انتقل إلى المحتوى

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثالث/الباب السابع والثلاثون (2)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


ويقال لـهم: قد وجدنا اللـه تعالى يأتي في القرآن، وهو المعجز نظمه، بذكر قصة من خبر أو شريعة أو موعظة، فيذكر من كل ذلك بعض جملته في مكان، ثم يذكر تعالى ذلك الخبر بعينه، وتلك الشريعة بعينها، وتلك الموعظة بعينها في مكان آخر بأتم مما ذكرها به في غير ذلك الموضع، ولا يعترض في هذا إلا طاعن على خالقه عز وجل، لأن الذي ذكرنا موجود في أكثر من مائة موضع في القرآن، في قصة موسى ونوح وإبراهيم وآدم، وصفة الجنة والنار، وأمر الصلاة والحج والصدقة والجهاد وغير ذلك. وقد كان يكرر الكلام إذا تكلم به ثلاثاً، ولا فرق بين تكرار جميعه، وبين تكرار بعضه، فكرر ذكر الغنم السائمة في مكان، وذكر في مكان آخر الغنم جملة، كما كرر قولـه تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } .

وكما كرر تعالى ذكر موسى عليه السلام في القرآن في مائة وثلاثين موضعاً، وإبراهيم عليه السلام في أربع وستين موضعاً، ولم يذكر إدريس واليسع وإلياس وذا الكفل إلا في موضعين من القرآن فقط، وكما كرر تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أكثر من آية) في سورة واحدة إحدى وثلاثين مرة فهل لأحد أن يعترض فيقول هلا بلغها أكثر؟ أو هلا اقتصر على عدد منها أقل؟ أو ما كان يكفي مرة واحدة؟ كما قال هؤلاء المخطئون: هلا اكتفى بذكر الغنم عن ذكر السائمة؟ وقد بينا أنه لا فائدة للـه تعالى في شيء مما خلق ولا في تركه ما ترك، وأن الفائدة لنا في ذلك الأجر العظيم في الإيمان بكل ذلك كما قالـه تعالى: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } وأخبر تعالى أن الكفار قالوا: { مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً } فنحن نزداد إيماناً بما أوردنا، ولا نسأل ماذا أراد اللـه بهذا مثلاً، فليختاروا لأنفسهم أي السبيلين أحبوا، كما قال علي بن عباس: أمامك فانظر أي نهجيك تنهج طريقان شتى: مستقيم وأعوج وقد يمكن أن تكون الفائدة في تكرار السائمة والاقتصار عليها في بعض المواضع فائدة زائدة على ما ذكرنا، وهي أننا قد علمنا أن بعض الفرائض أوكد من بعض، مثل الصلاة فإنها أوكد من الصيام.

وليس ذلك بمخرج صيام رمضان على أن يكون فرضاً، ومثل القتل والشرك فإنهما أوكد في التحريم من لطمة المرء المسلم ظلماً، وليس ذلك بمخرج للطمة ظلماً من أن تكون حراماً، وإنما المعنى فيما ذكرنا من التأكيد أن هذا أعظم أجراً، وهذا أعظم وزراً، وما استواء كل ذلك في الوجوب وفي التحريم فسواء، لا تفاضل في شيء من ذلك. وكل ذلك سواء إن هذا حرام وهذا حرام، وإن هذا واجب وهذا واجب، فيكون على هذا أجر المزكي غير للسائمة أعظم من أجر المزكي غير السائمة، وكل مؤد فرضاً ومأجور على ما أدى ويكون إثم مانع زكاة السائمة أعظم من إثم مانع زكاة غير السائمة، وكلاهما مانع فرض، ومحتقب إثم، فلتخصيص السائمة بالذكر في بعض المواضع على هذا فائدة عظيمة، كما أن الزاني بامرأة جاره أو امرأة المجاهد والحريمة أعظم إثماً من الزاني بامرأة أجنبية، أو امرأة أجنبي ذمي أو حربي، وكل زانٍ وآتٍ كبيرة وآثم إلا أن الإثم يتفاضل.

