البداية والنهاية/الجزء السابع/فصل استمرار حصار عثمان بن عفان
كان الحصار مستمرا من أواخر ذي القعدة إلى يوم الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة.
فلما كان قبل ذلك بيوم، قال عثمان للذين عنده في الدار من المهاجرين والأنصار - وكانوا قريبا من سبعمائة - فيهم عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والحسن، والحسين، ومروان، وأبو هريرة، وخلق من مواليه، ولو تركهم لمنعوه فقال لهم: أقسم على من لي عليه حق أن يكف يده وأن ينطلق إلى منزله، وعنده من أعيان الصحابة وأبنائهم جم غفير.
وقال لرقيقه: من أغمد سيفه فهو حر، فبرد القتال من داخل وحمي من خارج واشتد الأمر، وكان سبب ذلك أن عثمان رأى في المنام رؤيا دلت على اقتراب أجله فاستسلم لأمر الله رجاء موعوده، وشوقا إلى رسول الله ﷺ، وليكون خيرا بني آدم حيث قال حين أراد أخوه قتله: { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ }. [المائدة: 29] .
وروي أن آخر من خرج من عند عثمان من الدار، بعد أن عزم عليهم في الخروج: الحسن بن علي، وقد خرج، وكان أمير الحرب على أهل الدار عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم.
وروى موسى بن عقبة، عن سالم أو نافع: أن ابن عمر لم يلبس سلاحه بعد رسول الله ﷺ إلا يوم الدار ويوم نجرة الحروري.
قال أبو جعفر الداري، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر: أن عثمان رضي الله عنه أصبح يحدث الناس، قال: رأيت النبي ﷺ في المنام، فقال: يا عثمان أفطر عندنا، فأصبح صائما وقتل من يومه.
وقال سيف بن عمر، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن رجل قال: دخل عليه كثير بن الصلت، فقال: يا أمير المؤمنين اخرج فاجلس بالفناء فيرى الناس وجهك فإنك إن فعلت ارتدعوا.
فضحك وقال: يا كثير رأيت البارحة وكأني دخلت على نبي الله وعنده أبو بكر وعمر فقال: ارجع فإنك مفطر عندي غدا.
ثم قال عثمان: ولن تغيب الشمس والله غدا أو كذا وكذا إلا وأنا من أهل الآخرة، قال: فوضع سعد وأبو هريرة السلاح، وأقبلا حتى دخلا على عثمان.
وقال موسى بن عقبة، حدثني أبو علقمة - مولى لعبد الرحمن بن عوف - حدثني ابن الصلت قال: أغفى عثمان بن عفان في اليوم الذي قتل فيه فاستيقظ فقال: لولا أن يقول الناس تمنى عثمان أمنية لحدثتكم.
قال قلنا: أصلحك الله، حدثنا فلسنا نقول ما يقول الناس.
فقال: إني رأيت رسول الله ﷺ في منامي هذا فقال: إنك شاهد معنا الجمعة.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو عبد الرحمن القرشي، ثنا خلف بن تميم، ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر البجلي، ثنا عبد الله بن عمير، حدثني كثير بن الصلت قال: دخلت على عثمان وهو محصور فقال لي: يا كثير ما أراني إلا مقتولا يومي هذا.
قال: قلت ينصرك الله على عدوك يا أمير المؤمنين.
قال: ثم أعاد علي.
فقلت: وقت لك في هذا اليوم شيء؟ أو قيل لك شيء؟
قال: لا! ولكني سهرت في ليلتي هذا الماضية فلما كان وقت السحر أغفيت إغفاءة فرأيت فيما يرى النائم رسول الله ﷺ وأبا بكر وعمر ورسول الله ﷺ يقول لي: يا عثمان إلحقنا لا تحبسنا فإنا ننتظرك، قال: فقتل من يومه ذلك.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا إسحاق بن إسماعيل، ثنا يزيد بن هارون، عن فرج بن فضالة، عن مروان بن أبي أمية، عن عبد الله بن سلام. قال: أتيت عثمان لأسلم عليه وهو محصور فدخلت عليه فقال: مرحبا بأخي، رأيت رسول الله ﷺ الليلة في هذه الخوخة - قال: وخوخة في البيت - فقال: « يا عثمان حصروك؟
قلت: نعم!
