ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثالث/الباب السابع والثلاثون (4)
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } فتوجبوا إباحة الصيام لمن وجد الرقبة والهدي؟ قلنا: لا سواء، والأصل أنه لا يلزمنا صيام فرض أصلاً إلا ما أوجبه نص، كما أن الأصل إباحة نكاحة الإماء بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وقوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } فلم نوجب الصوم فرضاً إلا حيث أوجبه النص، وأحللنا النكاح في كلتا الآيتين لأنهما معاً نص واجب وطاعته.
وأيضاً فإن حكم واجد الرقبة في كفارة الوطء، وواجد النسك من الهدي في التمتع، وواجد الغنى في الإطعام والكسوة، والرقبة في كفارة اليمين، منصوص على لزوم كل ذلك لهم، فلو صام كان عاصياً لله عز وجل تاركاً لما نص على وجوبه عليه، وليس كذلك واجد الطول وآمن العنت؛ لأنه لا نص على منعه من نكاح الإماء أصلاً، لا في نص ولا في إجماع فبين الأمرين أعظم الفرق. وقد ذهب بعضهم ــــ وهو أبو يوسف ــــ إلى المنع من صلاة الخوف على ما جاءت به الروايات، ولقوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } قال: فدل ذلك على أنه إذا لم يكن فينا لم نصل كذلك.
قال أبو محمد: فأول ما يدخل عليه أنه لا يلزمه ألا يأخذ الأئمة زكاة من أحد، لأن الله تعالى قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فإنما خوطب بذلك النبي كما خوطب بتعليمه كيفية صلاة الخوف ولا فرق فقد ظهر تناقضه. وأيضاً فإن قول النبي : «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ملزم لنا أن نصلي صلاة الخوف وغير صلاة الخوف كما رئي يصليهما، وكذلك قوله : «أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ» وقوله في كتاب الزكاة: «فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ المُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا، وَمَنْ سُئِلَ فَرْقَهَا فَلاَ يُعْطِ» موجب لأخذ الأئمة الزكاة بإرسال المصدقين، وبالله تعالى التوفيق. فصل من هذا الباب قال أبو محمد: كل لفظ ورد بنفي ثم استثني منه بلفظة «إلا» أو لفظة «حتى» فهو غير جار إلا بما علق به، مثل قول رسول الله : «لاَ تُقْبَلُ صَلاَةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» . ومثل: «لاَ صَلاَةَ إِلاَّ بِأُمِّ القُرْآنِ» و «لاَ قَطْعَ إِلاَّ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً» وهذا هو المفهوم من الخطاب بالضرورة، لأنه نفى قبول الصلاة إلى أن يتوضأ، ووجب قبولها بعد الوضوء بالآية التي فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وبالحديث: «مَنْ تَوَضَّأَ كَمَا أُمِرْ» ونفى الصلاة إلا بأم القرآن وأثبتها بأم القرآن، لأنه لا بد لكل مصلَ من أن يقرأ أم القرآن أو لا يقرؤها.
ولا سبيل إلى وجه ثالث أصلاً بوجه من الوجوه، والصلاة فرض، فلما لم يكن بد من الصلاة ولم يكن فيها بد من قراءة أم القرآن أو ترك قراءتها، وكان من لم يقرأها ليس مصليّاً، فمن قرأها فيها فهو مصل بلا شك، وفرض على كل مسلم بالغ أن يصلي كما أمر، ففرض عليه أن يقرأ أم القرآن وهذا برهان ضروري قاطع. وكذلك نفيه القطع جملة، ثم أوجبه مستثنى في ربع دينار فصاعداً إلا أن هذا لو لم يتقدم فيه نص أو إجماع لم قطعنا إلا في الذهب فقط.
