البداية والنهاية/الجزء السابع/ثم دخلت سنة تسع وثلاثين
فيها: جهز معاوية بن أبي سفيان جيوشا كثيرة ففرقها في أطراف معاملات علي بن أبي طالب، وذلك أن معاوية رأى بعد أن ولاه عمرو بن العاص بعد اتفاقه مع أبي موسى على عزل علي، أن ولايته وقعت الموقع، فهو الذي يجب طاعته فيما يعتقده، ولأن جيوش علي من أهل العراق لا تطيعه في كثير من الأمر ولا يأتمرون بأمره.
فلا يحصل بمباشرته المقصود من الإمارة والحالة هذه، فهو يزعم أنه أولى منه إذ كان الأمر كذلك.
وكان ممن بعث في هذه السنة النعمان بن بشير في ألفي فارس إلى عين التمر، وعليها مالك بن كعب الأرحبي في ألف فارس مسلحة لعلي، فلما سمعوا بقدوم الشاميين أرفضوا عنه فلم يبق مع مالك بن كعب إلا مائة رجل.
فكتب عند ذلك إلى علي يعلمه بما كان من الأمر، فندب علي الناس إلى مالك بن كعب فتثاقلوا ونكلوا عنه ولم يجيبوا إلى الخروج، فخطبهم علي عند ذلك فقال في خطبته:
يا أهل الكوفة! كلما سمعتم بمنسرٍ من مناسر أهل الشام انجحر كل منكم في بيته، وغلق عليه بابه، انجحار الضـب في جحره، والضبع في وجاره، المغرورُ والله من غررتموه، ولمن فارقكم فاز بالسهم الأصيب، لا أحرار عند النداء، ولا إخوان ثقةٍ عند النجاة، إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا منيتُ به منكم، عميُّ لا تبصرون، وبكْم لا تنطقون، وصمُّ لا تسمعون، إنا لله وإنا إليه راجعون.
ودهمهم النعمان بن بشير فاقتتلوا قتالا شديدا، وليس مع مالك بن كعب إلا مائة رجل قد كسروا جفون سيوفهم واستقتلوا، فبينا هم كذلك إذ جاءهم نجدة من جهة مخنف بن سليم مع ابنه عبد الرحمن بن مخنف في خمسين رجلا، فلما رآهم الشاميون ظنوا أنهم مدد عظيم ففروا هرابا، فاتبعهم مالك بن كعب فقتل منهم ثلاثة أنفس وذهب الباقون على وجوههم ولم يتم لهم أمر من هذا الوجه.
وفيها: بعث معاوية سفيان بن عوف في ستة آلاف وأمره بأن يأتي هيت فيغير عليها، ثم يأتي الأنبار والمدائن، فسار حتى انتهى إلى هيت فلم يجد بها أحدا، ثم إلى الأنبار وفيها مسلحة لعلي نحو من خمسمائة، فتفرقوا ولم يبق منهم إلا مائة رجل.
فقاتلوا مع قلتهم وصبروا حتى قتل أميرهم - وهو أشرس بن حسان البلوي - في ثلاثين رجلا من أصحابه، واحتملوا ما كان بالأنبار من الأموال وكروا راجعين إلى الشام.
فلما بلغ الخبر عليا رضي الله عنه ركب بنفسه فنزل بالنخيلة فقال له الناس: نحن نكفيك ذلك يا أمير المؤمنين.
فقال: والله ما تكفونني ولا أنفسكم. وسرح سعد بن قيس في أثر القوم فسار وراءهم حتى بلغ هيت فلم يلحقهم فرجع.
وفيها: بعث معاوية عبد الله بن مسعدة الفزاري في ألف وسبعمائة إلى تيماء وأمره أن يصدق أهل البوادي ومن امتنع من إعطائه فليقتله ثم يأتي المدينة ومكة والحجاز.
فسار إلى تيماء واجتمع عليه بشر كثير، فلما بلغ عليا بعث المسيب بن نجيبة الفزاري في ألفي رجل فالتقوا بتيماء فاقتتلوا قتالا شديدا عند زوال الشمس.
