البداية والنهاية/الجزء الثاني/صفة مولده الشريف عليه الصلاة والسلام
قد تقدم أن عبد المطلب لما ذبح تلك الإبل المائة عن ولده عبد الله حين كان نذر ذبحه، فسلمه الله تعالى لما كان قدر في الأزل من ظهور النبي الأمي ﷺ خاتم الرسل، وسيد ولد آدم من صلبه، فذهب كما تقدم فزوجه أشرف عقيلة في قريش آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة الزهرية. فحين دخل بها وأفضى إليها حملت برسول الله ﷺ.
وقد كانت أم قتال رقيقة بنت نوفل أخت ورقة بن نوفل توسمت ما كان بين عيني عبد الله قبل أن يجامع آمنة من النور، فودت أن يكون ذلك متصلا بها لما كانت تسمع من أخيها من البشارات بوجود محمد ﷺ، وأنه قد أزف زمانه فعرضت نفسها عليه قال بعضهم ليتزوجها وهو أظهر والله أعلم.
فامتنع عليها، فلما انتقل ذلك النور الباهر إلى آمنة بمواقعته إياها كأنه تندم على ما كانت عرضت عليه، فتعرض لها لتعاوده فقالت: لا حاجة لي فيك، وتأسفت على ما فاتها من ذلك، وأنشدت في ذلك ما قدمناه من الشعر الفصيح البليغ.
وهذه الصيانة لعبد الله ليست له، وإنما هي لرسول الله ﷺ، فإنه كما قال تعالى: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } .
وقد تقدم الحديث المروي من طريق جيد أنه قال عليه الصلاة والسلام:
« ولدت من نكاح لا من سفاح ».
والمقصود أن أمه حين حملت به توفي أبوه عبد الله، وهو حمل في بطن أمه على المشهور.
قال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر - هو الواقدي - حدثنا موسى بن عبيدة اليزيدي، وحدثنا سعيد بن أبي زيد، عن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال: خرج عبد الله بن عبد المطلب إلى الشام إلى غزة في عير من عيران قريش يحملونه تجارات، ففرغوا من تجارتهم ثم انصرفوا، فمروا بالمدينة وعبد الله بن عبد المطلب يومئذ مريض.
فقال: أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضا شهرا. ومضى أصحابه فقدموا مكة فسألهم عبد المطلب عن ابنه عبد الله، فقالوا: خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار وهو مريض، فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده الحارث فوجده قد توفي ودفن في دار النابغة، فرجع إلى أبيه فأخبره، فوجد عليه عبد المطلب وإخوته وأخواته وجدا شديدا، ورسول الله ﷺ يومئذ حمل، ولعبد الله بن عبد المطلب يوم توفي خمس وعشرون سنة.
قال الواقدي: هذا هو أثبت الأقاويل في وفاة عبد الله وسنه عندنا.
قال الواقدي: وحدثني معمر عن الزهري أن عبد المطلب بعث عبد الله إلى المدينة يمتار لهم تمراُ فمات، قال محمد بن سعد: وقد أنبأنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه، وعن عوانة بن الحكم قالا: توفي عبد الله بن عبد المطلب بعد ما أتى على رسول الله ﷺ ثمانية وعشرين شهرا. وقيل: سبعة أشهر.
وقال محمد بن سعد: والأول أثبت، أنه توفي ورسول الله ﷺ حمل.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن حسن، عن عبد السلام، عن ابن خربوذ قال: توفي عبد الله بالمدينة ورسول الله ﷺ ابن شهرين، وماتت أمه وهو ابن أربع سنين، ومات جده وهو ابن ثمان سنين، فأوصى به إلى عمه أبي طالب.
والذي رجحه الواقدي وكاتبه الحافظ محمد بن سعد أنه عليه الصلاة والسلام توفي أبوه وهو جنين في بطن أمه، وهذا أبلغ اليتم وأعلى مراتبه.
وقد تقدم في الحديث: « ورؤيا أمي الذي رأت حين حمل بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام ».