ومثل هذا قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } وكقوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ } فهل في هذا إباحة قهر غير اليتيم ونهر غير المسكين، أو المنع من الإحسان إلى غير الآباء من ذوي القربى والجيران وسائر المسلمين؟ ولكنه لما كان قهر اليتيم ونهر المسكين وترك الإحسان إلى الوالدين أعظم وزراً وأعظم أجراً، خصوا بالذكر في بعض المواضع؛ وعموا مع سائر الناس في مواضع أخر، فلعل السائمة مع غير السائمة كذلك، وكذلك ذكره تعالى الصلوات إذ يقول عز من قائل: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } فيسأل هؤلاء المقدمون كما سألوا: فيقال لهم: المعنى في تخصيص النبي السائمة بالذكر في بعض الأحاديث كالمعنى في تخصيصه تعالى الصلاة الوسطى بالمحافظة دون الصلوات في لفظ مفرد، وقد عمهما تعالى في سائر الصلوات كما عم رسوله السائمة مع غير السائمة في حديث ابن عمر فبطل بما ذكرنا اعتراضهم بطلب الفائدة في تكرار السائمة، وبأن ذكر الغنم جملة كان يكفي، ولاح أن سؤالهم سؤال إلحاد وشر. وبالله تعالى التوفيق.

وقد يكفي من هذا قوله تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } وما روي عن رسول الله : «هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ» ولا تنطع أعظم من قول قائل: لم قال الله تعالى أمراً كذا ولم يقل أمراً كذا؟ وبالله تعالى نستعين. وقالوا إن قول رسول الله : «إِنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» دليل على أن ولاء لمن لم يعتق. قال أبو محمد: وليس كما ظنوا، ولكن لما كان الأصل أن لا ولاء لأحد على أحد بقوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } . وبقوله تعالى: {بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَـذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } وبقوله : «كُلُّ المُسْلِمُ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ» ، ثم جاء الحديث المذكور وجب به الولاء لمن أعتق، وبقي من لم يعتق على ما كان عليه مذ خلق من أن لا ولاء لأحد عليه إلا من أوجب عليه الإجماع، المنقول المتيقن إلى حكم النبي ، ولولا، مثل من تناسل من المعتق من أصلاب أبنائه الذكور من كل من يرجع إليه نسبه، ممن حمل به بعد الولاء المنعقد على الذي ينتسب إليه، كأسامة بن زيد وغيره، ولولا قوله : «إِنَّمَا الوَلاَءَ لِمَنْ أَعْتَقَ» ما وجب المعتق ولاء على المعتق، لأن ذلك إيجاب شريعة وشرط، والشرائع لا تكون إلا بإذن من الله تعالى على لسان رسوله «وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ الله تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ» ووجدنا هذا الحديث الذي احتجوا به لم يمنع من وجوب الولاء لغير من أعتق، مثل ما ذكرنا من وجوب ولاء ولد المعتق، ولم يعتقه أحد، ولا ولدته أمه، ولا حمل به إلا وهو حر، لولد معتق أبيه وهو لم يعتقه قط، ولا ملكه قط، ولا أعتق أباه ولا جده ولا ملكهما قط، ولا أعتقه أبو هذا الذي ولاؤه الآن، ولا جده ولا ملكاه قط، فبطل ما ادعوه من القول بدليل الخطاب. ومن أعجب الأشياء: أن هؤلاء المحتجين بهذا الحديث في تصحيح الحكم بدليل الخطاب هم أشد الناس نقضاً لأصولهم في ذلك، وهدماً لما احتجوا به لأنهم قد حكموا بالولاء لغير المعتق على من لم يعتق قط بلا دليل، لا من نص ولا من إجماع لكن تحكماً فاسداً، فأوجبت طوائف منهم أن الولاء يجزىء العم والجد إذا أعتقا.

