ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثالث/الباب الثامن والثلاثون (9)
حدثنا حمام، نا عباس بن أصبغ، نا محمد بن عبد الملك بن أيمن، نا محمد بن إسماعيل الترمذي، نا يوسف بن سليمان، نا حاتم بن إسماعيل، نا أسامة بن زيد، عن ابن شهاب، أخبرني عبد الرحمن بن أزهر قال: «رأيت رسول اللـه ، يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد، فأتي بسكران، فأمر من كان في أيديهم، وحثا رسول اللـه التراب عليه، ثم إن أبا بكر أتي بسكران فتوخى الذي كان يومئذ من ضربهم: فضرب أربعين، ثم ضرب عمر أربعين» .
قال ابن شهاب: ثم أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن وبرة الكلبي قال: بعثني خالد بن الوليد إلى عمر، فأتيته وعنده علي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف، متكئون معه في المسجد، فقلت لـه: إن خالد بن الوليد يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن الناس انتهكوا في الخمر، وتحاقروا العقوبة، فما ترى؟ فقال عمر: هم هؤلاء عندك، قال: فقال علي: أراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون، فأجمعوا على ذلك. فقال عمر: بلغ صاحبك ما قالوا، فضرب خالد ثمانين، وضرب عمر ثمانين. قال: وكان عمر إذا أتي بالرجل القوي المنهمك في الشراب ضربه ثمانين، وإذا أتي بالرجل الذي كان منه زلة الضعيف ضربه أربعين، وفعل ذلك عثمان أربعين وثمانين.
قال أبو محمد: فهذا كل ما ورد في ذلك قد تقصيناه وكلـه ساقط لا حجة فيه مضطرب ينقض بعضه بعضاً. أما الآثار التي صدرنا بها من طريق الثقات: أيوب ومالك والشعبي ومحارب بن دثار فمرسلات كلـها، لا يدري عمن هي في أصلـها، فسقط الاحتجاج بها.
وأما المتصلان فمن طريق يحيى بن فليح بن سليمان، وهو مجهول البتة، والحجة لا تقوم بمجهول، وأبو فليج متكلم فيه مضعف، والثاني عن أسامة بن زيد وهو ضعيف بالجملة، فسقط كل ما في هذا الباب، مع أنه لو صح هذان الأثران المتصلان لكان حجة عليهم قاطعة، لأن في رواية يحيى بن فليح أن أبا بكر فرض الحد في الخمر أربعين، فلو جاز لعمر أن يزيد على ما فرض أبو بكر، لمن بعد عمر أن يزيد ويحيل الحد الذي فرض عمر، أو يسقط منه، ولا فرق، فإن لم يكن فرض أبي بكر بحضرة جميع الصحابة حجة، وعمر وغيره بالحضرة، وفي أقل من هذا يزعمون أنه إجماع، ففرض عمر، وقد مات كثير من الصحابة قبل ذلك الفرض، أحرى ألا يكون حجة، وهذا على أقوالـهم إجازة لمخالفة. وفي هذا ما فيه، وأن من يرى ما في هذا الخبر من فعل أبي بكر بحضرة الصحابة إجماعاً، ثم يرى رسالة مكذوبة من عمر إلى الأشعري إجماع، لمنحرف عن الحق.