ولكن لما قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } وقال رسول الله : «لَعَنَ الله السَّارِقَ يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» وأجمعت الأمة على أن حديث ربع دينار لم يقصد به إبطال القطع في غير الذهب وجب علينا أن نستعمل الآية على عمومها، فلا يخرج منها إلا سارق أقل من ربع دينار ذهب فقط. فمن سرق أقل من ربع دينار ذهب فلا قطع عليه، ومن سرق من غير الذهب شيئاً، قل أو كثر، أي شيء كان له قيمة وإن قلت، فعليه القطع بالآية والحديث الذي فيه: «لَعَنَ الله السَّارِقَ» . قال أبو محمد: ومن أبى هذا فإنما يلجأ أن يقول: المراد بقوله في ذكره ربع الدينار إنما عنى القيمة. قال أبو محمد: وهذه دعوى لا دليل عليها، وأن من ظن النبي سها عما تنبه له هذا المتعقب فقد عظم غلطه {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } وليت شعري أي شيء كان المانع لرسول الله أن يقول: لا قطع إلا في قيمة ربع الدينار فصاعداً، فيكشف عنا الإشكال، وقد أمره ربه تعالى بالبيان والذي نسبوه إلى رسول الله من أنه أراد القيمة ولم يبينها فإنما هو تلبيس لا بيان، وقد أعاذ الله تعالى من ذلك.
والحديث الذي فيه ذكر القيمة ليس فيه بيان بأن القطع من أجل القيمة، فليس لأحد أن يقول: إن التقويم كان من أجل القطع، إلا كان لآخر أن يقول: بل لتضمين السارق ما جنى في ذلك. قال أبو محمد: ثم يقنعوا إلا بأن نسبوا إلى الذي وصفه ربه تعالى بأنه رؤوف بنا رحيم، وأنه عزيز عليه ما عنتنا، إنه زادنا تلبيساً بقوله : «لَعَنَ الله السَّارِقَ يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» إنه إنما في بيضة الحديد التي يقاتل بها، وأنه عنى حبلاً مزيناً يساوي ربع دينار، هذا مع أنها دعاوى بارية عارية من الأدلة، فهي أيضاً فاسدة، لأنه لم يرد بهذا عذر السارق وكيف يريد عذره وهو يلعنه؟ وإنما أراد شدة مهانة السارق ورذالته وأنه يبيح يده فيما لا خطب له من بيضة أو حبل، وهذا الذي لا يعقل سواه. ولهم من مثل هذا، ما ينسبونه إلى مراد الله تعالى ومراد رسوله غثائث جمة يوقرون أنفسهم عن مثلها، فمن ذلك ما ينسبون إلى الآية التي في الوصية في السفر أن قول الله تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآَثِمِينَ } أي من غير قبيلتكم، وهذا من الهجنة بحيث لا يجوز أن ينسب إلى من له أدنى معرفة باللغة ومجاري الكلام، فكيف بخالق الكلام والبيان؟ لا إله إلا هو. ومن ذلك قول بعض المالكيين في قوله : للذي خطب المرأة ولا شيء معه: «التَمِسْ وَلَوْ خَاتماً مِنْ حَدِيدٍ» قال هذا القائل: إنما كلفه خاتماً مزيناً مليحاً يساوي ربع دينار.
وهذا وهم يسمعون كلام الرجل أنه لا يملك إلا إزاره فقط، وأنه لا يقدر على حيلة، فيقول له : «وَلَوْ خَاتماً مِنْ حَدِيدٍ» أفيسوغ عن عقل من له مسكة أن يظن أن رسول الله يكلف من هذه صفته خاتماً بديعاً يساوي ربع مثقال؟ وهذا مع ما فيه من الافتراء على رسول الله والكذب عليه، فقول مفضوح ظاهر العوار، لأنه لم يكن بلغ عن غلاء الحديد بالمدينة، ومنه مساحيهم ومناحلهم لعمل النخل، ودروعهم للقتال، أن يساوي خاتم منه قريباً من وزنه من الذهب، ولو نطقت بهذا مخدَّرة غريرة لأضحكت بقولها، وبالله عز وجل نستعين. قال أبو محمد: وقد اعترض بعض الحنفيين على قوله : «لاَ قَطْعَ إِلاَّ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً» فقال: هذا اللفظ لا يوجب قطعاً في الربع دينار.