قال: عطشوك؟
قلت: نعم، فأدلى دلوا فيه ماء فشربت حتى رويت، إني لأجد برده بين ثديي وبين كتفي، وقال لي: إن شئت نصرت عليهم، وإن شئت أفطرت عندنا » فاخترت أن أفطر عنده، فقتل ذلك اليوم.
وقال محمد بن سعد: أنا عفان بن مسلم، ثنا وهيب، ثنا داود، عن زياد بن عبد الله، عن أم هلال بنت وكيع، عن امرأة عثمان - قال: وأحسبها بنت الفرافصة - قالت: أغفى عثمان، فلما استيقظ قال: إن القوم يقتلونني.
قلت: كلا يا أمير المؤمنين.
قال: إني رأيت رسول الله ﷺ وأبا بكر وعمر، فقالوا: أفطر عندنا الليلة، أو إنك مفطر عندنا الليلة.
وقال الهيثم بن كليب: حدثنا عيسى بن أحمد العسقلاني، ثنا شبابة، ثنا يحيى بن أبي راشد مولى عمر بن حريث، عن محمد بن عبد الرحمن الجرشي.
وعقبة بن أسد، عن النعمان بن بشير، عن نائلة بنت الفرافصة الكلبية - امرأة عثمان - قالت: لما حصر عثمان ظل اليوم الذي كان فيه قتله صائما، فلما كان عند إفطاره سألهم الماء العذب فأبوا عليه، وقالوا: دونك ذلك الركي. وركي في الدار الذي يلقى فيه النتن قالت: فلم يفطر، فرأيت جارا على أحاجير متواصلة - وذلك في السحر - فسألتهم الماء العذب فأعطوني كوزا من ماء فأتيته، فقلت: هذا ماء عذب أتيتك به، قالت فنظر فإذا الفجر قد طلع فقال: إني أصبحت صائما، قالت: فقلت: ومن أين أكلت، ولم أر أحدا أتاك بطعام ولا شراب؟
فقال: إني رأيت رسول الله ﷺ اطلع علي من هذا السقف ومعه دلو من ماء فقال: « اشرب يا عثمان، فشربت حتى رويت، ثم قال: ازدد فشربت حتى نهلت، ثم قال: أما أن القوم سينكرون عليك، فإن قاتلتهم ظفرت، وإن تركتهم أفطرت عندنا ».
قالت: فدخلوا عليه من يومه فقتلوه.
وقال أبو يعلى الموصلي، وعبد الله بن الإمام أحمد: حدثني عثمان بن أبي شيبة، ثنا يونس بن أبي يعفور العبدي، عن أبيه، عن مسلم، عن أبي سعيد مولى عثمان بن عفان: أن عثمان أعتق عشرين مملوكا، ودعا بسراويل فشدها ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام، وقال: إني رأيت رسول الله ﷺ في المنام وأبا بكر وعمر وإنهم قالوا لي: « اصبر فإنك تفطر عندنا القابلة » ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه فقتل وهو بين يديه.
قلت: إنما لبس السراويل رضي الله عنه في هذا اليوم لئلا تبدو عورته إذا قتل فإنه كان شديد الحياء، كانت تستحي منه ملائكة السماء، كما نطق بذلك النبي ﷺ، ووضع بين يديه المصحف يتلو فيه، واستسلم لقضاء الله عز وجل، وكف يده عن القتال، وأمر الناس وعزم عليهم أن لا يقاتلوا دونه، ولولا عزيمته عليهم لنصروه من أعدائه ولكن كان أمر الله قدرا مقدورا.
وقال هشام بن عروة: عن أبيه: إن عثمان رضي الله عنه أوصى إلى الزبير.
وقال الأصمعي: عن العلاء بن الفضل، عن أبيه. قال: لما قتل عثمان فتشوا خزانته فوجدوا فيها صندوقا مقفلا ففتحوه فوجدوا فيه حقة فيها ورقة مكتوب فيها هذه وصية عثمان:
بسم الله الرحمن الرحيم، عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الله يبعث من في القبور، ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، عليها يحيى وعليها يموت، وعليها يبعث إن شاء الله تعالى.
وروى ابن عساكر: أن عثمان رضي الله عنه قال يوم دخلوا عليه فقتلوه:
أرى الموت لا يبقي عزيزا ولم يدع * لعاذ ملاذا في البلاد ومرتعا
وقال أيضا:
يبيت أهل الحصن والحصن مغلق * ويأتي الجبال الموت في شماريخها العلا