وأما الذي من طريق أسامة بن زيد، ففيه بيان جلي، على أن عمر لم يجعل ذلك فرضاً واجباً، وأنه إنما كان منه تعزيراً، وذلك أنه ذكر فيه إذا أتي بالمنهمك في الشراب جلده ثمانين جلدة، وإذا أتي بالذي كانت منه في ذلك زلة الضعيف جلده أربعين، وأن عثمان أيضاً جلد أربعين وثمانين، فباليقين يعلم كل ذي عقل أنه لو كانت الثمانون فرضاً لما جاز أن يحال في بعض الأوقات، فسقط احتجاجهم بالجملة، وعاد عليهم مسقطاً لقولهم، فكيف ولا يصح من ذلك كله شيء. وقد نزه الله عز وجل عليّاً رضي الله عنه عن هذا الكلام الساقط الغث، ثم سأل عمر عن من عنده عن الحد فيهما، فقال علي بن أبي طالب: الذي ليس وراءه مرمى في السقوط والهجنة، لوجوه: أحدها أنه لا يحل لمسلم أن يظن أن عمر وعليّاً يضعان شريعة في الإسلام لم يأت بها النبي ، ولكانا في ذلك كالذين أنكرا عليهم في الحديث نفسه أنهم شرعوا ما لم يأذن به الله تعالى، فمن المحال أن ينكر على عليّ من شرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى، ويشرع هو في الحين نفسه شريعة لم يأذن بها الله تعالى، وهذا ما لا يظنه بعلي ذو عقل ودين، ولا فرق بين وضع حد في الخمر، وبين إسقاط حد الزنى أو الزيادة فيه، أو إسقاط ركعة من الظهر، أو زيادة فيها، أو فرض صلاة غير الصلوات المعهودة، أو وضع حد مفترض في أكل الربا؛ وكل هذا كفر ممن أجازه. ثم المشهور عن علي: رضي الله عنه بالسند الصحيح، أنهُ جلد الوليد بن عقبة في الخمر أربعين، في أيام عثمان رضي الله عنه، فبطل يقيناً أن يكون يرى الحد ثمانين، ويجلد هو أربعين فقط، وهذا الحديث يكذب كل ما عن علي بخلافه. وأيضاً فليس كل من يشرب الخمر يسكر، وشارب الجرعة لا يسكر، والحد عليه، ولا كل من يسكر يهذي، ففي الناس كثير يغلب عليهم السكون حينئذ، نعم وذكر الله تعالى الآخرة والبكاء والدعاء والتأدب الزائد، ولا كل من يهذي يفتري، فالمبرسم يهذي ولا يفتري، ولا كل من يفتري يلزمه الحد، فقد يفتري المجنون والنائم، فلا يحدان، فوضح أن هذا الكلام المنسوب إلى علي، وقد نزهه الله تعالى عنه، من الكذب في منزله ينزه عنها كل ذي عقل فكيف مثله رحمة الله عليه. وأيضاً، فإن كان يجلد لفرية لم يفترها بعد، فهذا ظلم بإجماع الأمة، ولا خلاف بين اثنين أنه لا يحل لأحد أن يؤاخذ مسلماً أو ذمياً بما لم يفعل، ولا أن يقدم إليه عقوبة معجلة لذنب لم يفعله، عسى أن يفعله؛ أو عسى ألا يفعله، وإنما عندنا هذا من فعل ظلمة الملوك ذوي الأعياث؛ المشتهرين بأتباعهم من السخفاء المتطايبين بمثل هذا، وشبه من السخف؛ ومثل هذا الجنون لا يضيفه إلى عمر وعلي إلا جاهل بهما وبمحلهما من الفضل والعلم رضي الله عنهما.
وعهدنا بهؤلاء القوم يقولون ادرؤوا الحدود بالشبهات؛ فصاروا ههنا يقيمون الحدود وينسبون إلى عمر، وعلى إقامتها بأضعف الشبهات؛ لأن لا شبهة أحمق من شبهة من يقيم حد القذف على شارب الخمر. خوف أن يفتري؛ وهو لم يفتر بعد. وأيضاً: فإن كان حد الشارب إنما هو للفرية فأين حد الخمر؟ وإن كان للخمر فأين حد الفرية؟ ولا يحل سقوط حد لإقامة آخر. وأيضاً، فإنه إذا سكر هذى؛ وإذا هذى كفر؛ فينبغي لهم أن يضربوا عنقه، وإذا شرب سكر. وإذا سكر زنى؛ فينبغي لهم أن يرجموه ويجلدوه، وإذا شرب سكر، وإذا سكر سرق فينبغي لهم أن يقطعوا يده، وإذا شرب سكر وإذا سكر هذى، وإذا هذى خرج فأفسد أموال الناس، وأقر في ماله لغيره، فينبغي لهم أن يلزموه كل هذه الأحكام، فإن لم يفعلوا فقد أبطلوا حدهم إياه ثمانين، لأنه إذا هذى افترى، وهذا كله جنون؛ نبرأ إلى الله تعالى منه، ونقطع يقيناً بلا شك أنه كذب موضوع مفترى على علي رضي الله عنه: لم يقله قط. وكذلك الرواية التي ذكرنا أيضاً عن عبد الرحمن بن عوف فهالكة جداً، مبعد عن مثله أن يقول: افترى على القرآن اجلده ثمانين. وهذا محال ظاهراً وكيف يمكن أن يفتري أحد على الله تعالى، أو على القرآن فرية توجب ثمانين جلدة والفرية الموجبة لذلك إنما هي في القذف