قال أبو محمد: وهذه قحة ظاهرة، ومجاهرة لا يرضاها لنفسه من في وجهه حياء وهو بمنزلة من قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أن وأما قوله : «لاَ يُؤْمِنُ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» فكذلك نقول: إن الفعل المذموم منه ليس إيماناً، لأن الإيمان هو جميع الطاعات، والمعصية إذا فعلها فليس فعله إياها إيماناً، فإذا لم يفعل الإيمان فلم يؤمن، يعني في تركه ذلك الفعل خاصة، وإن كان مؤمناً بفعله للطاعات في سائر أفعاله، وقد بيَّنا هذا في كتاب «الفصل» والإيمان هو الطاعات كلها، وليس التوحيد وحده إيماناً فقط، فمعنى: «لا إيمان له» أي لا طاعة، وكذلك إذا عصى فلم يطع، وإذا لم يطع فلم يؤمن، وليس يلزمنا أنه إذا لم يؤمن في بعض أحواله أنه كفر، ولا أنه لا يؤمن في سائرها لكن إذا لم يطع فلم يؤمن في الشيء الذي عصى به وآمن فيما أطاع فيه. فإن قال: أنه يلزمكم بهذا أن تقولوا: إنه مؤمن لا مؤمن، قلنا نعم، هو مؤمن بما آمن به، غير مؤمن فيما لم يؤمن به، وهذا شيء يعلم ضرورة، ولم نقل إنه مؤمن لا مؤمن على الإطلاق، وهكذا يلزم خصومنا في مسيء ومحسن ولا فرق. فإن قلتم: من أحسن في جهة وأساء في أخرى فهو مسيء عاص فيما أساء فيه، ومحسن طائع فيما أحسن فيه، أفترى يلزمكم من هذا أن تقولوا: هو عاص طائع ومحسن مسيء على الإطلاق؟ ونحن لا نأبى هذا إذا كان من وجهين مختلفين ولا نعيب به أحداً. وأما من قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ» و: «لا صيام لمن لن يبيته من الليل» إنما معناه لا صلاة كاملة، فهذه دعوى لا دليل عليها، وأيضاً فلو صح قولهم لكان عليهم لا لهم، لأن الصلاة إذا لم تكن كاملة فهي بعض صلاة، وبعض الصلاة لا تقبل إذا لم تتم، كما أن صيام بعض يوم لا يقبل حتى يتم اليوم، فإن قال: إنما معناه أنها صلاة كاملة، إلا أن غيرها أكمل منها، فهذا تمويه، لأن الصلاة إذا تمت بجميع فرائضها فليس غيرها أكمل منها في أنها صلاة، ولكن زادت قراءته وتطويله الذي لو تركه لم يضر، ولا سميت صلاته دون ذلك ناقصة، وقد أمر تعالى بإتمام الصيام وإقامة الصلاة، فمن لم يقمها ولا أتم صيامه فلم يصل ولا صام، لأنه لم يأت بما أمر به، وإنما فعل غير ما أمر به، والناقص غير التام.
وقد قال : «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» وليس هذا مما يكتفى به في إقامة الصلاة وإتمام الصيام فقط، لكن كل ما جاءت به الشريعة زائداً أبداً ضم إلى هذا. ومن العجب العجيب أن قوماً لم يبطلوا الصلاة بما أبطلها به من عدم القراءة لأم القرآن، ومن ترك إقامة الأعضاء في الركوع والسجود، ومن فساد الصفوف، وأبطلوها بما لم يبطلها به الله تعالى ولا رسوله من وقوف الإمام في موضع أرفع من المأمومين، ومن اختلاف نية الإمام والمأموم. ثم فعلوا مثل ذلك في الصيام، فلم يبطلوه بما أبطله به الله تعالى، من عدم النية في كل ليلة، ومن الغيبة والكذب، ثم أبطلوه بما لم يبطله به الله تعالى، من الأكل ناسياً، ومن الحقنة، ومن الكحل بالعقاقير، فقلبوا الديانة كما ترى، وحرموا الحلال، وأحلوا الحرام وبالله تعالى نعوذ من الخذلان، وإياه نسأل التوفيق، لا إله إلا هو. قال أبو محمد: وكذلك نقول في حديث أبي ذر رضي الله عنه فيما يقطع الصلاة فذكر الكلب الأسود وأنه سأل النبي : ما بال الأسود من الأحمر من الأصفر من الأبيض؟ فقال : «الكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» فليس في هذا الحديث أن سائر الكلاب لا تقطع الصلاة ولا أنها تقطع، فلما ورد حديث أبي هريرة عن النبي : «تَقْطَعُ الصَّلاَةَ المَرْأَةُ وَالحِمَارُ وَالكَلْبُ» كان هذا عموماً لكل كلب، وهو قول أنس وابن عباس وغيرهما. ومن أنكر هذا علينا من الشافعيين والمالكيين فليتفكروا في قولهم في قول النبي : «وَمَنْ تَوَلَّى رَجُلاً بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ» فيلزمهم أن يبيحوا له تولي غير مواليه بإذنهم وهذا قول عطاء وغيره وهم يأبون ذلك، ومثل هذا من تناقضهم كثير.