وقال محمد بن إسحاق: فكانت آمنة بنت وهب أم رسول الله ﷺ، تحدث أنها أتيت حين حملت برسول الله ﷺ فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي:
أعيذه بالواحد من شر كل حاسد
من كل بر عاهد وكل عبد رائد
يذود عني ذائد فإنه عند الحميد الماجد
حتى أراه قد أتى المشاهد
وآية ذلك أنه يخرج معه نور يملأ قصور بصرى من أرض الشام، فإذا وقع فسميه محمدا، فإن اسمه في التوراة أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، واسمه في الإنجيل أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، واسمه في القرآن محمد، وهذا وذاك يقتضي أنها رأت حين حملت به عليه السلام كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، ثم لما وضعته رأت عيانا تأويل ذلك كما رأته قبل ذلك هاهنا، والله أعلم.
وقال محمد بن سعد: أنبأنا محمد بن عمر - هو الواقدي - حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم، عن الزهري.
وقال الواقدي: حدثنا موسى بن عبدة، عن أخيه ومحمد بن كعب القرظي، وحدثني عبد الله بن جعفر الزهري، عن عمته أم بكر بنت المسود، عن أبيها. وحدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم المزني، وزياد بن حشرج، عن أبي وجزة. وحدثنا معمر، عن أبي نجيح، عن مجاهد. وحدثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء عن ابن عباس:
دخل حديث بعضهم في حديث بعض أن آمنة بنت وهب قالت: لقد علقت به - تعني رسول الله ﷺ - فما وجدت له مشقة حتى وضعته، فلما فصل مني خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق إلى المغرب، ثم وقع إلى الأرض معتمدا على يديه، ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها ورفع رأسه إلى السماء.
وقال بعضهم: وقع جاثيا على ركبتيه، وخرج معه نور أضاءت له قصور الشام وأسواقها، حتى رؤيت أعناق الإبل ببصرى، رافعا رأسه إلى السماء.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأنا محمد بن إسماعيل قال: أنبأنا محمد بن إسحاق، حدثنا يونس بن مبشر بن الحسن قال: حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران، حدثنا عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن ابن أبي سويد الثقفي، عن عثمان بن أبي العاص قال:
حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله ﷺ ليلة ولدته، قالت: فما شيء أنظره في البيت إلا نور، وإني أنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول ليقعن علي.
وذكر القاضي عياض عن الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف، أنها كانت قابلته، وأنها أخبرت به حين سقط على يديها واستهل، سمعت قائلا يقول: يرحمك الله، وإنه سطع منه نور رؤيت منه قصور الروم.
قال محمد بن إسحاق: فلما وضعته بعثت إلى عبد المطلب جاريتها - وقد هلك أبوه وهي حبلى، ويقال: إن عبد الله هلك والنبي ﷺ ابن ثمانية وعشرين شهرا، فالله أعلم أي ذلك كان - فقالت: قد ولد لك غلام فانظر إليه، فلما جاءها أخبرته وحدثته بما كانت رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه، وما أمرت أن تسميه، فأخذه عبد المطلب فأدخله على هبل في جوف الكعبة، فقام عبد المطلب يدعو ويشكر الله عز وجل ويقول:
الحمد لله الذي أعطاني * هذا الغلام الطيب الأردان
قد ساد في المهد على الغلمان * أعيذه بالبيت ذي الأركان
حتى يكون بلغة الفتيان * حتى أراه بالغ البنيان
أعيذه من كل ذي شنآن * من حاسد مضطرب العنان
ذي همة ليس له عينان * حتى أراه رافع اللسان
أنت الذي سميت في القرآن * في كتب ثابتة المثاني
أحمد مكتوب على اللسان
وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر محمد بن أحمد بن حاتم الدرابودي - بمرو- قال: حدثنا أبو عبد الله البوشنجي، حدثنا أبو أيوب سليمان بن سلمة الخبائري، حدثنا يونس بن عطاء بن عثمان بن ربيعة بن زياد بن الحارث الصدائي - بمصر - حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أبيه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال:
ولد رسول الله ﷺ مختونا مسرورا، قال: فأعجب به جده عبد المطلب، وحظي عنده، وقال: ليكونن لابني هذا شأن فكان له شأن. وهذا الحديث في صحته نظر.
وقد رواه الحافظ ابن عساكر من حديث سفيان بن محمد المصيصي، عن هشيم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ:
« من كرامتي على الله أني ولدت مختونا، ولم ير سوأتي أحد ».