بالزنى فقط، وهذا ما لا سبيل إلى إضافته إلى القرآن؛ لأنه ليس إنساناً. فإن صحح أهل القياس هذه القضية، فليوجبوا ثمانين جلدة حدّاً واجباً لا يتعد على كل من افترى على أحد بكذبة، مثل أن يرميه بكفر، أو بتهمة أو بسرقة، أو كذب على القرآن، أو على الله تعالى، وهذا ما لا يقولونه، فقد أقروا بضعف هذا القياس الذي جعلوه أصلهم وبنوا عليه، أو أنهم تركوا القياس في سائر ما ذكرنا. ولا بد لهم من أحد الوجهين ضرورة، وأول من كان يلزمهم هذا فهم؛ لأنهم مفترون فيما يدعونه من القياس، وبالله تعالى التوفيق. والصحيح في هذا الباب: هو ما حدثناه عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا محمد بن المثنى، ثنا محمد بن جعفر، نا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس: أن النبي أتي برجل شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين وفعله أبو بكر. فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانين فأمر به عمر.
قال أبو محمد: فصح أنه تعزير لا حد، نعني الأربعين الزائدة. وقد حدثنا حمام، ثنا ابن مفرج، نا ابن الأعرابي، ثنا الدبري، ثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج، ثنا عطاء بن أبي رباح أنه سمع عبيد بن عمير يقول: كان الذي يشرب الخمر يضربونه بأيديهم ونعالهم ويصكونه، فكان ذلك على عهد النبي وأبي بكر وبعض إمارة عمر، حتى خشي أن يغتال الرجال فجعله أربعين سوطاً، فلما رآهم لا يتناهون جعله ستين، فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين، ثم قال: هذا أدنى الحدود. حدثنا أحمد بن عمر العذري، نا عبد الله بن حسين بن عقال، نا إبراهيم بن محمد الدينوري، ثنا ابن الجهم، نا موسى بن إسحاق، نا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو خالد، عن حجاج، عن الأسود بن هلال، عن عبد الله ــــ هو ابن مسعود ــــ أنه أتي برجل قد شرب خمراً في رمضان، فضربه ثمانين، وعزره عشرين. وقد فعل ذلك أيضاً علي بالنجاشي. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني، ثنا أبو إسحاق البلخي، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا عبد الله بن عبد الوهاب، أنا خالد بن الحارث، ثنا سفيان الثوري، ثنا أبو حصين قال: سمعت عمير بن سعد النخعي قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما كنت لأقيم حدّاً على أحد فيموت، فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديته، وذلك أن رسول الله لم يسنه هكذا رويناه من طريق الهمداني وغيره «عمير بن سعد» والصواب «سعيد» كما رويناه من طريق يزيد بن زريع.
حدثنا عبد الله بن نامي، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم، ثنا إسحاق بن راهويه، ثنا يحيى بن حماد، ثنا عبد العزيز بن المختار، ثنا عبد الله بن فيروز الديباج مولى ابن عامر، نا حصين بن المنذر أبو ساسان قال: شهدت عثمان أتي بالوليد، صلى الصبح ركعتين فقال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان: أحدهما حمران: أنه شرب الخمر، والثاني أنه قاءها. فقال عثمان: يا علي فاجلده.
فقال علي للحسن: قم فاجلده، فقال الحسن ولّ حارها من تولى قارها، فكأنه وجد عليه علي، فقال علي: يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده، فجلده، وعلي يعد، حتى بلغ أربعين، فقال أمسك، جلد النبي أربعين وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين وكل سنة. قال أبو محمد: فهذه الأحاديث مبينة ما قلنا، من أن زيادة عمر على الأربعين التي هي حد الخمر، إنما هي تعزير، فمرة زاد عشرين فقط، ومرة زاد أربعين ومرة زاد علي وابن مسعود ستين، وأخبر علي أن النبي لم يسن ذلك، يعني الزيادة على الأربعين فقط، ومن ظن غير هذا فإنه يكذب النقل الصحيح، ويصدق الواهي الضعيف الساقط. وهذا علي يجلد في أيام عثمان، بحضرة الحسن وعبد الله بن جعفر وسائر من هنالك من الصحابة وغيرهم، أربعين فقط.