فصل في إبطال دعواهم في دليل الخطاب
قال أبو محمد: والمفهوم من الخطاب هو أن التأكيد إذا ورد فإنه رفع للشغب وحسم لظن من ظن أن الكلام ليس على عمومه، وقد ضل قوم في قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } فقالوا: إن حملة العرش ومن غاب عن ذلك المشهد لم يسجد. قال أبو محمد: ويكفي من إبطال هذا الجنون قوله تعالى: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً } فليت شعري من أين استحلوا أن يقولوا إن أحداً من الملائكة لم يسجد مع قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ } ومثل هذا من الإقدام يسيء الظن بمعتقد قائله، إذ ليس فيه إلا رد قول الله تعالى بالميت.
وقد رام بعض الشافعيين أن يجعل قول الله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } بعد قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } من استطاع إليه على معنى أن ذلك ليس بياناً للذين ألزموا الحج، ولا على أنه موافق لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } وقال: إن هذا خطاب فائدة أخرى، موجب أن الاستطاعة من غير قوة.
قال أبو محمد: ولسنا نأبى أن تكون الاستطاعة أيضاً شيئاً غير القوة للجسم، لكننا نقول: إن الاستطاعة كل ما كان سبباً إلى تأدية الحج، من زاد وراحلة وقوة جسم، ولا نقول كما قال المالكيون: إن الاستطاعة هي قوة الجسم فقط، وإن من عدمها وقدر على زاد وراحلة فهو غير مستطيع، ولا كما قال الشافعيون: إنما الاستطاعة إنما هي الزاد والراحلة فقط، وأن قوة الجسم ليست استطاعة، بل نقول: إن قوة الجسم دون الراحلة استطاعة، وإن الزاد والراحلة وإن كان واجدهما مقعد الرِّجلين مبطل اليدين أعمى، أنه مستطيع بماله، حملاً للآية على عمومها مع شهادة قول الله تعالى وحديث النبي لصحة قولنا يعني حديث الخثعمية، وقوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ } . قال أبو محمد: وقد ذكرنا فيما خلا أن النبي إذا سئل عن شيء فأجاب، أن ذلك الجواب محمول على عموم لفظه لا على ما سئل عنه فقط، لأنه إنما بعث معلماً، فلا فرق بين ابتدائه بأمر وتعليم، وبين جوابه عما سئل، ومخبراً أيضاً عما لم يُسأل عنه.
فإن قال قائل: فاحملوا قوله : «الخِرَاجُ بِالضَّمَانِ» على عمومه فاجعلوا الخراج للغاصب بضمانه، قيل له وبالله تعالى التوفيق: الحديث في ذلك لا يقوم بمثله حجة، لأنه عن مخلد بن خفاف، وعن مسلم بن خالد الزنجي وكلاهما ليس قوياً في الحديث، وأيضاً فلو صح لمنع من حمله على الغاصب قوله من الطريق المرضية: «لَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ» . حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي، عن محمد بن إسحاق، عن ابن الأعرابي، عن سليمان بن الأشعث، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، هو الثقفي، حدثنا أيوب، هو السختياني، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن سعيد بن زيد عن رسول الله . قال أبو محمد: فخص هذا الحديث الظالمين من جملة الضامنين، فنفى الخراج للمشتري بحق، وأيضاً فقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } مانع من أكل مال بغير حق جملة، وبالله تعالى التوفيق.