وحمل المسيب بن نجية على ابن مسعدة فضربه ثلاث ضربات وهو لا يريد قتله بل يقول له: النجا النجا، فانحاز ابن مسعدة في طائفة من قومه إلى حصن هناك فتحصنوا به وهرب بقيتهم إلى الشام، وانتهبت الأعراب ما كان جمعه ابن نجية من إبل الصدقة، وحاصرهم المسيب بن نجية ثلاثة أيام ثم ألقى الحطب على الباب وألهب فيه النار.
فلما أحسوا بالهلاك أشرفوا من الحصن، ومتوا إليه بأنهم من قومه فَرَقَ لهم وأطفأ النار، فلما كان الليل فتح باب الحصن وخرجوا هرابا إلى الشام، فقال عبد الرحمن بن شبيب للمسيب بن نجية: سر حتى ألحقهم!
فقال: لا!
فقال: غششت أمير المؤمنين داهنت في أمرهم.
وفيها: وجَّه معاوية الضحاك بن قيس في ثلاثة آلاف وأمره أن يغير على أطراف جيش علي، فجهز علي حجر بن عدي في أربعة آلاف، وأنفق فيهم خمسين درهما خمسين درهما، فالتقوا بتدمر فقتل من أصحاب الضحاك تسعة عشر رجلا، ومن أصحاب حجر بن عدي رجلان، وغشيهم الليل فتفرقوا، واستمر الضحاك بأصحابه فارا إلى الشام.
وفيها: سار معاوية بنفسه في جيش كثيف حتى بلغ دجلة ثم كر راجعا.
ذكره محمد بن سعد عن الواقدي بإسناده وأبو معشر أيضا.
وفي هذه السنة: ولى علي بن أبي طالب زياد بن أبيه على أرض فارس، وكانوا قد منعوا الخراج والطاعة.
وسبب ذلك حين قتل ابن الحضرمي وأصحابه بالنار حين حرقهم جارية بن قدامة في تلك الدار كما قدمنا، فلما اشتهر هذا الصنيع في البلاد تشوش قلوب كثير من الناس على علي، واختلفوا على علي، ومنع أكثر أهل تلك النواحي خراجهم، ولا سيما أهل فارس فإنهم تمردوا وأخرجوا عاملهم سهل بن حُنيف - كما تقدم في العام الماضي - من بين أظهرهم.
فاستشار علي الناس فيمن يوليه عليهم، فأشار ابن عباس وجارية بن قدامة أن يولي عليهم زياد بن أبيه، فإنه صليب الرأي، عالم بالسياسة.
فقال علي: هو لها، فولاه فارس وكرمان وجهزه إليهما في أربعة آلاف فارس، فسار إليها في هذه السنة فدوخ أهلها وقهرهم حتى استقاموا وأدوا الخراج وما كان عليهم من الحقوق، ورجعوا إلى السمع والطاعة، وسار فيهم بالمعدلة والأمانة، حتى كان أهل تلك البلاد يقولون:
ما رأينا سيرة أشبه بسيرة كسرى أنوشروان من سيرة هذا العربي في اللين والمداراة والعلم بما يأتي، وصفت له تلك البلاد بعدله وعلمه وصرامته، واتخذ للمال قلعة حصينة، فكانت تعرفه بقلعة زياد، ثم لما تحصن فيها منصور اليشكري فيما بعد ذلك عرفت به فكان يقال لها: قلعة منصور.
قال الواقدي: وفي هذه السنة بعث علي بن أبي طالب عبد الله بن عباس على الموسم وبعث معاوية يزيد بن سخبرة الرهاوي ليقيم للناس الحج، فلما اجتمعا بمكة تنازعا وأبى كل واحد منهما أن يسلم لصاحبه فاصطلحا على شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الحجبي فحج بالناس وصلى بهم في أيام الموسم.
قال أبو الحسن المدائني: لم يشهد عبد الله بن عباس الموسم في أيام علي حتى قتل، والذي نازعه يزيد بن سخبرة إنما هو قثم بن العباس حتى اصطلحا على شيبة بن عثمان.
قال ابن جرير: وكما قال أبو الحسن المدائني قال أبو مصعب: قال ابن جرير: وأما عمال علي على الأمصار فهم الذين ذكرنا في السنة الماضية غير أن ابن عباس كان قد سار من البصرة إلى الكوفة واستخلف على البصرة زياد بن أبيه ثم سار زياد في هذه السنة إلى فارس وكرمان كما ذكرنا.