ثم أورده من طريق الحسن بن عرفة عن هشيم به.
ثم أورده من طريق محمد بن محمد بن سليمان - هو الباغندي - حدثنا عبد الرحمن بن أيوب الحمصي، حدثنا موسى بن أبي موسى المقدسي، حدثني خالد بن سلمة، عن نافع، عن ابن عمر قال: ولد رسول الله ﷺ مسرورا مختونا.
وقال أبو نعيم: حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفي، حدثنا الحسين بن أحمد بن عبد الله المالكي، حدثنا سليمان بن سلمة الخبائري، حدثنا يونس بن عطاء، حدثنا الحكم بن أبان، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، عن أبيه العباس قال: ولد رسول الله ﷺ مختونا مسرورا، فأعجب ذلك جده عبد المطلب وحظي عنده، وقال: ليكونن لابني هذا شأن، فكان له شأن.
وقد ادعى بعضهم صحته، لما ورد له من الطرق، حتى زعم بعضهم أنه متواتر، وفي هذا كله نظر. ومعنى مختونا: أي مقطوع الختان، ومسرورا: أي مقطوع السرة من بطن أمه.
وقد روى الحافظ ابن عساكر من طريق عبد الرحمن بن عيينة البصري، حدثنا علي بن محمد المدائني السلمي، حدثنا سلمة بن محارب بن مسلم بن زياد، عن أبيه، عن أبي بكرة أن جبريل ختن النبي ﷺ حين طهر قلبه. وهذا غريب جدا.
وقد روي أن جده عبد المطلب ختنه، وعمل له دعوة جمع قريشا عليها، والله أعلم.
وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأني محمد بن كامل القاضي - شفاها - أن محمد بن إسماعيل حدثه - يعني السلمي - حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن أبي الحكم التنوخي قال:
كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة من قريش إلى الصبح، يكفأن عليه برمة، فلما ولد رسول الله ﷺ دفعه عبد المطلب إلى نسوة، فكفأن عليه برمة فلما أصبحن أتين فوجدن البرمة قد انفلقت عنه باثنتين، ووجدنه مفتوح العينين، شاخصا ببصره إلى السماء، فأتاهن عبد المطلب فقلن له ما رأينا مولودا مثله، وجدناه قد انفلقت عنه البرمة، ووجدناه مفتوحا عينيه، شاخصا ببصره إلى السماء.
فقال: احفظنه، فإني أرجو أن يكون له شأن أو أن يصيب خيرا، فلما كان اليوم السابع ذبح عنه، ودعا له قريشا، فلما أكلوا قالوا يا عبد المطلب: أرأيت ابنك هذا الذي أكرمتنا على وجهه، ما سميته؟ قال: سميته محمدا. قالوا: فما رغبت به عن أسماء أهل بيته؟ قال: أردت أن يحمده الله تعالى في السماء، وخلقه في الأرض.
قال أهل اللغة: كل جامع لصفات الخير يسمى محمدا، كما قال بعضهم:
إليك أبيت اللعن أعملت نافتي * إلى الماجد القرم الكريم المحمد
وقال بعض العلماء: ألهمهم الله عز وجل أن سموه محمدا لما فيه من الصفات الحميدة، ليلتقي الاسم والفعل، ويتطابق الاسم والمسمى في الصورة والمعنى، كما قال عمه أبو طالب، ويروى لحسان:
وشق له من اسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد
وسنذكر أسماءه عليه الصلاة والسلام وشمائله، وهي صفاته الظاهرة، وأخلاقه الطاهرة، ودلائل نبوته، وفضائل منزلته في آخر السيرة إن شاء الله.
قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن شيبان الرملي، حدثنا أحمد بن إبراهيم الحبلى، حدثنا الهيثم بن جميل، حدثنا زهير، عن محارب بن دثار، عن عمرو بن يثربي، عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت يا رسول الله دعاني إلى الدخول في دينك أمارة لنبوتك، رأيتك في المهد تناغي القمر، وتشير إليه بإصبعك، فحيث أشرت إليه مال.
قال: « إني كنت أحدثه ويحدثني، ويلهيني عن البكاء، واسمع وجبته حين يسجد تحت العرش ».
ثم قال: تفرد به الليثي، وهو مجهول.