البداية والنهاية/الجزء السابع/سنة أربعين من الهجرة
قال ابن جرير: فممَّا كان في هذه السنة من الأمور الجليلة توجيه معاوية بسر بن أبي أرطاة في ثلاثة آلاف من المقاتلة إلى الحجاز، فذكر عن زياد بن عبد الله البكائي عن عوانة قال:
أرسل معاوية بعد تحكيم الحكمين بسر بن أبي أرطاة -هو رجل من بني عامر بن لؤي - في جيش فساروا من الشام حتى قدموا المدينة - وعامل علي عليها يومئذ أبو أيوب - ففر منهم أبو أيوب فأتى عليا بالكوفة، ودخل بسر المدينة ولم يقاتله أحد، فصعد منبرها فنادى على المنبر: يا دينار، ويا نجار، ويا رزيق شيخي شيخي عهدي به ها هنا بالأمس فأين هو؟ - يعني: عثمان بن عفان - ثم قال:
يا أهل المدينة والله لولا ما عهد إليَّ معاوية ما تركتُ بها محتلما إلا قتلته، ثم بايع أهل المدينة وأرسل إلى بني سلمة فقال: والله مالكم عندي من أمان ولا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله - يعني حتى يبايعه -.
فانطلق جابر إلى أم سلمة فقال لها: ماذا ترين إني خشيت أن أقتل وهذه بيعة ضلالة؟
فقالت: أرى أن تبايع فإني قد أمرت ابني عمر وختني عبد الله بن زمعة - وهو زوج ابنتها زينب - أن يبايعا فأتاه جابر فبايعه.
قال: وهدم بسر دورا بالمدينة ثم مضى حتى أتى مكة فخافه أبو موسى الأشعري أن يقتله فقال له بسر: ما كنت لأفعل بصاحب رسول الله ﷺ ذلك، فخلى عنه.
وكتب أبو موسى قبل ذلك إلى أهل اليمن أن خيلا مبعوثة من عند معاوية تقتل من أبى أن يقر بالحكومة، ثم مضى بسر إلى اليمن وعليها عبيد الله بن عباس ففر إلى الكوفة حتى لحق بعلي، واستخلف على اليمن عبد الله بن عبد الله بن المدان الحاوي.
فلما دخل بسر اليمن قتله وقتل ابنه، ولقي بسر ثقل عبيد الله ابن عباس وفيه ابنان صغيران له فقتلهما وهما: عبد الرحمن، وقثم.
ويقال: إن بسرا قتل خلقا من شيعة علي في مسيره هذا، وهذا الخبر مشهور عند أصحاب المغازي والسير، وفي صحته عندي نظر والله تعالى أعلم.
ولما بلغ عليا خبر بسر وجه جارية بن قدامة في ألفين، ووهب بن مسعود في ألفين، فسار جارية حتى بلغ نجران فخرق بها وقتل ناسا من شيعة عثمان، وهرب بسر وأصحابه فاتبعهم حتى بلغ مكة، فقال لهم جارية: بايعوا فقالوا: لمن نبايع وقد هلك أمير المؤمنين فلمن نبايع؟
فقال: بايعوا لمن بايع له أصحاب علي، فتثاقلوا ثم بايعوا من خوف.
ثم سار حتى أتى المدينة وأبو هريرة يصلي بهم فهرب منه فقال جارية: والله لو أخذت أبا سنور لضربت عنقه، ثم قال لأهل المدينة: بايعوا للحسن بن علي، فبايعوا وأقام عندهم ثم خرج منصرفا إلى الكوفة، وعاد أبو هريرة يصلي بهم.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة جرت بين علي ومعاوية المهادنة بعد مكاتبات يطول ذكرها على وضع الحرب بينهما، وأن يكون ملك العراق لعلي، ولمعاوية الشام، ولا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزوة.
ثم ذكر عن زياد عن ابن إسحاق ما هذا مضمونه أن معاوية كتب إلى علي: أما بعد فإن الأمة قد قتل بعضها بعضا - يعني: فلك العراق ولي الشام - فأقر بذلك علي رضي الله عنه.
وأمسك كل واحد منهما عن قتال الآخر، وبعث الجيوش إلى بلاده، واستقر الأمر على ذلك.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة خرج ابن عباس من البصرة إلى مكة وترك العمل في قول عامة أهل السير، وقد أنكر ذلك بعضهم وزعم أنه لم يزل عاملا على البصرة حتى صالح علي معاوية، وأنه كان شاهدا للصلح، ممن نص على ذلك أبو عبيدة كما سيأتي.
ثم ذكر ابن جرير سبب خروج ابن عباس عن البصرة وذلك أنه كلم أبا الأسود الدؤلي القاضي بكلام فيه غض من أبي الأسود فكتب أبو الأسود إلى علي يشكو إليه ابن عباس وينال من عرضه فإنه تناول شيئا من أموال بيت المال.
فبعث علي إلى ابن عباس فعاتبه في ذلك وحرر عليه التبعة فغضب ابن عباس من ذلك وكتب إلى علي: ابعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعن عنه والسلام.
ثم سار ابن عباس إلى مكة مع أخواله بني هلال وتبعهم قيس كلها، وقد أخذ شيئا من بيت المال مما كان اجتمع له من العمالة والفيء، ولما سار تبعه أقوام أخر فلحقهم بنو غنم وأرادوا منعهم من المسير فكان بينهم قتال، ثم تحاجزوا ودخل ابن عباس مكة.