البداية والنهاية/الجزء الثاني/ذكر وفاته وكم كانت مدة ملكه وحياته
قال الله تبارك وتعالى: { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } [سبأ: 14] .
روى ابن جرير، وابن أبي حاتم، وغيرهما من حديث إبراهيم بن طهمان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ قال:
« كان سليمان نبي الله عليه السلام إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه، فيقول لها ما اسمك؟
فتقول: كذا.
فيقول: لأي شيء أنت؟
فإن كانت لغرس غرست، وإن كانت لدواء أنبتت، فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه.
فقال لها: ما اسمك؟
قالت: الخروب.
قال: لأي شيء أنت؟
قالت: لخراب هذا البيت.
فقال سليمان: اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، فنحتها عصا فتوكأ عليها حولا، والجن تعمل فأكلتها الأرضة، فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين، - قال وكان ابن عباس يقرؤها كذلك-.
قال: فشكرت الجن للأرضة فكانت تأتيها بالماء ».
لفظ ابن جرير.
وعطاء الخراساني في حديثه نكارة.
وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس موقوفا، وهو أشبه بالصواب، والله أعلم.
وقال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن أناس من الصحابة:
كان سليمان عليه السلام يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين، والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر، يدخل طعامه وشرابه، فأدخله في المرة التي توفي فيها، فكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه، إلا نبتت في بيت المقدس شجرة، فيأتيها فيسألها ما اسمك؟
فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا.
فيقول لها: لأي شيء نبت؟
فتقول: نبت لكذا وكذا فيأمر بها فتقطع، فإن كانت لغرس غرسها، وإن كانت نبتت دواء قالت نبت دواء لكذا وكذا، فيجعلها كذلك.
حتى نبتت شجرة يقال لها: الخروبة فسألها: ما اسمك؟
فقالت: أنا الخروبة.
فقال: ولأي شيء نبت؟
فقالت: نبت لخراب هذا المسجد.
فقال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي، وخراب بيت المقدس، فنزعها وغرسها في حائط له، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا على عصاه فمات، ولم تعلم به الشياطين وهم في ذلك يعملون له، يخافون أن يخرج فيعاقبهم.
وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب، وكان المحراب له كوى بين يديه وخلفه، فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول الست جليدا إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب، فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر.
فدخل شيطان من أولئك فمر، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان عليه السلام وهو في المحراب إلا احترق، ولم يسمع صوت سليمان، ثم رجع فلم يسمع.
ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق، ونظر إلى سليمان عليه السلام قد سقط ميتا، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته - وهي العصا بلسان الحبشة - قد أكلتها الأرضة، ولم يعلموا منذ كم مات، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها يوما وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد مات منذ سنة.
وهي قراءة ابن مسعود فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولا كاملا، فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبون، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان، ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له، وذلك قول الله عز وجل: { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } .
يقول: تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام لأتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب، ولكنا سننقل إليك الماء والطين، قال فإنهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت، قال: ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب، فهو ما يأتيها بها الشيطان تشكرا لها، وهذا فيه من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب.
وقال أبو داود في كتاب القدر: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن خيثمة قال: قال سليمان بن داود عليهما السلام لملك الموت: إذا أردت أن تقبض روحي فأعلمني، قال: ما أنا أعلم بذاك منك، إنما هي كتب يلقي إلي فيها تسمية من يموت.
وقال أصبغ بن الفرج، وعبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: قال سليمان لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني، فأتاه فقال: يا سليمان قد أمرت بك، قد بقيت لك سويعة، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير، ليس له باب، فقام يصلي فاتكأ على عصاه، قال: فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متوك على عصاه، ولم يصنع ذلك فرارا من ملك الموت.
قال: والجن تعمل بين يديه، وينظرون إليه يحسبون أنه حي، قال: فبعث الله دابة الأرض - يعني - إلى منسأته فأكلتها، حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت وثقل عليها فخر، فلما رأت الجن ذلك انفضوا وذهبوا، قال فذلك قوله: { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ }
قال أصبغ، وبلغني عن غيره: أنها مكثت سنة تأكل في منسأته حتى خرَّ. وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف وغيرهم، والله أعلم.
قال إسحاق بن بشر، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، وغيره: أن سليمان عليه السلام عاش ثنتين وخمسين سنة، وكان ملكه أربعين سنة.
وقال إسحاق: أنبأنا أبو روق، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن ملكه كان عشرين سنة، والله أعلم.
وقال ابن جرير: فكان جميع عمر سليمان بن داود عليهما السلام نيفا وخمسين سنة.
وفي سنة أربع من ملكه ابتدأ ببناء بيت المقدس فيما ذكر، ثم ملك بعده ابنه رحبعام مدة سبع عشرة سنة فيما ذكره ابن جرير، وقال: ثم تفرقت بعده مملكة بني إسرائيل.