وعدنا الله ورسوله.
ونظر الناس إليه، فتتابعوا التكبير إلى الصبح.