البداية والنهاية/الجزء الثاني/قصة تبع أبي كرب مع أهل المدينة
(وكيف أراد غزو البيت الحرام ثم شرفه وعظمه وكساه الحلل فكان أول من كساه).
قال ابن إسحاق: فلما هلك ربيعة بن نصر، رجع ملك اليمن كله إلى حسان بن تبان أسعد أبي كرب، وتبان أسعد تبع الآخر ابن كلكيركب بن زيد، وزيد بن تبع الأول بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرائش بن عدي بن صيفي بن سبأ الأصغر بن كعب كهف الظلم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير ابن أنس بن الهميسع بن العربحج والعربحج، هو حميبر بن سبأ الأكبر بن يعرب بن يشجب بن قحطان.
قال عبد الملك بن هشام: سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
قال ابن إسحاق: وتبان أسعد أبو كرب، هو الذي قدم المدينة، وساق الحبرين من اليهود إلى اليمن، وعمَّر البيت الحرام وكساه، وكان ملكه قبل ملك ربيعة بن نصر.
وكان قد جعل طريقه حين رجع من غزوة بلاد المشرق على المدينة، وكان قد مر بها في بدأته فلم يهج أهلها، وخلَّف بين أظهرهم ابنا له، فقتل غيلة فقدمها وهو مجمع لإخرابها واستئصال أهلها وقطع نخلها.
فجمع له هذا الحي من الأنصار ورئيسهم عمرو بن طلحة أخو بني النجار، ثم أحد بني عمرو بن مبذول، واسم مبذول: عامر بن مالك بن النجار، واسم النجار: تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر.
وقال ابن هشام: عمرو بن طلحة هو عمرو بن معاوية بن عمرو بن عامر بن مالك بن النجار، وطلة أمه، وهي بنت عامر بن زريق الخزرجية.
قال ابن إسحاق: وقد كان رجل من بني عدي بن النجار يقال له: أحمر، عدا على رجل من أصحاب تبع وجده يجد عذقا له فضربه بمنجلة فقتله. وقال إنما التمر لمن أبره فزاد ذلك تبعا حنقا عليهم. فاقتتلوا: فتزعم الأنصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل فيعجبه ذلك منهم، ويقول: والله إن قومنا لكهام.
وحكى ابن إسحاق عن الأنصار: أن تبعا إنما كان حنقه على اليهود، أنهم منعوهم منه.
قال السهيلي: ويقال إنه إنما جاء لنصرة الأنصار أبناء عمه، على اليهود الذين نزلوا عندهم في المدينة على شروط فلم يفوا بها، واستطالوا عليهم، والله أعلم.
قال ابن إسحاق: فبينا تبع على ذلك من قتالهم، إذ جاءه حبران من أحبار اليهود من بني قريظة: عالمان راسخان، حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالوا له: أيها الملك لا تفعل فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك جل العقوبة.
فقال لهما: ولم ذلك؟
قالا: هي مهاجر نبي، يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان، تكون داره وقراره، فتناهى عن ذلك، ورأى أن لهما علما، وأعجبه ما سمع منهما، فانصرف عن المدينة، وأتبعهما على دينهما.
قال ابن إسحاق: وكان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها، فتوجه إلى مكة، وهي طريقه إلى اليمن، حتى إذا كان بين عسفان وامج، أتاه نفر من هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن بزار بن معد بن عدنان. فقالوا له: أيها الملك ألا ندلك على بيت مال داثرا غفلته الملوك قبلك، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة، قال: بلى. قالوا: بيت بمكة يعبده أهله، ويصلون عنده.
وإنما أراد الهذليون هلاكه بذلك لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك، وبغى عنده. فلما أجمع لما قالوا، أرسل إلى الحبرين فسألهما عن ذلك. فقالا له: ما أراد القوم إلا هلاكك، وهلاك جندك، ما نعلم بيتا لله عز وجل، اتخذه في الأرض لنفسه غيره، ولئن فعلت ما دعوك إليه، لتهلكن وليهلكن من معك جميعا.
قال: فماذا تأمرانني أن أصنع إذا أنا قدمت عليه؟ قالا: تصنع عنده ما يصنع أهله، تطوف به، وتعظمه وتكرمه، وتحلق رأسك عنده، وتذلل له، حتى تخرج من عنده.
قال: فما يمنعكما أنتما من ذلك؟ قالا: أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم عليه السلام، وإنه لكما أخبرناك، ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله، وبالدماء التي يهريقون عنده، وهم نجس أهل شرك - أو كما قالا له - فعرف نصحهما وصدق حديثهما، وقرب النفر من هذيل، فقطع أيديهم وأرجلهم.
ثم مضى حتى قدم مكة، فطاف بالبيت، ونحر عنده، وحلق رأسه، وأقام بمكة ستة أيام - فيما يذكرون - ينحر بها للناس، ويطعم أهلها، ويسقيهم العسل.
وأُري في المنام أن يكسوا البيت، فكساء الخصف، ثم أُري في المنام أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساء المعافر، ثم أُري أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساء الملاء والوصائل.
