البداية والنهاية/الجزء الثاني/فصل في منشئه ومرباه عليه الصلاة والسلام

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
البداية والنهايةالجزء الثاني المؤلف ابن كثير
فصل في منشئه ومرباه عليه الصلاة والسلام



فصل في منشئه ومرباه عليه الصلاة والسلام


في منشئه عليه الصلاة والسلام ومرباه وكفاية الله له وحياطته وكيف كان يتيما فآواه وعائلا فأغناه.

قال محمد بن إسحاق: فشب رسول الله يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد من كرامته ورسالته، حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزها وتكرما، حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة.

وكان رسول الله - فيما ذكر لي - يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته، أنه قال:

« لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب الغلمان كلنا قد تعرى، وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة، ثم قال: شدَّ عليه إزارك.

قال: فأخذته فشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي، وإزاري علي من بين أصحابي ».

وهذه القصة شبيهة بما في (الصحيح) عند بناء الكعبة، حين كان ينقل هو وعمه العباس، فإن لم تكنها فهي متقدمة عليها كالتوطئة لها والله أعلم.

قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله ينقل الحجارة، فقال العباس لرسول الله : اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة ففعل، فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء.

ثم قام فقال: « إزاري ».

فشد عليه إزاره.

أخرجاه في (الصحيحين) من حديث عبد الرزاق.

وأخرجاه أيضا: من حديث روح بن عبادة عن زكرياء بن أبي إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن جابر بنحوه.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني، حدثنا محمد بن بكير الحضرمي، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن سماك، عن عكرمة، حدثني ابن عباس، عن أبيه: أنه كان ينقل الحجارة إلى البيت، حين بنت قريش البيت.

قال: وأفردت قريش رجلين رجلين، الرجال ينقلون الحجارة، وكانت النساء تنقل الشيد، قال: فكنت أنا وابن أخي، وكنا نحمل على رقابنا، وأزرنا تحت الحجارة، فإذا غشينا الناس أئتزرنا، فبينما أنا أمشي ومحمد أمامي، قال: فخر وانبطح على وجهه، فجئت أسعى وألقيت حجري، وهو ينظر إلى السماء فقلت:، ما شأنك؟ فقام وأخذ إزاره قال:

« إني نهيت أن أمشي عريانا ».

قال: وكنت أكتمها من الناس مخافة أن يقولوا مجنون.

وروى البيهقي من حديث يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله يقول:

« ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء إلا ليلتين كلتاهما عصمني الله عز وجل فيهما، قلت: ليلة لبعض فتيان مكة - ونحن في رعاء غنم أهلها - فقلت لصاحبي: أبصر لي غنمي، حتى أدخل مكة أسمر فيها كما يسمر الفتيان، فقال: بلى. قال: فدخلت حتى جئت أول دار من دور مكة، سمعت عزفا بالغرابيل والمزامير، فقلت: ما هذا؟

قالوا: تزوج فلان فلانة.

فجلست أنظر وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟

فقلت: ما فعلت شيئا، ثم أخبرته بالذي رأيت.

ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة ففعل، فدخلت فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة، فسألت: فقيل نكح فلان فلانة فجلست أنظر، وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي.

فقال: ما فعلت؟

فقلت: لا شيء، ثم أخبرته الخبر، فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته ».

وهذا حديث غريب جدا، وقد يكون عن علي نفسه، ويكون قوله في آخره:

« حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته » مقحما، والله أعلم.

وشيخ ابن إسحاق هذا، ذكره ابن حبان في الثقات، وزعم بعضهم أنه من رجال الصحيح. قال شيخنا في تهذيبه: ولم أقف على ذلك، والله أعلم.

وقال الحافظ البيهقي: حدثني أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الحسن بن علي بن عفان العامري، حدثنا أبو أسامة، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد، عن زيد بن حارثة قال:

كان صنم من نحاس، يقال له: أساف ونائلة، يتمسح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله وطفت معه، فلما مررت مسحت به فقال رسول الله : « لا تمسه ».

قال زيد: فطفنا، فقلت في نفسي لأمسنه حتى أنظر ما يكون، فمسحته.

فقال رسول الله : « ألم تنه ».

قال البيهقي: زاد غيره عن محمد بن عمرو بإسناده، قال زيد: فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب، ما استلم صنما قط حتى أكرمه الله تعالى بالذي أكرمه، وأنزل عليه.

وتقدم قوله عليه الصلاة والسلام لبحيرى حين سأله باللات والعزى: « لا تسألني بهما فوالله ما أبغضت شيئا بغضهما »

فأما الحديث الذي قاله الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو سعد الماليني، أنبأنا أبو أحمد ابن عدي الحافظ، حدثنا إبراهيم بن أسباط، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن سفيان الثوري، عن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:

كان النبي يشهد مع المشركين مشاهدهم قال: فسمع ملكين خلفه، وأحدهما يقول لصاحبه: اذهب بنا حتى نقوم خلف رسول الله .

