البداية والنهاية/الجزء الثاني/تزويج عبد المطلب ابنه عبد الله من آمنة بنت وهب الزهرية
قال ابن إسحاق: ثم انصرف عبد المطلب آخذا بيد ابنه عبد الله، فمر به فيما يزعمون على امرأة من بني أسد بن عبد العزى بن قصي وهي أم قنال أخت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهي عند الكعبة، فنظرت إلى وجهه فقالت: أين تذهب يا عبد الله؟ قال: مع أبي. قالت: لك مثل الإبل التي نحرت عنك وقع علي الآن.
قال: أنا مع أبي ولا أستطيع خلافه ولا فراقه، فخرج به عبد المطلب حتى أتى وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، وهو يومئذ سيد بني زهرة سنا وشرفا، فزوجه ابنته آمنة بنت وهب وهي يومئذ سيدة نساء قومها، فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها مكانه، فوقع عليها فحملت منه برسول الله ﷺ، ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت فقال لها: ما لك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت بالأمس.
قالت له: فارقك النور الذي كان معك بالأمس فليس لي بك حاجة، وكانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل - وكان قد تنصر واتبع الكتب - أنه كائن في هذه الأمة نبي فطمعت أن يكون منها، فجعله الله تعالى في أشرف عنصر، وأكرم محتد، وأطيب أصل كما قال تعالى: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام: 124] .
وسنذكر المولد مفصلا، ومما قالت أم قتال بنت نوفل من الشعر تتأسف على ما فاتها من الأمر الذي رامته، وذلك فيما رواه البيهقي من طريق يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق رحمه الله:
عليك بآل زهرة حيث كانوا * وآمنة التي حملت غلاما
ترى المهدي حين نزا عليها * ونورا قد تقدمه أماما
إلى أن قالت:
فكل الخلق يرجوه جميعا * يسود الناس مهتديا إماما
يراه الله من نور صفاه * فأذهب نوره عنا الظلاما
وذلك صنع ربك إذ حباه * إذا ما سار يوما أو أقاما
فيهدي أهل مكة بعد كفر * ويفرض بعد ذلكم الصياما
وقال أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي: حدثنا علي بن حرب، حدثنا محمد بن عمارة القرشي، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، حدثنا ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: لما انطلق عبد المطلب بابنه عبد الله ليزوجه مر به على كاهنة من أهل تبالة متهودة قد قرأت الكتب، يقال لها فاطمة بنت مر الخثعمية، فرأت نور النبوة في وجه عبد الله فقالت: يا فتى هل لك أن تقع علي الآن وأعطيك مائة من الإبل؟
فقال عبد الله:
أما الحرام فالممات دونه * والحل لا حل فأستبينه
فكيف بالأمر الذي تبغينه * يحمي الكريم عرضه ودينه
ثم مضى مع أبيه فزوجه آمنة نبت وهب بن عبد مناف بن زهرة فأقام عندها ثلاثا، ثم إن نفسه دعته إلى ما دعته إليه الكاهنة فأتاها فقالت: ما صنعت بعدي فأخبرها، فقالت: والله ما أنا بصاحبة ريبة، ولكني رأيت في وجهك نورا فأردت أن يكون في، وأبى الله إلا أن يجعله حيث أراد، ثم أنشأت فاطمة تقول:
إني رأيت مخيلة لمعت * فتلألأت بحناتم القطر
فلمأتها نورا يضيء له * ما حوله كإضاءة البدر
ورجوتها فخرا أبوء به * ما كل قادح زنده يوري
لله ما زهرية سلبت * ثوبيك ما استلبت وما تدري
وقالت فاطمة أيضا:
بني هاشم قد غادرت من أخيكم * أمينة إذ للباه يعتركان
كما غادر المصباح عند خموده * فتائل قد ميثت له بدهان
وما كل ما يحوي الفتى من تلاده * بحزم ولا ما فاته لتواني
فأجمل إذا طالبت أمرا فإنه *سيكفيكه جدان يعتلجان
سيكفيكه إما يد مقفللة * وإما يد مبسوطة ببنان
ولما حوت منه أمينة ما حوت * حوت منه فخرا ما لذلك ثان
وروى الإمام أبو نعيم الحافظ في كتاب (دلائل النبوة) من طريق يعقوب بن محمد الزهري، عن عبد العزيز بن عمران، عن عبد الله بن جعفر، عن ابن عون، عن المسور بن مخرمة، عن ابن عباس قال: إن عبد المطلب قدم اليمن في رحلة الشتاء فنزل على حبر من اليهود، قال: فقال لي رجل من أهل الديور - يعني أهل الكتاب - يا عبد المطلب: أتأذن لي أن أنظر إلى بعضك.
قال: نعم إذا لم يكن عورة.
قال: ففتح إحدى منخري فنظر فيه، ثم نظر في الآخر فقال: أشهد أن في إحدى يديك ملكا، وفي الأخرى نبوة، وإنا نجد ذلك في بني زهرة فكيف ذلك؟
قلت: لا أدري.
قال: هل لك من شاغة؟
قلت: وما الشاغة؟
قال: زوجة.
قلت: أما اليوم فلا.
قال: فإذا رجعت فتزوج فيهم.
فرجع عبد المطلب فتزوج هالة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فولدت حمزة، وصفية. ثم تزوج عبد الله بن عبد المطلب آمنة بنت وهب فولدت رسول الله ﷺ، فقالت قريش حين تزوج عبد الله بآمنة: فلج أي: فاز وغلب عبد الله على أبيه عبد المطلب.