وكان تبع فيما يزعمون أول من كسا البيت، وأوصى به ولاته من جرهم، وأمرهم بتطهيره، وأن لا يقربوه دما، ولا ميتة، ولا مئلاتا وهي المحايض، وجعل له بابا ومفتاحا، ففي ذلك قالت سبيعة بنت الأحب، تذكر ابنها خالد بن عبد مناف بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وتنهاه عن البغي بمكة، وتذكر له ما كان من أمر تبع فيها:
أبني لا تظلم بمكة * لا الصغير ولا الكبير
واحفظ محارمها بني * ولا يغرنك الغرور
أبني من يظلم بمكة * يلق أطراف الشرور
أبني يضرب وجهه * ويلج بخديه السعير
أبني قد جربتها * فوجدت ظالمها يبور
الله آمنها وما * بنيت بعرصتها قصور
والله آمن طيرها * والعصم تامن في ثبير
ولقد غزاها تبع * فكسا بنيتها الحبير
وأذل ربي ملكه * فيها فأوفى بالنذور
يمشي إليها حافيا * بفنائها ألفا بعير
ويظل يطعم أهلها * لحم المهارى والجزور
يسقيهم العسل المصفى * والرحيض من الشعير
والفيل أهلك جيشه * يرمون فيها بالصخور
والملك في أقصى البلاد * وفي الأعاجم والخزور
فاسمع إذا حدثت وأفهم * كيف عاقبة الأمور
قال ابن إسحاق: ثم خرج تبع متوجها إلى اليمن، بمن معه من الجنود وبالحبرين، حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخلوا فيه، فأبوا عليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن.
قال ابن إسحاق: حدثني أبو مالك بن ثعلبة بن أبي مالك القرظي، قال: سمعت إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله يحدث: أن تبعا لما دنا من اليمن ليدخلها، حالت حمير بينه وبين ذلك، وقالوا: لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا، فدعاهم إلى دينه وقال: إنه خير من دينكم. قالوا: تحاكمنا إلى النار؟ قال: نعم.
قال: وكانت باليمن فيما يزعم أهل اليمن نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه، تأخذ الظالم ولا تضر المظلوم، فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديها، حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه.
فخرجت النار إليهم، فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها، فزجرهم من حضرهم من الناس، وأمروهم بالصبر لها، فصبروا حتى غشيتهم، فأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير.
وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما، تعرق جباههما ولم تضرهما، فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما، فمن هنالك كان أصل اليهودية باليمن.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني محدث أن الحبرين، ومن خرج من حمير، إنما اتبعوا النار ليردوها، وقالوا: من ردها فهو أولى بالحق، فدنا منها رجال حمير بأوثانهم ليردوها، فدنت منهم لتأكلهم فحادوا عنها ولم يستطيعوا ردها، فدنا منها الحبران بعد ذلك، وجعلا يتلوان التوراة وهي تنقص عنهما، حتى رداها إلى مخرجها الذي خرجت منه، فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما، والله أعلم أي ذلك كان.
قال ابن إسحاق: وكان رئام بيتا لهم يعظمونه، وينحرون عنده، ويكلمون فيه إذ كانوا على شركهم، فقال الحبران لتبع: إنما هو شيطان يفتنهم بذلك فخل بيننا وبينه، قال: فشأنكما به، فاستخرجا منه فيما يزعم أهل اليمن كلبا أسود فذبحاه، ثم هدما ذلك البيت، فبقاياه اليوم كما ذكر لي بها آثار الدماء التي كانت تهراق عليه.
وقد ذكرنا في التفسير الحديث الذي ورد عن النبي ﷺ: « لا تسبوا تُبعا فإنه قد كان أسلم ».
قال السهيلي: وروى معمر عن همام بن منبه، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: « لا تسبوا أسعد الحميري فإنه أول من كسى الكعبة ».
قال السهيلي: وقد قال تبع حين أخبره الحبران عن رسول الله ﷺ شعرا:
شهدت على أحمد أنه * رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره * لكنت وزيرا له وابن عم
وجاهدت بالسيف أعداءه * وفرجت عن صدره كل هم
قال: ولم يزل هذا الشعر تتوارثه الأنصار، ويحفظونه بينهم، وكان عند أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه.
قال السهيلي: وذكر ابن أبي الدنيا في كتب القبور أن قبرا حفر بصنعاء، فوجد فيه امرأتان معهما لوح من فضة مكتوب بالذهب وفيه: هذا قبر لميس وحنى ابنتي تبع ماتتا، وهما تشهدان أن ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما.
ثم صار الملك فيما بعد إلى حسان بن تبان أسعد، وهو أخو اليمامة الزرقاء التي صلبت على باب مدينة جو، فسميت من يومئذ اليمامة
قال ابن إسحاق: فلما ملك ابنه حسان بن أبي كرب تبان أسعد، سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض الأعاجم، حتى إذا كانوا ببعض أرض العراق كرهت حمير وقبائل اليمن السير معه، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهليهم، فكلموا أخا له يقال له: عمرو وكان معه في جيشه، فقالوا له: أقتل أخاك حسان ونملكك علينا، وترجع بنا إلى بلادنا فأجابهم.
فاجتمعوا على ذلك إلا ذارعين الحميري، فإنه نهى عمرا عن ذلك فلم يقبل منه، فكتب ذو رعين رقعة فيها هذان البيتان:
ألا من يشتري سهرا بنوم * سعيد من يبيت قرير عين
فأما حمير غدرت وخانت * فمعذرة الإله لذي رعين
ثم استودعهما عمرا. فلما قتل عمرو أخاه حسان ورجع إلى اليمن منع منه النوم وسلط عليه السهر، فسأل الأطباء والحذاق من الكهان والعرافين عما به، فقيل له: إنه والله ما قتل رجل أخاه قط أو ذا رحم بغيا إلا ذهب نومه وسلط عليه السهر، فعند ذلك جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه.
فلما خلص إلى ذي رعين قال له: إن لي عندك براءة، قال: وما هي؟ قال: الكتاب الذي دفعته إليك فأخرجه، فإذا فيه البيتان فتركه، ورأى أنه قد نصحه، وهلك عمرو فمرج أمر حمير عند ذلك وتفرقوا.