وقال عمر وعبد الرحمن: بأخف الحدود، فصح يقيناً أن تلك الزيادة على الأربعين لم يوجبوها فرضاً ولا حدّاً البتة، ونعيذهم بالله تعالى من ذلك. ولو أخبار مرسلة وردت بأن النبي جلد في الخمر ثمانين، لكفر من يقول: إن حد الخمر ثمانون، ولكن من تعلق بخبر عن النبي فقد اجتهد، فإن وفق لخبر صحيح فله أجران، وإن يسر لخبر غير صحيح ــــ وهو لا يدري وهيه ــــ فهو معذور، وله أجر واحد وهو مخطىء، وإنما الشأن والبلية في اثنين هالكين: وهو من قامت عليه حجة صحيحة فتمادى، فهو ضال فاسق، أو مقلد بغير علم متجاسر في دين الله عز وجل، فهو أيضاً ضال فاسق، ونعوذ بالله من الخذلان. وأما القياس في الجد: فحدثنا حمام بن أحمد القاضي بالغرب، ثنا ابن مفرج القاضي برية، نا عبد الأعلى بن محمد بن الحسن البوسي قاضي صنعاء، نا أبو يعقوب الدبري، نا عبد الرزاق، نا سفيان الثوري، عن عيسى ــــ هو ابن أبي عيسى الخياط ــــ عن الشعبي قال: كره عمر الكلام في الجد حتى صار جدّاً فقال: إنه كان من أبي بكر أن الجد أولى من الأخ، وذكر الحديث، وفيه، فسأل عنه زيد بن ثابت فضرب له مثلاً: شجرة خرجت لها أغصان، قال: فذكر شيئاً لا أحفظه، فجعل له الثلث. قال الثوري: وبلغني أنه قال: يا أمير المؤمنين، شجرة نبتت فانشعب منها غصن، فانشعب من الغصن غصنان، فما جعل الغصن الأول أولى من الغصن الثاني، وقد خرج الغصنان من الغصن الأول؟ قال: ثم سأل علياً، فضرب له مثلاً، وادياً سال فيه سيل فجعله أخاً فيما بينه وبين ستة، فأعطاه السدس، وبلغني عنه أن علياً حين سأله عمر جعله سيلاً. قال: فانشعب منه شعبة، ثم انشعبت شعبتان، فقال: أرأيت لو أن ماء هذه الشعبة الوسطى يبس؟ أما كان يرجع إلى الشعبتين جميعاً؟ قال الشعبي: فكان زيد يجعله أخاً حتى يبلغ ثلاثة وهو ثالثهم، فإن زادوا على ذلك أعطاه الثلث، وكان علي يجعله أخاً ما بينه وبين ستة وهو سادسهم، ويعطيه السدس، فإن زادوا على ستة أعطاه السدس، وصار ما بقي بينهم. وحدثنا أيضاً أحمد بن عمر العذري، عن عبد الرحمن بن الحسن العباسي، عن أحمد بن محمد الكرجي، أنا أبو بكر أحمد بن يوسف بن خلاف النصيبي، ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، نا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب لما استشار في ميراث بين الجد والإخوة، قال زيد: وكان رأيي يومئذ، الجد أولى بميراث ابن ابنه من إخوته. فتحاورت أنا وعمر محاورة شديدة، فضرب له في ذلك مثلاً فقلت: لو أن شجرة تشعب من أصلها غصن ثم تشعَّبَ في ذلك الغصن خوطان، ذلك الغصن يجمع الخوطين دون الأصل ويغدوهما، ألا ترى يا أمير المؤمنين أن أحد الخوطين أقرب إلى أخيه منه إلى الأصل؟.