قال: كيف نقوم خلفه، وإنما عهده باستلام الأصنام؟

قال: فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم.

فهو حديث أنكره غير واحد من الأئمة على عثمان بن أبي شيبة، حتى قال الإمام أحمد فيه: لم يكن أخوه يتلفظ بشيء من هذا.

وقد حكى البيهقي عن بعضهم أن معناه: أنه شهد مع من يستلم الأصنام، وذلك قبل أن يوحى إليه، والله أعلم.

وقد تقدم في حديث زيد بن حارثة أنه اعتزل شهود مشاهد المشركين حتى أكرمه الله برسالته. وثبت في الحديث أنه كان لا يقف بالمزدلفة ليلة عرفة، بل كان يقف مع الناس بعرفات، كما قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن عثمان بن أبي سليمان، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه جبير قال:

لقد رأيت رسول الله وهو على دين قومه، وهو يقف على بعير له بعرفات من بين قومه، حتى يدفع معهم توفيقا من الله عز وجل له.

قال البيهقي: معنى قوله: (على دين قومه) ما كان بقي من إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في حجهم و مناكحهم و بيوعهم دون الشرك، ولم يشرك بالله قط صلوات الله وسلامه عليه دائما.

قلت: ويفهم من قوله هذا أيضا أنه كان يقف بعرفات قبل أن يوحى إليه. وهذا توفيق من الله له.

ورواه الإمام أحمد عن يعقوب، عن محمد بن إسحاق به، ولفظه: رأيت رسول الله قبل أن ينزل عليه، وإنه لواقف على بعير له مع الناس بعرفات، حتى يدفع معهم توفيقا من الله.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: أضللت بعيرا لي بعرفة، فذهبت أطلبه فإذا النبي واقف فقلت: إن هذا من الحمس ما شأنه ههنا؟ وأخرجاه من حديث سفيان بن عيينة به.

البداية والنهاية - الجزء الثاني
ذكر جماعة من أنبياء بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام | قصة حزقيل | قصة اليسع عليه السلام | فصل في حال بني إسرائيل | قصة شمويل عليه السلام | قصة داود وما كان في أيامه وذكر فضائله وشمائله ودلائل نبوته وإعلامه | ذكر كمية حياته وكيفية وفاته عليه السلام | قصة سليمان بن داود عليهما السلام | ذكر وفاته وكم كانت مدة ملكه وحياته | باب ذكر جماعة من أنبياء بني إسرائيل بعد داود وسليمان | ومنهم ارميا بن حلقيا من سبط لاوي بن يعقوب | ذكر خراب بيت المقدس | ذكر شيء من خبر دانيال عليه السلام | ذكر عمارة بيت المقدس بعد خرابها | وهذه قصة العزير | فصل:حفظ عزيرا التوراة | قصة زكريا ويحيى عليهما السلام | بيان سبب قتل يحيى عليه السلام | قصة عيسى بن مريم عبد الله ورسوله وابن أمته عليه من الله أفضل الصلاة والسلام | ميلاد العبد الرسول عيسى بن مريم العذراء البتول | باب بيان أن الله تعالى منزه عن الولد تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا | ذكر منشأ عيسى بن مريم عليهما السلام | بيان نزول الكتب الأربعة ومواقيتها | بيان شجرة طوبى ما هي؟ | ذكر خبر المائدة | فصل توجه عيسى عليه السلام نحو البحر. | ذكر رفع عيسى عليه السلام إلى السماء | ذكر صفة عيسى عليه السلام وشمائله وفضائله | فصل اختلاف أصحاب المسيح في رفع عيسى إلى السماء. | بيان بناء بيت لحم والقمامة | كتاب أخبار الماضين من بني إسرائيل وغيرهم | خبر ذي القرنين | بيان طلب ذي القرنين عين الحياة | ذكر أمتي يأجوج ومأجوج وصفاتهم | قصة أصحاب الكهف | قصة الرجلين المؤمن والكافر | قصة أصحاب الجنة | قصة أصحاب أيلة الذين اعتدوا في سبتهم | قصة أصحاب القرية | قصة لقمان | قصة أصحاب الأخدود | بيان الإذن في الرواية عن أخبار بني إسرائيل | قصة جريج أحد عباد بني إسرائيل | قصة برصيصا | قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار فانطبق عليهم | خبر الثلاثة الأعمى والأبرص والأقرع | حديث الذي استلف من صاحبه ألف دينار فأداها | قصة أخرى شبيهة بهذه القصة في الصدق والأمانة | قصة توبة قاتل التسعة وتسعين نفسا | حديث بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها | حديث كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون | حديث إنما هلكت بنو إسرائيل | حديث بينما كلب يطيف بركيه كاد يقتله العطش | حديث عذبت امرأة في هرة | حديث كان في بني إسرائيل امرأة قصيرة | حديث إن مما أدرك الناس | حديث بينما رجل وامرأة له في السلف الخالي | قصة الملكين التائبين | حديث إن رجلا كان قبلكم رغسه الله مالا | حديث كان رجل يداين الناس | حديث الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل | حديث أتشفع في حد من حدود الله؟ | حديث كلاكما محسن | حديث إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم | حديث لعن الله اليهود | حديث فأمر بلال أن يشفع الأذان | حديث لعنة الله على اليهود والنصارى | حديث لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر | حديث إنما أجلكم في أجل من خلا من قبلكم من الأمم | فصل: بعض القصص من الإسرائيليات | تحريف أهل الكتاب وتبديلهم أديانهم | ليس للجنب لمس التوراة | كتاب الجامع الأخبار الأنبياء المتقدمين | حديث إني خاتم ألف نبي | ذكر أخبار العرب | قصة سبأ | فصل إقامة ست قبائل من سبأ في اليمن. | قصة ربيعة بن نصر بن أبي حارثة بن عمرو بن عامر | قصة تبع أبي كرب مع أهل المدينة | وثوب لخنيعة ذي شناتر على ملك اليمن | خروج الملك باليمن من حمير إلى الحبشة السودان | خروج أبرهة الأشرم على أرياط واختلافهما | سبب قصد أبرهة بالفيل مكة ليخرب الكعبة | خروج الملك عن الحبشة ورجوعه إلى سيف بن ذي يزن | ما آل إليه أمر الفرس باليمن | قصة الساطرون صاحب الحضر | خبر ملوك الطوائف | ذكر بني إسماعيل وما كان من أمور الجاهلية إلى زمان البعثة | قصة خزاعة وعمرو بن يحيى وعبادة العرب للأصنام | باب جهل العرب | خبر عدنان جد عرب الحجاز | أصول أنساب عرب الحجاز إلى عدنان | قريش نسبا واشتقاقا وفضلا وهم بنو النضر بن كنانة | خبر قصي بن كلاب وارتجاعه ولاية البيت إلى قريش وانتزاعه ذلك من خزاعة | فصل: تفويض قصي أمر الوظائف لابنه عبد الدار | ذكر جمل من الأحداث في الجاهلية | ذكر جماعة مشهورين في الجاهلية | حاتم الطائي أحد أجواد الجاهلية | شيء من أخبار عبد الله بن جدعان | امرؤ القيس بن حجر الكندي صاحب إحدى المعلقات | أخبار أمية بن أبي الصلت الثقفي | بحيرا الراهب | ذكر قس بن ساعدة الإيادي | زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه | شيء من الحوادث في زمن الفترة | كعب بن لؤي | تجديد حفر زمزم | نذر عبد المطلب ذبح ولده | تزويج عبد المطلب ابنه عبد الله من آمنة بنت وهب الزهرية | كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم | باب مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم | صفة مولده الشريف عليه الصلاة والسلام | فصل فيما وقع من الآيات ليلة مولده عليه الصلاة والسلام | ذكر ارتجاس إيوان كسرى، وسقوط الشرفات | حواضنه ومراضعه عليه الصلاة والسلام | رضاعه عليه الصلاة والسلام من حليمة | فصل ذكر رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى أمه آمنة بعد رضاعة حليمة | فصل كفالة عبد المطلب للنبي عليه الصلاة والسلام | فصل في خروجه عليه الصلاة والسلام مع عمه أبي طالب إلى الشام | قصة بحيرا | فصل في منشئه ومرباه عليه الصلاة والسلام | شهوده عليه الصلاة والسلام حرب الفجار | فصل شهود رسول الله عليه الصلاة والسلام حلف المطيبين مع عمومته | تزويجه عليه الصلاة والسلام خديجة بنت خويلد | باب ما كان يشتغل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوج خديجة | فصل ذكر خديجة لورقة بن نوفل عن النبي عليه الصلاة والسلام | فصل في تجديد قريش بناء الكعبة قبل المبعث بخمس سنين | فصل تعظيم قريش للحرم تعظيما زائدا أدى إلى الابتداع | مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا وذكر شيء من البشارات بذلك | فصل طلب اليهود من الله تعالى أن يبعث لهم نبيا يحكم بينهم وبين الناس | ذكر أخبار غريبة في ذلك | قصة عمرو بن مرة الجهني | قصة سيف بن ذي يزن وبشارته بالنبي | باب في هواتف الجان