البداية والنهاية/الجزء الثاني/فصل في خروجه عليه الصلاة والسلام مع عمه أبي طالب إلى الشام
→ فصل كفالة عبد المطلب للنبي عليه الصلاة والسلام | البداية والنهاية – الجزء الثاني فصل في خروجه عليه الصلاة والسلام مع عمه أبي طالب إلى الشام |
قصة بحيرا ← |
في خروجه عليه الصلاة والسلام مع عمه أبي طالب إلى الشام وقصته مع بحيرى الراهب.
قال ابن إسحاق: ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير صب به رسول الله ﷺ - فيما يزعمون - فرق له أبو طالب وقال: والله لأخرجن به معي ولا أفارقه ولا يفارقني أبدا - كما قال - فخرج به، فلما نزل الركب بصري من أرض الشام وبها راهب يقال له: بحيرى في صومعة له، وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب فيها إليه يصير علمهم عن كتاب فيما يزعمون، يتوارثونه كابرا عن كابر.
فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى - وكانوا كثيرا ما يمرون به فلا يكلمهم ولا يعرض لهم - حتى كان ذلك العام فلما نزلوا قريبا من صومعته، صنع لهم طعاما كثيرا، وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته، يزعمون أنه رأى رسول الله ﷺ في الركب حتى أقبل وغمامة تظلله من بين القوم.
ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله ﷺ حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته، وقد أمر بطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فقال: إني صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم كبيركم، وصغيركم، وعبدكم، وحركم.
فقال له رجل منهم: والله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا فما شأنك اليوم؟
قال له بحيرى: صدقت، قد كان ما تقول ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلون منه كلكم، فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله ﷺ من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة.
فلما رآهم بحيرى لم ير الصفة التي يعرف ويجده عنده، فقال: يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي.
قالوا: يا بحيرى ما تخلف أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدثنا سنا فتخلف في رحالنا.
قال: لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم.
قال: فقال رجل من قريش مع القوم واللات والعزى إن كان للؤم بنا أن يتخلف محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا. ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم.
فلما رأى بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرى وقال له يا غلام: أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه، وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فزعموا أن رسول الله ﷺ قال له: لا تسألني باللات والعزى شيئا، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما.
فقال له بحيرى: فبالله ألا ما أخبرتني عما أسألك عنه. فقال له: سلني عما بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه، وهيئته، وأموره، فجعل رسول الله ﷺ يخبره، فوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته.
ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، موضعه من صفته التي عنده، فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال بحيرى: ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا. قال: فإنه ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به.
قال: صدقت ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده. فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.
قال ابن إسحاق: فزعموا فيما روى الناس أن زريرا وثماما ودريسما - وهم نفر من أهل الكتاب - قد كانوا رأوا من رسول الله ﷺ مثلما رأى بحيرى في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب، فأرادوه فردهم عنه بحيرى.
فذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه، حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا عنه.
وقد ذكر يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن أبا طالب قال في ذلك ثلاث قصائد. هكذا ذكر ابن إسحاق هذا السياق من غير إسناد منه. وقد ورد نحوه من طريق مسند مرفوع.
فقال الحافظ أبو بكر الخرائطي: حدثنا عباس بن محمد الدوري، حدثنا قراد أبو نوح، حدثنا يونس عن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه قال:
خرج أبو طالب إلى الشام ومعه رسول الله ﷺ في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب - يعني بحيرى - هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج ولا يلتفت إليهم، قال: فنزل وهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد النبي ﷺ فقال: هذا سيد العالمين.
وفي رواية البيهقي زيادة: هذا رسول رب العالمين، بعثه الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ من قريش: وما علمك؟ فقال إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجرة ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجدون إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعاما، فلما أتاهم به -وكان هو في رعية الإبل - فقال: أرسلوا إليه.
فأقبل وغمامة عليه تظله، فلما دنا من القوم قال: انظروا إليه عليه غمامة، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه قال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه، قال: فبينما هو قائم عليهم وهو ينشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فقتلوه. فالتفت فإذا هو بسبعة نفر من الروم قد أقبلوا.
قال: فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه ناس، وإنا أخبرنا خبره فبعثنا إلى طريقك هذه. قال لهم: فهل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: لا، إنما أخبرناه خبره إلى طريقك هذه. قال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ فقالوا: لا. قال: فبايعوه، وأقاموا معه عنده.
قال: فقال الراهب: أنشدكم الله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب فلم يزل يناشده حتى رده، وبعث معه أبو بكر بلالا، وزوده الراهب من الكعك والزيت.
هكذا رواه الترمذي عن أبي العباس الفضل بن سهل الأعرج عن قراد أبي نوح به. والحاكم، والبيهقي، وابن عساكر، من طريق أبي العباس محمد بن يعقوب الأصم، عن عباس بن محمد الدوري به.
وهكذا رواه غير واحد من الحفاظ من حديث أبي نوح عبد الرحمن بن غزوان الخزاعي مولاهم، ويقال له: الضبي، ويعرف بقراد، سكن بغداد وهو من الثقات الذين أخرج لهم البخاري، ووثقه جماعة من الأئمة والحفاظ، ولم أر أحدا جرحه، ومع هذا في حديثه هذا غرابة.
قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقال عباس الدوري: ليس في الدنيا أحد يحدث به غير قراد أبي نوح، وقد سمعه منه أحمد بن حنبل رحمه الله، ويحيى بن معين لغرابته وانفراده، حكاه البيهقي وابن عساكر.
قلت: فيه من الغرائب أنه من مرسلات الصحابة، فإن أبا موسى الأشعري إنما قدم في سنة خيبر سنة سبع من الهجرة، ولا يلتفت إلى قول ابن إسحاق في جعله له من المهاجرة إلى أرض الحبشة من مكة، وعلى كل تقدير فهو مرسل.
فإن هذه القصة كانت ولرسول الله ﷺ من العمر فيما ذكره بعضهم ثنتا عشرة سنة، ولعل أبا موسى تلقاه من النبي ﷺ فيكون أبلغ، أو من بعض كبار الصحابة رضي الله عنهم، أو كان هذا مشهورا مذكورا أخذه من طريق الاستفاضة.
الثاني: أن الغمامة لم تذكر في حديث أصح من هذا.
الثالث: أن قوله وبعث معه أبو بكر بلالا، إن كان عمره عليه الصلاة والسلام إذ ذاك ثنتي عشرة سنة، فقد كان عمر أبي بكر إذ ذاك تسع سنين أو عشرة، وعمر بلال أقل من ذلك، فأين كان أبو بكر إذ ذاك؟ ثم أين كان بلال؟ كلاهما غريب، اللهم إلا أن يقال إن هذا كان ورسول الله ﷺ كبيرا.
إما بأن يكون سفره بعد هذا، أو إن كان القول بأن عمره كان إذ ذاك ثنتي عشرة سنة غير محفوظ، فإنه إنما ذكره مقيدا بهذا الواقدي.
وحكى السهيلي عن بعضهم أنه كان عمره عليه الصلاة والسلام إذ ذاك تسع سنين، والله أعلم.
قال الواقدي: حدثني محمد بن صالح، وعبد الله بن جعفر، وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين قالوا: لما بلغ رسول الله ﷺ اثنتي عشرة سنة، خرج به عمه أبو طالب إلى الشام في العير التي خرج فيها للتجارة، ونزلوا بالراهب بحيرى، فقال لأبي طالب بالسر ما قال، وأمره أن يحتفظ به، فرده معه أبو طالب إلى مكة.
وشبَّ رسول الله ﷺ مع أبي طالب يكلؤه الله عز وجل، ويحفظه، ويحوطه من أمور الجاهلية ومعائبها، لما يريد به من كرامته حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما وأمانة، وأصدقهم حديثا، وأبعدهم من الفحش والأذى، ما رؤي ملاحيا ولا مماريا أحدا، حتى سماه قومه الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة، فكان أبو طالب يحفظه، ويحوطه، وينصره، ويعضده حتى مات.
وقال محمد بن سعد: أخبرنا خالد بن معدان، حدثنا معتمر بن سليمان سمعت أبي يحدث عن أبي مجلز أن عبد المطلب - أو أبا طالب شك خالد - قال: لما مات عبد الله عطف على محمد، فكان لا يسافر سفرا إلا كان معه فيه، وإنه توجه نحو الشام فنزل منزلا فأتاه فيه راهب، فقال: إن فيكم رجلا صالحا.
ثم قال: أين أبو هذا الغلام؟ قال: فقال ها أنا ذا وليه - أو قيل هذا وليه - قال: احتفظ بهذا الغلام ولا تذهب به إلى الشام، إن اليهود حسَّد، وإني أخشاهم عليه. قال: ما أنت تقول ذلك، ولكن الله يقوله فرده، وقال: اللهم إني أستودعك محمدا، ثم إنه مات.