قال زيد: فأنا أعبر له وأضرب له هذه الأمثال، وهو يأبى إلا أن الجد أولى من الأخوة ويقول: والله لولا إني قضيته اليوم لبعضهم لقضيت به للجد كله. ولكن لعلي لا أخيب سهم أحد، ولعلهم أن يكونوا كلهم ذي حق، وضرب علي وابن عباس يومئذ لعمر مثلاً معناه: لو أن سيلاً سال فخلج من خليج، ثم خلج من ذلك الخليج شعبتان. قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لوجهين: أحدهما: أن كلاً من هذين الإسنادين ضعيف، في الأول عيسى بن أبي عيسى الخياط وهو ضعيف، ومع ذلك منقطع لأن الشعبي لم يدرك عمر. والثاني: فيه عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو ضعيف البتة، فهذا وجه. والثاني أنهما صحا لما كان فيهما للقياس مدخل بوجه من الوجوه، ولا بمعنى من المعاني، لأن السيل لا يستحق ميراثاً أصلاً، لا سدساً ولا ثلثاً وكذلك الغصن، ولا فرق، ومن أنوك النوك أن يظن أحد بمثل علي وزيد رضي الله عنهما. إن أحدهما قاسم الجد مع الإخوة إلى خمسة وهو سادسهم، ثم له السدس وإن كثروا، وإن الثاني قاسم بالجد الإخوة إلى اثنين هو ثالثهما. لا ينقضه من الثلث ما بقي أو السدس من رأس المال ــــ قياساً على غصنين تفرعا من غصن شجرة، وأن إدخال أصحاب القياس لهذا في القياس في القحة الظاهرة والاستخفاف البادي.
فإن قال قائل: فما وجه هذين الصاحبين لهذين المثلين في هذه المسألة؟ فالجواب، وبالله تعالى التوفيق: إن هذا باطل، بلا شك ونحن نبت أنهم رضي الله عنهم ما قالوا قط شيئاً من هذا. ولقد كانوا أرجح عقولاً، وأثقب نظراً، وأضبط لكلامهم في الدين، من أن يقولوا شيئاً من هذا الاختلاط، ولكن عيسى الخياط وعبد الرحمن بن أبي الزناد غير موثوق بهما، ولعل الشعبي سمعه ممن لا خير فيه، كالحارث الأعور وأمثاله. ثم لو قال قائل: إن وجه ذلك لو صح بين ظاهر لا خفاء به، وهو أن زيداً وعلياً رضي الله عنهما يذهبان من رأيهما، الذي لم يوجباه حتماً على أحد، إلى أن الميراث يستحق بالدنو في القرابة، فإذا كان ذلك والإخوة عندهما أقرب من الجد، فإذ هم أقرب من الجد، فلا يجوز أن يمنعوا من الميراث معه، وللجد فرض بإجماع، فلم يجز أن يمنع أيضاً من أجلهم، وخالفهما غيرهما في قولهما إن الأخ أقرب من الجد. فههنا ضربا هذين المثلين، ليريا أن قربى الأخ من الأخ المتولدين من الأب، كقربى الغصن والغصن المتفرعين من غصن واحد ومن شجرة، أو كقربى جدول من جدول تفرعا جميعاً من خليج من واد، لكان قولاً، وهذا تشبيه حسي عياني ضروري لا شك فيه، إلا أنه ليس من قبل التشبيه بقرب الولادة تستحق الميراث فالعم وابن الأخ أقرب من الجد، ولا خلاف بيننا وبين خصومنا أنهما لا يرثان معه شيئاً، وابن البنت أقرب، ابن العم، الذي يلتقي مع المرء إلى الجد العاشر وأكثر، ولا يرث معه شيئاً بإجماع الأمة.