وقد أمر بالبيان فلفظه كله، جواباً كان أو غير جواب، محمول على عمومه، فإن لم يعط الجواب عموماً غير ما سئل عنه لم يحمل على ما سواه حينئذ، كما أفتى الواطىء في رمضان بالكفارة، فوجب ألا يجعل على غير الواطىء لأنه ليس في لفظه ما يوجب مشاركة غير الواطىء للواطىء في ذلك، وكذلك أمره لمن أساء الصلاة، أو صلى خلف الصفوف منفرداً بالإعادة، أمر لمن فعل مثل ذلك الفعل، وحكم في ذلك الفعل متى وجد، وأمره بغسل المحرم أمر في كل ميت في حال إحرام، وذكر أو ذكر ربه تعالى المسجد الحرام حكماً في المسجد الحرام أنه لا يشركه فيه غيره، لأنه ليس ههنا مسجد حرام غيره، وليس لكل لفظ إلا مقتضاه ومفهومه فقط، وكذلك قوله : «الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» حكم في قريش لا يشاركهم فيه غيرهم، ولا يقتصر به على بعضهم دون بعض، إلا من منع منه إجماع، من امرأة أو مجنون أو من لم يبلغ، وكذلك حب الأنصار فضل في جميع الأنصار لا يعدوهم إلى غيرهم، ولا يقتصر به على بعضهم دون بعض. وكذلك ذو القربى وكذلك فضل أبي بكر لا يشركه فيه غيره، وكذلك فضل علي لا يشركه فيه غيره، لأن الحكم على الأسماء، فكل اسم مسماه لا يعدي به إلى غيره، ولا يبدل منه غيره، ولا يقتصر به على بعض مسماه دون بعض ولا في الأحوال دون بعض.
فصل في إبطال دعواهم في دليل الخطاب
قال أبو محمد: قد أوعينا، بحول خالقنا تعالى لا بحولنا، الكلام في كل ما شغبوا به، وأبنا حل شكوكهم جملة، ثم نأتي بالبراهين المبطلة لدعواهم في ذلك إن شاء الله عز وجل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. يقال لهم: أرأيتم قول الله عز وجل: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } فيه إباحة أن يقرب مال من ليس يتيماً بغير التي هي أحسن؟ فإن قالوا: لا، ما فيه إباحة لذلك تركوا قولهم الفاسد إن ذكر السائمة دليل على أن غير السائمة بخلاف السائمة، ولا فرق بين ذكره السائمة في موضع، والغنم جملة في موضع آخر، وبين قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } في مكان ثم قال في آخر: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، وكذلك لا فرق بين من قال: إن الحديث الذي فيه ذكر السائمة بيان للحديث الذي فيه ذكر الغنم جملة، وبين من قال: إن ذكر مال اليتيم في الآية بيان للأحوال المحرمة، ويعلم أن المراد بها مال اليتيم خاصة. ويقال لهم: أترون قول الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } مبيحاً للظلم في سائر الأشهر غير الحرم؟ أو ترون قوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } مانعاً من أن يكون الملك في غير يومئذ لله؟ وكذلك قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أتراه مبيحاً للبغاء إن لم يردن تحصناً.
وكذلك قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } أتراه مبيحاً لمواعدتهن في العدة جهراً وكذلك قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } أتراه مانعاً من لعن من كفر من غير بني إسرائيل، وكذلك قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أتراه مانعاً من أكل الثمار والحبوب وما ليس من صيد البحر ولا طعامه كما قال المالكيون إن قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } مانع من أكل الخيل إذ لم يذكر الأكل، وإذا عارضوا بهذه الآية الحديث الذي فيه إباحة للخيل فهلا عارضوا بالآية التي ذكرنا إباحة كل ما اختلف فيه فحرموه بها.
ويقال لهم أترون قوله : «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلهَ إِلاَّ الله، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا» مسقطاً لقتلهم إن جحدوا نبوة موسى وعيسى عليهما السلام؟. ويقال لهم: لو كان قولكم حقّاً إن الشيء إذا علق بصفة ما، دل على أن ما عداه بخلافه، لكان قول القائل: مات زيد كذباً، لأنه كان يوجب على حكمهم أن غير زيد لم يمت، وكذلك زيد كاتب، وكذلك محمد رسول الله إذا كان ذلك يوجب ألا يكون غيره رسول الله، ويلزمهم أيضاً، إذ قالوا بما ذكرنا، أن يبيحوا قتل الأولاد لغير الإملاق، لأن الله تعالى إنما قال: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } ويلزمهم في قوله تعالى: {وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } إن ذلك مبيح لأن يشترى بها ثمن كثير.