وأوجبوه ينتقل كانتقال الكرة في اللعب بها، وقد أكذبهم رسول الله بقوله: «الوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» والنسب لا ينتقل، فوجب ضرورة أن الولاء كالنسب لا ينتقل. وهم يقولون في العبد ينكح معتقة فتلد له: إن ولاء ولدها لسادتها. قالوا: أعتق أبوهم يوماً ما عاد ولاء والدها إلى معتق أبيهم. قال أبو محمد: أفيكون أعجب من هذا بينما المرء من بني تميم، لكون أمه مولاة منهم، ويقول رسول الله الذي حملوه على غير وجهه: «مَوْلَى القَوْمِ مِنْهُمْ» . إذ صار بلا واسطة من الأزد بعتق رجل من الأزد لأبيه؟ أفيكون في خلاف رسول الله المبلع عن ربه تعالى أكثر من هذا؟ أو يكون في إكذابهم أنفسهم أن قالوا، قوله : «إِنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» دليل على أن لا ولاء لمن لم يعتق؟ وهذا الذي حروا ولاءه مرة من اليمانية إلى المضرية، ومرة من الفرس إلى قريش، لم يعتقه أحد ولا ملك قط، ولا حملته أمه إلا وهو حر. وأوجبوا الولاء لموالي الأم على ولدها من حربي، وعلى ولد الملاعنة بلا نص ولا إجماع، فأين احتجاجهم بدليل الخطاب؟ ولكن غرض القوم إقامة الشغب في المسألة التي هم فيها فقط، ولا يبالون أن ينقضوا على أنفسهم ألف مسألة بما يريدون به تأييد هذه، حتى إذا صاروا إلى غيرها لم يبالوا بإبطال ما صححوا به هذه التي انقضى الكلام فيها في نصرهم للتي صاروا إليها، فهم دأباً ينقضون ما أبرموا، ويصححون ما أبطلوا، ويبطلون ما صححوا، فصح أن أقوالهم من عند غير الله عز وجل، لكثرة ما فيها من الاختلاف والتفاسد، وإنما هم قوم توغلوا فانتسبوا في التقليد لأقوال فاسدة يهدم بعضها بعضاً، فألفوها ألفة كل ذي دين لدين أبيه، ودين من نشأ معه، فلا يبالون بما قالوا في إرادتهم نصر ما لم ينصره الله تعالى من تلك المذاهب الفاسدة. وقالوا: قوله : «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» دليل على أن لا عمل إلا بنية وأن: ما عمل بغير نية باطل. قال أبو محمد: ليس ذلك كما ظنوا؛ ولكن لما قال الله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } وقال تعالى: {وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ } كان قد بطل كل أمر إلا تأدية ما أمرنا به من العبادة بإخلاص القصد بذلك إلى الله تعالى فبهذه الآية بطل أن يجزى عمل بغير نية إلا ما أوجبه نص أو إجماع، فكان مستثنى من هذه الجملة، مثل ما ثبت بالإجماع المنقول إلى رسول الله من جواز لحاق دعاء الحي للميت بالميت، ومثل لحاق صيام الولي عن الميت بالميت وصدقته عنه، والحج عنه، وتأدية الديون إلى الله تعالى وللناس عنه، وإن لم يأمر هو بذلك ولا نواه، ولحاق الأجر من كل عامل بمن علمه ذلك العمل أو سنه، ولحاق الوزر من كل عامل بمن علمه ذلك العمل أو سنه.

وإنما وجب بالحديث الذي ذكروا أن من عمل شيئاً بنية ما فله ما نوى، فإن نوى به الله تعالى وتأدية ما أمر به من كيفية ذلك العمل فله ذلك، وقد أدى ما لزمه، وإن نوى غير ذلك فله أيضاً ما نوى، فإن لم ينو شيئاً فلا ذكر له في هذا الحديث، لكن حكمه في سائر ما ذكرنا قبل.

والعجب ممن احتج بهذا الحديث من أصحاب القياس وهم أترك الناس له فأما الحنفيون فينبغي لهم التقنع عند ذكر هذا الحديث والاحتجاج به، فإنهم يجيزون تأدية صيام الفرض بلا نية أصلاً بل بنية الفطر، وتأدية فرض الوضوء بغير نية الوضوء لكن بنية التبرد. وقالوا كلهم وأصحاب الشافعي وأصحاب مالك: إن كثيراً من فرائض الحج التي يبطل الحج بتركها تجزي بغير نية. فأما الحنفيون فقالوا: من أحرم وحج ينوي التطوع أجزأه ذلك عن حج الإسلام. وقال الشافعيون: أعمال الحج كلها، حاشا الإحرام، تجزيه بلا نية أداء الفرض. وقال المالكيون: الوقوف بعرفة يجزي بلا نية، وأن الصيام لآخر يوم من رمضان يجزي بنية كانت قبله بنحو ثلاثين يوماً، والصلاة تجزيه بلا نية مقترنة بها. وقال بعضهم: غسل الجمعة يجزي من غسل الجنابة. وقال بعضهم: دخول الحمام بلا نية يجزي من غسل الجنابة. فأبطلوا احتجاجهم بالحديث المذكور، وأكذبوا قولهم في دليل الخطاب؛ وأوجبوا جواز أعمال بلا نية حيث أبطلها الله تعالى ورسوله ، وأبطلوا صيام الولي عن الولي والحج عن الميت وأداء ديون الله تعالى عنه وقد أوجبها الله تعالى. واحتجوا أن لا عمل إلا بنية العامل، ولا نية للمعمول عنه في ذلك فاستدركوا على ربهم ما لم يستدركوه على أنفسهم، وهذا غاية الخذلان.

واحتجوا بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعن يعلى بن منبه رحمة الله عليه إذ سأل عن قصر الصلاة وقد ارتفع الخوف، قالوا: فلما جاء القصر في القرآن في حال الخوف دل ذلك على أن الأمر بخلاف الخوف. قال أبو محمد: وقد غلط في ذلك من أكابر أصحابنا أبو الحسن، عن عبد الله بن أحمد بن المغلس: فظن مثل ما ذكرنا، وهذا لا حجة لهم فيه، لأن الأصل في الصلوات كلها على ظاهر الأمر الإتمام، وقد نص رسول الله على عدد ركعات كل صلاة، ثم جاء النص بعد ذلك في القصر في حال السفر مع الخوف، فكان ذلك مستثنى من سائر الأحوال، فلما رأى عمر القصر متمادياً مع ارتفاع الخوف، أنكر خروج الحال التي لم تستثن في علمه عن حكم النص الوارد في إتمام الصلاة في سائر الأحوال غير الخوف، فأخبر أن حال السفر فقط مستثناة أيضاً من إيجاب الإتمام، وإن لم يكن هنالك خوف، فكان هذا نصاً زائداً في استثناء حال السفر مع الأمن، فإنما أنكر ذلك من جهل أن هذه الصدقة الواجب قبولها قد نزل بها الشرع، وهو عمر رضي الله عنه، ولسنا ننكر مغيب الواحد من الصحابة أو الأكثر منهم عن نزول حكم قد علمه غيره منهم.

وأما الحديث المروي عن عائشة رضي الله عنها «فرضت الصلاة» فلا حجة فيه علينا، بل هو حجة لنا، وقد يظن عمر إذا نقلت صلاة الحضر إلى أربع ركعات أن صلاة السفر أيضاً منقولة، والغلط غير مرفوع عن أحد بعد رسول الله . قال أبو محمد: وتعلل بعض من غلط في هذا الباب من أصحابنا بأن قالوا: قوله : «اسْتَنْشِقِ اثْنَتَيْنِ بَالِغَتَيْنِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِماً» في حديث لقيط بن صبرة الأيادي، في ذلك مانع من مبالغة الصائم في الاستنشاق. قال أبو محمد: وليس ذلك كما ظنوا، ولكن حديث لقيط فيه إيجاب المبالغة على غير الصائم فرضاً لا بد له من ذلك، وفيه استثناء الصائم من إيجاب ذلك عليه، فسقط عن الصائم فرض المبالغة وليس في سقوط الفرض ما وجب المنع منها، فليس في الحديث المذكور منع الصائم منها، لكنه له مباحة لا واجبة ولا محظورة لأن الإباحة واسطة بين الحظر والإيجاب. فإذا سقط الإيجاب لم ينتقل إلى الحظر إلا بنهي وارد، لكن ينتقل إلى أقرب المراتب إليه وهي الإباحة أو الندب، وإذا سقط التحريم ولم ينتقل إلى الوجوب إلا بأمر وارد، لكنه ينتقل إلى أقرب المراتب إليه وهي الإباحة أو الكراهة وقد بينا هذا في باب النسخ من هذا الكتاب.

قال أبو محمد: وقال بعض من غلط في هذا الفصل أيضاً من أصحابنا: إن أمر رسول الله في حديث صفوان بن عسال المرادي ألا ينزع المسافرون الخفاف ثلاثاً، إيجاب لنزعها بعد الثلاث، وإيجاب على المقيم نزعها بعد يوم وليلة، فأوجبوا من ذلك أن يصلي الماسح بعد انقضاء الأمدين المذكورين، حتى ينزع خفيه، ولم يوجبوا عليه بعد ذلك أن يجدد غسل رجليه، ولا إعادة وضوئه، وأنكر ذلك أبو بكر بن داود رحمهما الله وأصاب في إنكاره. قال أبو محمد: وليس في الحديث المذكور إيجاب نزع الخفين ولا المنع من نزعهما وإنما فيه المنع من إحداث مسح زائد فقط، وهو الخيار بعد انقضاء أحد الأمدين بين أن ينزع ويصلي دون تجديد وضوء ولا غسل رجليه، وبين ألا ينزعهما ويصلي بالمسح المتقدم ما لم ينتقض وضوءه، فإذا انتقض وضوءه فقد حرم عليه المسح، وإذا حرم عليه المسح لزمه فرض الوضوء، فلا بد حينئذ من غسل الرجلين، وإذا لم يكن بد من غسل الرجلين فلا سبيل إلى ذلك إلا بإزالة الخفين فحينئذ لزم نزع الخفين، لا قبل أن يحدث.

وبلغنا عن بعض أصحابنا أنه يقول: إن قول رسول الله : «المَاءُ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» دليل على أن ما عداه ينجس، فيقال له وبالله تعالى التوفيق: هذا ليس بشيء لوجوه: أولها أنها دعوة مجردة بلا دليل، ويقال: ما الفرق بينك وبين من قال: بل ما هو إلا دليل على أنه مثل الماء في أنه لا ينجس؟ فإن قال: هذا قياس والقياس باطل، قيل له: هل كان القياس باطلاً إلا لأنه حكم بغير نص؟ فلا بد له من: نعم، فنقول له: وهكذا حكمك لما عدا الماء أنه بخلاف الماء، حكم بغير نص ولا فرق، ومنها أننا نقول به: أرأيت قوله : «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلاً بِمِثْلٍ» ، أفيه منع من بيع ما عدا الطعام مثل بمثل؟ أرأيت قوله : «نِعْمَ الإِدَامُ الخَلُّ» أفيه حكم على أن ما عداه بئس الإدام؟ أرأيت قوله : «إِذَا بَلَغَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحمل الخَبَث» أو «لم ينجس» ــــ على أنه أصح من حديث بئر بضاعة ــــ أيصح منه أن ما دون القلتين ينجس؟ ومثل هذا كثير لو تتبع، فلو قال: قد جاء فيما عدا ما ذكر في هذه الأحاديث نصوص صح بها عندنا حكمها، قلنا له: وقد جاء فيما عدا الماء نص على إباحته بقوله تعالى: فــــ {يأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } فلا سبيل إلى تحريم شيء من ذلك إلا بنص وارد فيه، ولا إلى تنجيس شيء منه من أجل نجاسة حلته إلا بنص وارد فيه، ولا فرق، وبالله تعالى التوفيق. قال أبو محمد: واحتجوا بأن الناس مجمعون على أن من قال لآخر: لا تعط غلامي درهماً حتى يعمل شغلاً كذا، قالوا: فهذا يقتضي أنه إذا عمله وجب أن يعطي الدرهم. قال أبو محمد: وهذا خطأ، وإن أعطاه المقول له هذا القول الدرهم بعد انقضاء ذلك الشغل، وكان ذلك الدرهم من مال السيد:، فعليه ضمانه إن تلف الدرهم ولم يوجد المدفوع إليه، ودليل ذلك إجماع الناس على أن المقول له ذلك يسأل الآمر فيقول له: إذا عمل ذلك الشغل أعطيه الدرهم أم لا؟ فلو اقتضى هذا الكلام إعطاءه الدرهم بعمل الشغل المذكور ما كان للاستفهام المأمور به معنى، وأيضاً فإن الأمة مجمعة على أن الآمر لو قال للمأمور عند استفهامه إياه: لا تعطه إياه حتى أجد لك ما تعمل فيه، أن ذلك حسن في الخطاب ولازم للمأمور، وإنما في الكلام المذكور المنع من إعطاء الدرهم قبل عمل الشغل، وليس فيه بعد عمل الشغل لا إعطاؤه ولا منعه، وذلك موقوف على أمر له حادث إما بمنع وإما بإعطاء.

فإن قالوا: فقول الله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } أليس إعطاؤهم الجزية مانعاً من قتلهم؟. قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: إنما في الآية الأمر بقتلهم إلى وقت إعطاء الجزية، ثم ليس فيها إلا المنع من قلتهم بعد إعطائها، ولا إيجاب قتلهم، ولكن لما قال رسول الله : «وَلاَ يُقْتَلُ ذَا عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» وقال : لمن كان يبعث من قواده: «فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُم الجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ» .

هذا نص كلامه لكل من يبعثه إلى كتابي حربي، حدثناه عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن هاشم، قال أبو بكر: ثنا وكيع بن الجراح وقال إسحاق: ثنا يحيى بن آدم، وقال عبد الله، ثنا عبد الرحمن بن مهدي كلهم قالوا: ثنا سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، عن النبي . قال أبو محمد: فلما قال ذلك مبيناً أن دماءهم وأموالهم وأذاهم بالظلم، وسبي عيالهم وأطفالهم ــــ، حرام بإعطائهم الجزية، بنص قوله : «كُفَّ عَنْهُمْ» فالكف يقتضي كل هذا، وكثير ممن يحتج علينا بما ذكرنا قد نسوا أنفسهم، فقالوا في نهيه عن بيع الزرع حتى يشتد: إن ذلك غير مبيح لبيعه بعد اشتداده، ولكن حتى يضفى من تبنه ويداس. قال أبو محمد: وبيع الزرع عندنا بعد اشتداده مباح، وإن لم يصف ولا ديس، لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } فلا يخرج من هذه الجملة إلا ما جاء نص أو إجماع بتحريمه، ولهذه الجملة أجزنا بيع منخل بعد أن تزهى، والعنب بعد أن يسود، والثمر بعد أن يبدو فيه الطيب، وليس لأن هذه النواهي توجب إباحة البيع بعد حلول الصفات المذكورة فيها.

وكذلك قلنا في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } ، وإنما حرم الأكل من حين يتبين طلوع الفجر بالأمر المتقدم لهذا النسخ، فإن الأمر قد كان ورد بتحريم الأكل والشرب والوطء مذ ينام المرء إلى غروب الشمس من غد، ثم نسخ ذلك وأبيح لنا الوطء، والأكل والشرب إلى حين يتبين طلوع الفجر الثاني، فبقي ما بعده على الأصل المتقدم في التحريم، وبنصوص وردت في ذكر تحريم كل ذلك بطلوع الفجر الثاني، وبقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } ولو لم يكن ههنا إلا قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } ما كان فيه إيجاب الصيام ولا المنع منه.

وكذلك قوله : «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلهَ إِلاَّ الله» إنما حرم القتال بقوله : «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاؤَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا» وهكذا سائر النصوص التي وردت على هذا الحسب، وبالله تعالى التوفيق. وذكروا في ذلك قوله : «مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمْرَتُهَا لِلبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهَا المُبْتَاعُ» أو كما قال . قالوا: فدل ذلك على أن التي لم تؤبر بخلاف التي أبرت وأنها للمبتاع.

قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لأننا لم نقض من هذا الحديث أن الثمرة التي تؤبر للمبتاع، لكن لما كانت التي تؤبر غائبة لم تظهر بعد كانت معدومة، وكانت بعض ما في عمق النخلة المبيعة كانت داخلة في المبيع لأنها بعضه. ثم نقول لهم: وبعد أن بينا بطلان ظنكم فنحن نريكم إن شاء الله تعالى تناقضكم في هذا المكان فنقول: إن كنتم إذا قضيتم بأن المسكوت عنه بخلاف المذكور، فما قولكم لمن قال لكم: بل ما المسكوت عنه ههنا إلا في حكم المذكور قياساً عليه؟ فتكون الثمرة التي لم تؤبر للبائع أيضاً قياساً على التي أبرت؟ وقد قال أبو حنيفة: لا فرق بين الإبار وعدمه، فنسي قوله، لم يذكر السائمة إلا لأنها بخلاف غير السائمة، ولولا ذلك لما كان في زكاة السائمة فائدة، وجعل ههنا ذكره الإبار لا لفائدة، وجعله كترك الإبار فبان اضطراب هؤلاء القوم جملة وبالله تعالى التوفيق. واحتج الطحاوي في إسقاط الزكاة عما أصيب في أرض الخراج بقول رسول الله : «منعَتِ العِرَاقُ قفيزهَا وَدِرْهَمهَا» الحديث قال: فلو كان في أرض الخراج شيء غير الخراج لذكره . قال أبو محمد: فيقال للطحاوي: أرأيت إن قال لك قائل: إن قوله : «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ العُشْرُ» دليل على أن لا خراج على شيء من الأرض لأنه لو كان فيها خراج لذكره في هذا الحديث فإن قال: قد ذكر الخراج في الحديث الذي قدمنا آنفاً، قيل له: وقد ذكر العشر ونصف العشر في الحديث الذي ذكر آنفاً. فإن قال قائل: ما تقولون في خطاب ورد من الله تعالى أو رسوله معلقاً بشرط؟ قيل له: ينظر، أتقدمت ذلك الخطاب جملة حاظرة لما أباح ذلك الخطاب، أو مبيحة لما حظر، أم لم يتقدمه جملة بشيء من ذلك، لكن تقدمت جملة تعمه وتعم معه غيره موافقة لما في ذلك النص. ولا بد من أحد هذه الوجوه، لأن الجملة التي نص عليها بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } مبيحة عامة لا يشذ عنها إلا ما نص عليه، وفصل بالتحريم، فلا سبيل إلى خروج شيء من النصوص عن هذه الجملة. ولا بد لكل نص ورد من أن يكون مذكوراً فيه بعض ما فيها بموافقة أو يكون مستثنى منها بتحريم، فإن وجدنا النص الوارد، وقد تقدمته جملة مخالفة له، استثنيناه منها، وتركنا سائر تلك الجملة على حالها، ولم نحظر إلا ما حظر ذلك النص فقط. ولم نبح إلا ما أباح فقط، ولم نتعده، وإن وجدناه موافقاً لجملة تقدمته، أبحنا ما أباح ذلك الخطاب، وأبحنا أيضاً ما أباحته الجملة الشاملة له ولغيره معه، أو حظرنا ما حظره لك الخطاب، وحظرنا أيضاً ما حظرته الجملة الشاملة له ولغيره معه، ولم نسقط من أجل ذلك الشرط شيئاً مما هو مذكور في الجملة الشاملة له ولغيره، وهذا هو مفهوم الكلام في الطبائع في كل لغة من لغات بني آدم ــــ عربهم وعجمهم ــــ ولا يجوز غير ذلك.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثالث

في دليل الخطاب (1) | في دليل الخطاب (2) | في دليل الخطاب (3) | في دليل الخطاب (4) | في دليل الخطاب (5) | في إبطال القياس في أحكام الدين(1) | في إبطال القياس في أحكام الدين(2) | في إبطال القياس في أحكام الدين(3) | في إبطال القياس في أحكام الدين(4) | في إبطال القياس في أحكام الدين(5) | في إبطال القياس في أحكام الدين(6) | في إبطال القياس في أحكام الدين(7) | في إبطال القياس في أحكام الدين(8) | في إبطال القياس في أحكام الدين(9) | في إبطال القياس في أحكام الدين(10) | في إبطال القياس في أحكام الدين(11) | في إبطال القياس في أحكام الدين(12) | في إبطال القياس في أحكام الدين(13) | في إبطال القياس في أحكام الدين(14) | في إبطال القياس في أحكام الدين(15) | في إبطال القياس في أحكام الدين(16) | في إبطال القياس في أحكام الدين(17)