ونحن لم ننكر الاشتباه، وإنما أنكرنا أن نوجب أحكاماً لم يأذن بها الله تعالى ولا رسوله من أجل الاشتباه في الصفات، فبطل أن يكون لهذا الخبر مدخل في القياس، أو تعلق به بوجه من الوجوه، ولكن تمويه أصحاب القياس في قياسهم وفيما يحتجون به لقياسهم، متقارب كله في الضعف والسقوط والتمويه على الضعفاء المغترين بهم. نسأل الله أن يفيء بهم إلى الهدى والتوفيق بمنِّه. وأما قول علي، إذ بلغه أن معاوية قال إذ قتل عمار فذكر له قول رسول الله : «تَقْتُلُ عَمَّاراً الفِئَةُ البَاغِيَةُ» فقال معاوية: إنما قتله من أخرجه فبلغ ذلك علياً فقال ــــ فرسول الله إذن هو قتل حمزة فلا أعجب من تجليح من أدخل هذا القياس وهل هذا إلا الائتساء بالنبي في قتل الصالحين بين يديه، ناصرين له؟ ومن استجاز أن يقول، إن هذا قياس فليقل: إن قول لا إله إلا الله قياس، لأنه إذا قيل لنا: لم تقولون ذلك؟ قلنا: لأن رسول الله قالها. وأن الاشتغال بمثل هذا لعناء، لولا الرجاء في الأجر الجزيل في بيان تمويه هؤلاء القوم الذين اختدعوا الأغمار بمثل هذه الدعاوى، وإنما هذا من علي رضي الله عنه ليري معاوية تناقض قوله إنه إنما قتل عماراً من أخرجه. وهذا مثل قول المالكي والحنفي: إن نكاح من اعتق أمته وتزوجها وجعل عتقها صداقها، نكاح فاسد، فيقول لهم أصحابنا والشافعيون: فنكاح رسول الله إذن صفية فاسد فإن أقدموا على ذلك كفروا وإن كعُّوا عنه تناقضوا، وكقول الحنفي: إن الحكم باليمين مع الشاهد مخالف للقرآن، فنقول لهم، نحن والشافعيون والمالكيون، فحكم النبي بذلك إذن مخالف للقرآن فإن قالوا بذلك كفروا وإن كعُّوا تناقضوا. وكقول المالكيين: إن صلاة الصحيح المؤتم بإمام مريض قاعدة فاسدة، فنقول لهم، نحن والشافعيون والحنفيون: فصلاة الناس خلف رسول الله في مرضه الذي مات فيه كذلك وأمره الناس إذا صلى إمامهم قاعداً أن يصلوا قعوداً فاسد كل ذلك باطل فإن قالوه كفروا وإن كعوا عنه تناقضوا، وإن من ظن أن هذا قياس لمخذول أعمى القلب. ومن هذا الباب هو قول علي: فرسول الله إذن هو قتل حمزة إذ أخرجه، وأي قياس ههنا لو عقل هؤلاء القوم وحسبنا الله ونعم الوكيل. وكذلك قصة علي رضي الله عنه يوم القضية بينه وبين أهل الشام إذ أراد أن يكتب علي «أمير المؤمنين» فأنكر ذلك عمرو، ومن حضر من أهل الشام وقالوا: اكتب اسمك واسم أبيك، ففعل. فقالت الخوارج لما محا أمير المؤمنين: قد خلعت نفسك، فاحتج عليهم بأن رسول الله فعل ذلك، إذ أنكر سهيل بن عمرو حين القضية يوم الحديبية أن يكتب في الكتاب «محمد رسول الله» فمحا رسول الله وكتب «محمد بن عبد الله» فقال علي: أترون رسول الله محا نفسه من النبوة إذ محا «رسول الله من الصحيفة؟» .
قال أبو محمد: وهذا كالذي في قصة عمار سواء بسواء، ولا مدخل للقياس ههنا، وإنما هو إئتساء بالنبي ، وكلا الأمرين محو من رق، ليس أحدهما مقيساً على الآخر، وهكذا الأمر حديثاً وقديماً وإلى يوم القيامة، وليس إذا كتبت «نار» ثم محى امحت النار من الدنيا.
وهذا من جنون الخوارج، وضعف عقولـهم، إذ كانوا أعراباً جهالاً، بل قولـهم في هذا هو القياس المحقق، لأنهم قاسوا محو الخلافة عن علي، على محو اسمه من الصحيفة وهذا قياس يشبه عقولـهم، وقد علم كل ذي مسكة عقل أنه إذا محيت سورة من لوح فإنها لا تمحى بذلك من الصدور. ومن ظن أن بين القياس وبين قول علي نسبة، فإنما هو مكابر للعيان، لأن القياس إنما هو، تحريم أو إيجاب أو إباحة في شيء غير منصوص تشبيهاً لـه بشيء منصوص، وليس في هذه القضية تحريم ولا إيجاب ولا تحليل وباللـه تعالى التوفيق. وأما قول ابن عباس للخوارج، إذ أنكروا تحكيم الحكمين يوم صفين: إن اللـه تعالى أمر بالتحكيم بين الزوجين، وفي أرنب قيمتها ربع درهم، فإن هذا الخبر حدثناه أحمد بن محمد الجسور، ثنا وهب بن مسرة، ثنا محمد بن وضاح، ثنا عبد السلام بن سعيد التنوخي، ثنا سحنون، ثنا عبد اللـه بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، عمن حدثه، عن ابن عباس قال: أرسلني عليّ إلى الحرورية لأكلمهم، فلما قالوا: لا حكم إلا للـه، قلت: أجل صدقتم، لا حكم إلا للـه، وإن اللـه قد حكم في رجل وامرأته، وحكم في قتل الصيد، فالحكم في رجل وامرأته والصيد أفضل، أو الحكم في الأمة يرجع بها ويحقن دماؤها ولمِّ شعثها؟.
قال أبو محمد: وهذا لا يصح البتة،: لأنه عمن لم يسم ولا يدري من هو؟ ثم هبك أنه أصح من كل صحيح، وأننا شهدنا ابن عباس يقول ذلك، فإنه ليس من القياس من ورد ولا صدر بل هو نص جلي. ومعاذ اللـه أن يظن ذو عقل بأن عليّاً ومعاوية ومن معهما من الصحابة حكموا في النظر للمسلمين قياساً على التحكيم في الأرنب، وبين الزوجين فما يظن هذا إلا مجنون البتة وهل تحكيم الحكمين إلا نص قول اللـه عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } فنص تعالى على أن كل تنازع في شيء من الدين، فإن الواجب فيه تحكيم كتاب اللـه عز وجل، وكلام رسوله ، والتنازع بين عليّ ومعاوية لا يجهله من له أقل معرفة في الأخبار، ففرض عليهما تحكيم القرآن كما فعلا، فأي قياس ههنا لو أنصف هؤلاء القوم عقولهم؟. فإن كان هذا عندهم قياساً فقد ضيعوه وتركوه، ويلزمهم إن تحاكم إليهم اثنان في بيع أو دين أو غير ذلك، فليبعثوا من أهل كل واحد منهما حكماً، وإلا فقد تركوا القياس بزعمهم. فإن قالوا: فهلا كفاهم حكم واحد حتى احتجوا إلى اثنين، قيل لهم، وبالله تعالى التوفيق: إن أهل العراق لم يرضوا حكماً من أهل الشام، ولا رضي أهل الشام حكماً من أهل العراق، فلذلك اضطروا إلى حكم من كلتا الطائفتين.
وأما الرواية عن علي وعمر في قتل الجماعة بالواحد فكما حدثنا حمام، نا ابن مفرج، نا ابن الأعرابي، نا الدبري، نا عبد الرزاق، نا ابن جريج، أخبرني عمرو قال: قال أخبرني حيي بن يعلى بن أمية أنه سمع أباه يعلى يقول: وذكر قصة الذي قتله امرأة أبيه وخليلها، أن عمر بن الخطاب كتب إلي: اقتلهما فلو اشترك في دمه أهل صنعاء كلهم لقتلتهم، قال ابن جريج: فأخبرني عبد الكريم وأبو بكر قالا جميعاً: إن عمر كان يشك فيها حتى قال له علي: يا أمير المؤمنين أرأيت لو أن نفراً اشتركوا في سرقة جزور، فأخذ هذا عضواً، وأخذ هذا عضواً، كنت قاطعهم؟ قال: نعم، قال: فذلك حين ليس أحدهما أصلاً للآخر، لأن النص قد ورد بقتل من قتل، وكما ورد بقطع من سرق ليس أحد النصين في القرآن بأقوى من الآخر، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يأُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وقال تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } وقال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ولم يخص تعالى من كلا الأمرين منفرد من مشارك، فلو صح لكان عليّ إنما أنكر على عمر اختلاف حكمه فقط، وتركه أحد النصين وأخذه بالآخر. وهذا هو الذي ننكره نحن سواء بسواء، فخرج هذا الخبر، لو صح، من أن يكون له في القياس مدخل أو أثر أو معنى، والحمد لله رب العالمين. ثم قد روينا عن علي: أنه كان لا يرى قتل اثنين بواحد، فلو قاله لكان قد تركه ورجع عنه، ورآه باطلاً من الحكم.