البداية والنهاية/الجزء الثاني/فصل ذكر رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى أمه آمنة بعد رضاعة حليمة
قال ابن إسحاق: بعد ذكر رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى أمه آمنة، بعد رضاعة حليمة له، فكان رسول الله ﷺ مع أمه آمنة بنت وهب، وجده عبد المطلب في كلاءة الله وحفظه، ينبته الله نباتا حسنا لما يريد به من كرامته، فلما بلغ ست سنين توفيت أمه آمنة بنت وهب.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن أم رسول الله ﷺ آمنة توفيت وهو ابن ست سنين بالأبواء بين مكة والمدينة، كانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به إلى مكة.
وذكر الواقدي بأسانيده: أن النبي ﷺ خرجت به أمه إلى المدينة، ومعها أم أيمن وله ست سنين، فزارت أخواله. قالت أم أيمن: فجاءني ذات يوم رجلان من يهود المدينة، فقالا لي: أخرجي إلينا أحمد ننظر إليه، فنظرا إليه وقلباه، فقال أحدهما لصاحبه: هذا نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته، وسيكون بها من القتل والسبي أمر عظيم، فلما سمعت أمه خافت وانصرفت به، فماتت بالأبواء وهي راجعة.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا أيوب بن جابر، عن سماك، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ حتى إذا كنا بودَّان قال:
« مكانكم حتى آتيكم ».
فانطلق ثم جاءنا وهو ثقيل، فقال: « إني أتيت قبر أم محمد فسألت ربي الشفاعة - يعني لها - فمنعنيها، وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام فكلوا وأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن الأشربة في هذه الأوعية فاشربوا ما بدا لكم ».
وقد رواه البيهقي: من طريق سفيان الثوري، عن علقمة بن يزيد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال:
انتهى النبي ﷺ إلى رسم قبر، فجلس وجلس الناس حوله، فجعل يحرك رأسه كالمخاطب، ثم بكى فاستقبله عمر فقال: ما يبكيك يا رسول الله؟
قال: « هذا قبر آمنة بنت وهب، استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فأبى عليّ، وأدركتني رقتها فبكيت ».
قال فما رؤيت ساعة أكثر باكيا من تلك الساعة. تابعه محارب بن دثار، عن بريدة، عن أبيه.
ثم روى البيهقي: عن الحاكم، عن الأصم، عن بحر بن نصر، عن عبد الله بن وهب: حدثنا ابن جريج، عن أيوب بن هاني، عن مسروق بن الأجدع، عن عبد الله بن مسعود قال: خرج رسول الله ﷺ ينظر في المقابر وخرجنا معه، فأمرنا فجلسنا، ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها فناجاه طويلا، ثم ارتفع نحيب رسول الله ﷺ باكيا، فبكينا لبكاء رسول الله ﷺ.
ثم إن رسول الله ﷺ أقبل علينا، فتلقاه عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله ما الذي أبكاك لقد أبكانا وأفزعنا؟
فجاء فجلس إلينا فقال: « أفزعكم بكائي ».
قلنا: نعم.
قال: « إن القبر الذي رأيتموني أناجي قبر آمنة بنت وهب، و، إني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي، واستأذنت ربي في الاستغفار لها فلم يأذن لي فيه، ونزل علي: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } [التوبة: 113-114] فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة من الرقة فذلك الذي أبكاني » . 1
وروى مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن عبيد، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: زار النبي ﷺ قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، ثم قال: « استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور تذكركم الموت ».
وروى مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي؟
قال: « في النار ».
فلما قفا دعاه فقال: « إن أبي وأباك في النار ».
وقد روى البيهقي من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: جاء أعرابي إلى النبي ﷺ فقال: إن أبي كان يصل الرحم، وكان وكان فأين هو؟
قال: « في النار ».
قال: فكأن الأعرابي وجد من ذلك، فقال: يا رسول الله أين أبوك؟
قال: « حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار ». قال: فأسلم الأعرابي بعد ذلك.
فقال لقد كلفني رسول الله ﷺ تعبا ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار. غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا سعيد - هو ابن أبي أيوب - حدثنا ربيعة بن سيف المعافري، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو قال: بينما نحن نمشي مع رسول الله ﷺ إذ بصر بامرأة لا يظن أنه عرفها، فلما توسط الطريق وقف حتى انتهت إليه، فإذا فاطمة بنت رسول الله ﷺ فقال:
« ما أخرجك من بيتك يا فاطمة؟ ».
فقالت: أتيت أهل هذا البيت فترحمت إليهم ميتهم وعزيتهم.
قال: « لعلك بلغت معهم الكدى ».
قالت: معاذ الله أن أكون بلغتها معهم، وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر.
قال: « لو بلغتيها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك ».
ثم رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والبيهقي من حديث ربيعة بن سيف بن مانع المعافري الصنمي الإسكندري.
وقد قال البخاري: عنده مناكير.
وقال النسائي: ليس به بأس.
وقال مرة: صدوق. وفي نسخة: ضعيف.
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يخطئ كثيرا.
وقال الدارقطني: صالح.
وقال ابن يونس في (تاريخ مصر) في حديثه مناكير.
توفي قريبا من سنة عشرين ومائة، والمراد بالكدى: القبور، وقيل: النوح.
والمقصود أن عبد المطلب مات على ما كان عليه من دين الجاهلية، خلافا لفرقة الشيعة فيه، وفي ابنه أبي طالب على ما سيأتي في وفاة أبي طالب.
وقد قال البيهقي بعد روايته هذه الأحاديث في كتابه (دلائل النبوة) وكيف لا يكون أبواه وجده عليه الصلاة والسلام بهذه الصفة في الآخرة، وقد كانوا يعبدون الوثن حتى ماتوا ولم يدينوا دين عيسى بن مريم عليه السلام، وكفرهم لا يقدح في نسبه عليه الصلاة والسلام، لأن أنكحة الكفار صحيحة، ألا تراهم يسلمون مع زوجاتهم، فلا يلزمهم تجديد العقد ولا مفارقتهن، إذا كان مثله يجوز في الإسلام، وبالله التوفيق انتهى كلامه.
قلت: وأخباره ﷺ عن أبويه وجده عبد المطلب بأنهم من أهل النار، لا ينافي الحديث الوارد عنه من طرق متعددة أن أهل الفترة والأطفال والمجانين والصم يمتحنون في العرصات يوم القيامة، كما بسطناه سندا ومتنا في تفسيرنا عند قوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [الإسراء: 15] فيكون منهم من يجيب ومنهم من لا يجيب، فيكون هؤلاء من جملة من لا يجيب، فلا منافاة، ولله الحمد والمنة.
وأما الحديث الذي ذكره السهيلي، وذكر أن في إسناده مجهولين إلى ابن أبي الزناد، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ سأل ربه أن يحيي أبويه فأحياهما وآمنا به، فإنه حديث منكر جدا، وإن كان ممكنا بالنظر إلى قدرة الله تعالى، لكن الذي ثبت في الصحيح يعارضه، والله أعلم.
- ↑ غريب ولم يخرجوه