البداية والنهاية/الجزء الثاني/قصة خزاعة وعمرو بن يحيى وعبادة العرب للأصنام
قال ابن إسحاق: ثم أن غبشان من خزاعة وليت البيت دون بني بكر بن عبد مناة.
وكان الذي يليه منهم عمرو بن الحارث الغبشاني، وقريش إذ ذاك حلول وصرم وبيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة. قالوا: وإنما سميت خزاعة خزاعة لأنهم تخزعوا من ولد عمرو بن عامر حين أقبلوا من اليمن يريدون الشام، فنزلوا بمر الظهران فأقاموا به، قال عون بن أيوب الأنصاري ثم الخزرجي في ذلك:
فلما هبطنا بطن مر تخزعت * خزاعة منا في حلول كراكر
حمت كل واد من تهامة واحتمت * بصم القنا والمرهفات البواتر
وقال أبو المطهر إسماعيل بن رافع الأنصاري الأوسي:
فلما هبطنا بطن مكة أحمدت * خزاعة دار الآكل المتحامل
فحلت أكاريسا وشتت قنابلا * على كل حي بين نجد وساحل
نفوا جرهما عن بطن مكة واحتبوا * بعز خزاعي شديد الكواهل
فوليت خزاعة البيت يتوارثون ذلك كابرا عن كابر، حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة الخزاعي، الذي تزوج قصي بن كلاب ابنته حبى، فولدت له بنيه الأربعة: عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى، وعبدا.
ثم صار أمر البيت إليه كما سيأتي بيانه وتفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
واستمرت خزاعة على ولاية البيت نحوا من ثلاثمائة سنة. وقيل: خمسمائة سنة، والله أعلم. وكانوا سوس في ولايتهم وذلك لأن في زمانهم كان أول عبادة الأوثان بالحجاز، وذلك بسبب رئيسهم عمرو بن لحي لعنه الله، فإنه أول من دعاهم إلى ذلك وكان ذا مال جزيل جدا.
يقال: إنه فقأ أعين عشرين بعيرا وذلك عبارة عن أنه ملك عشرين ألف بعير، وكان من عادة العرب أن من ملك ألف بعير فقأ عين واحد منها، لأنه يدفع بذلك العين عنها.
وممن ذكر ذلك الأزرقي، وذكر السهيلي: أنه ربما ذبح أيام الحجيج عشرة آلاف بدنة، وكسى عشرة آلاف حلة، في كل سنة يطعم العرب، ويحيس لهم الحيس بالسمن والعسل، ويلت لهم السويق.
قالوا: وكان قوله وفعله فيهم كالشرع المتبع لشرفه فيهم، ومحلته عندهم، وكرمه عليهم.
قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم: أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، وهم ولد عملاق، ويقال: ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟
قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنما يقال له: هبل، فقدم به مكة فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه.
قال ابن إسحاق: ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل عليه السلام، أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم، والتمسوا الفسح في البلاد إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم، فحيث ما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة، حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة، وأعجبهم حتى خلفت الخلوف، ونسوا ما كانوا عليه.
وفي الصحيح عن أبي رجاء العطاردي قال: كنا في الجاهلية إذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من التراب، وجئنا بالشاة فحلبناها عليه ثم طفنا بها.
قال ابن إسحاق: واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام غيره، فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات، وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم عليه السلام يتمسكون بها من تعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة والوقوف على عرفات والمزدلفة، وهدي البدن والإهلال بالحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه.
فكانت كنانة وقريش إذا هلوا قالوا: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. فيوحدونه بالتلبية ثم يدخلون معه أصنامهم، ويجعلون ملكها بيده. يقول الله تعالى لمحمد ﷺ: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [يوسف: 106] أي: ما يوحدونني لمعرفة حقي إلا جعلوا معي شريكا من خلقي.
وقد ذكر السهيلي وغيره: أن أول من لبى هذه التلبية عمرو بن لحي، وأن إبليس تبدى له في صورة شيخ فجعل يلقنه ذلك فيسمع منه، ويقول كما يقول، واتبعه العرب في ذلك.
وثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ كان إذا سمعهم يقولون: لبيك لا شريك لك، يقول: « قدِ قدِ ».
أي: حسب حسب.
وقد قال البخاري: ثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا يحيى بن آدم، نا إسرائيل عن أبي حفص، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال:
« إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر وإني رأيته يجر أمعاءه في النار ».
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وهذا يقتضي أن عمرو بن لحي هو أبو خزاعة الذي تنسب إليه القبيلة بكمالها، كما زعمه بعضهم من أهل النسب، فيما حكاه ابن إسحاق وغيره. ولو تركنا مجرد هذا لكان ظاهرا في ذلك بل كالنص، ولكن قد جاء ما يخالفه من بعض الوجوه.
فقال البخاري، وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: سمعت سعيد بن المسيب قال: البحيرة: التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة: التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء.
قال: وقال أبو هريرة: قال النبي ﷺ:
« رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيب السوائب ».
وهكذا رواه البخاري أيضا، ومسلم من حديث صالح بن كيسان، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة به.
ثم قال البخاري: ورواه ابن الهاد عن الزهري.
قال الحاكم: أراد البخاري رواه ابن الهاد، عن عبد الوهاب بن بخت، عن الزهري، كذا قال.
وقد رواه أحمد، عن عمرو بن سلمة الخزاعي، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن الهاد، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة سمعت رسول الله ﷺ يقول:
« رأيت عمرو بن عامر يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب، وبحر البحيرة ».
ولم يذكر بينهما عبد الوهاب بن بخت كما قال الحاكم، فالله أعلم.
وقال أحمد أيضا: حدثنا عبد الرازق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ:
« رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، وهو أول من سيب السوائب ».
وهذا منقطع من هذا الوجه.
والصحيح: الزهري عن سعيد عنه. كما تقدم.
وقوله في هذا الحديث، والذي قبله الخزاعي يدل على أنه ليس والد القبيلة، بل منتسب إليها، مع ما وقع في الرواية من قوله أبو خزاعة تصحيف من الراوي، من أخو خزاعة، أو أنه كان يكنى بابي خزاعة، ولا يكون ذلك من باب الإخبار بأنه أبو خزاعة كلهم، والله أعلم.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول لأكثم بن الجون الخزاعي:
« يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبة في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا بك منه ».
فقال أكثم: عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله؟
قال: « لا إنك مؤمن وهو كافر، إنه كان أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي ».
ليس في الكتب من هذا الوجه.
وقد رواه ابن جرير، عن هناد بن عبدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ بنحوه، أو مثله وليس في الكتب أيضا.
وقال البخاري: حدثني محمد بن أبي يعقوب أبو عبد الله الكرماني، حدثنا حسان بن إبراهيم، حدثنا يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ:
« رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا، ورأيت عمرا يجر قصبه وهو أول من سيب السوائب ».
تفرد به البخاري.
وروى الطبراني من طريق صالح، عن ابن عباس مرفوعا في ذلك. والمقصود أن عمرو بن لحي لعنه الله كان قد ابتدع لهم أشياء في الدين غير بها دين الخليل، فاتبعه العرب في ذلك فضلوا بذلك ضلالا بعيدا بينا فظيعا شنيعا.
وقد أنكر الله تعالى عليهم في كتابه العزيز في غير ما آية منه فقال تعالى: { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ.. } الآية [النحل: 116] .
وقال تعالى: { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } [المائدة: 106] وقد تكلمنا على هذا كله مبسوطا وبينا اختلاف السلف في تفسير ذلك، فمن أراد فليأخذه من ثم، ولله الحمد والمنة.
وقال تعالى: { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } [النحل: 56] .
وقال تعالى: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [الأنعام: 136-137] .
و قال تعالى: { وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَها بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } [الأنعام: 138-140] .
وقال البخاري في صحيحه: