ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثالث/الباب الثامن والثلاثون (1)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


قال أبو محمد: علي بن أحمد رضوان الله عليه: ذهب طوائف من المتأخرين من أهل الفتيا إلى القول بالقياس في الدين، وذكروا أن مسائل ونوازل ترد لا ذكر لها في نص كلام الله تعالى، ولا في سنة رسول الله ولا أجمع الناس عليها قالوا: فننظر إلى ما يشبهها مما ذكر في القرآن، أو في سنة رسول الله ، فنحكم فيما لا نص فيه ولا إجماع، بمثل الحكم الوارد في نظيره في النص والإجماع، فالقياس عندهم هو أن يحكم لما لا نص فيه ولا إجماع، بمثل الحكم فيما فيه نص أو إجماع، لاتفاقهما في العلة التي هي علامة الحكم، هذا قول جميع حذاق أصحاب القياس وهم جميع أصحاب الشافعي وطوائف من الحنفيين والمالكيين، وقالت طوائف من الحنفيين والمالكيين: لاتفاقهما في نوع من الشبه فقط. وقال بعض من لا يدري، ما القياس ولا الفقه من المتأخرين، وهو محمد بن الطيب الباقلاني: القياس هو حمل أحد المعلومين على الآخر في إيجاب بعض الأحكام لهما أو إسقاطه عنهما من جمع بينهما بأمر أو بوجه جمع بينهما فيه. قال علي: وهذا كلام لا يعقل، وهو أشبه بكلام المرورين منه بكلام غيرهم، وكله خبط وتخليط، ثم لو تحصل منه شيء، وهو لا يتحصل، لكان دعوى كاذبة بلا برهان، وأطرف شيء قوله: «أحد المعلومين» فليت شعري، ما هذان المعلومان ومن علمهما؟ ثم ذكر «إيجاب بعض الأحكام أو إسقاطه» وهما ضدان، ثم قال: «من جمع بينهما بأمر أو بوجه جمع بينهما فيه» وهذه لكنه وعي وتخليط ونسأل الله السلامة، وإنما أوردناه ليقف على تخليطه كل من له أدنى فهم، ثم نعود إلى ما يتحصل منه معنى يفهم، وإن كان باطلاً من أقوال سائر أهل القياس وبالله تعالى التوفيق. وقال أبو حنيفة: الخبر المرسل والضعيف عن رسول الله أولى من القياس، ولا يحل القياس مع وجوده قال: والرواية عن الصاحب الذي لا يعرف له مخالف منهم، أولى القياس: قال: ولا يجوز الحكم بالقياس في الكفارات، ولا في الحدود، ولا في المقدرات. وقال الشافعي: لا يجوز القياس مع نص قرآن، أو خبر صحيح مسند فقط، وأما عند عدمهما فإن القياس واجب في كل حكم، وقال أبو الفرج القاضي، وأبو بكر الأبهري المالكيان: القياس أولى من خبر الواحد المسند والمرسل، وما نعلم هذا القول عن مسلم، يرى قبول خبر الواحد قبلهما.

وقسموا القياس بثلاثة أقسام: فقسم هو قسم الأشبه والأولى، وهو إن قالوا: إذا حكم في أمر كذا بحكم كذا، فأمر كذا أولى بذلك الحكم، وذلك نحو قول أصحاب الشافعي: إذا كانت الكفارة واجبة في قتل الخطأ وفي اليمين التي ليست غموساً، فقاتل العمد وحالف اليمين الغموس أولى بذلك وأحوج إلى الكفارة، وكقول المالكي والشافعي: إذا فرق بين الرجل وامرأته لعدم الجماع، فالفرقة بينهم العدم النفقة التي هي أوكد من الجماع أولى وأوجب، وكقول الحنفي والشافعي والمالكي: إذا لزمت المظاهر بظهر الأم الكفارة، فالمظاهر بفرج أمه أولى. وقسم ثان وهو قسم المثل، وهو نحو قول أبي حنيفة ومالك: إذا كان الواطىء في نهار رمضان عمداً تلزمه الكفارة، فالمتعمد للأكل مثله في ذلك، وإذا كان الرجل يلزمه في ذلك الكفارة فالمرأة، الموطوءة باختيارها عامدة، في وجوب الكفارة عليها مثل الرجل، وكقول من قال من التابعين ومن بعدهم: إذا كان ظهار الرجل من امرأته يوجب عليه الكفارة فالمرأة المظاهرة من زوجها في وجوب الكفارة عليها مثل الرجل. وكقول الشافعي: إذا وجب غسل الإناء من ولوغ الكلب فيه سبعاً فهو من الخنزير كذلك. وكقول المالكيين: إذا وجب على الزاني الذي ليس محصناً جلد مائة وتغريب عام، فقاتل العمد إذا عفي له عن دمه مثله، وكقول الحسن: إذا ورثت المطلقة ثلاثاً في المرض؛ فهو في وجوب الميراث له منها إن ماتت كذلك أيضاً. والقسم الثالث قسم الأدنى، وهو نحو قول مالك وأبي حنيفة: إذا وجب القطع في مقدار ما في السرقة، وهو عضو يستباح، فالصداق في النكاح مثله، وكقول أبي حنيفة: إذا كان خروج البول والغائط وهما نجسان ينقض الوضوء فخروج الدم وهو نجس متى خرج من الجسد أيضاً كذلك، وكقول الشافعي: إذا كان مس الذكر ينقض الوضوء فمس الدبر الذي هو عورة مثله كذلك، وكقول المالكي: إذا كان قول: «أُفّ» عمداً في الصلاة يبطلها، فالنفخ فيها عمداً كذلك. قال أبو محمد: فهذه أقسام القياس عند المتحذلقين القائلين به. وذهب أصحاب الظاهر إلى إبطال القول بالقياس في الدين جملة، وقالوا: لا يجوز الحكم البتة في شيء من الأشياء كلها، إلا بنص كلام الله تعالى، أو نص كلام النبي ، أو بما صح عنه من فعل أو إقرار، أو إجماع من جميع علماء الأمة كلها، متيقن أنه قاله كل واحد منهم، دون مخالف من أحد منهم، أو بدليل من النص أو من الإجماع المذكور الذي لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، والإجماع عند هؤلاء راجع إلى توقيف من رسول الله ولا بد، من لا يجوز غير ذلك أصلاً، وهذا هو قولنا الذي ندين الله به؛ ونسأله عز وجل أن يثبتنا فيه، ويميتنا عليه بمنه ورحمته. آمين.

وشغب أصحاب القول بالقياس بأشياء موَّهوا بها، ونحن إن شاء الله تعالى ننقض كل ما احتجوا به، ونحتج لهم بكل ما يمكن أن يعترضوا به، ونبين بحول الله تعالى وقوته بطلان تعلقهم بكل ما تعلقوا به في ذلك، ثم نبتدىء بعون الله عز وجل بإيراد البراهين الواضحة الضرورية على إبطال القياس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فما شغبوا به أن قالوا: قال الله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } فوجب إذ منع من قول: {لَّهُمَآ} للوالدين أن يكون ضربهما أو قتلهما ممنوع، لأنهما أولى من قول: {أُفٍّ} وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ } قالوا: فوجب أن ما فوق القنطار وما دونه داخل كل ذلك في حكم القنطار في المنع من أخذه. وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } قالوا: فعلمنا أن ما دون مثقال حبة وما فوقها داخلان في حكم مثقال حبة الخردل، أنه تعالى يأتي بها، وقال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } قالوا: فعلمنا أن ما فوق مثقال الذرة وما دونها يرى أيضاً.

وقال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قالوا: فعلمنا أن ما فوق القنطار والدينار وما دونهما في حكم القنطار والدينار، وقال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } قالوا: فعلمنا أن ما عدا الأكل من اللباس وغيره حرام إذا كان بالباطل، وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } فعلمنا أن قتلهم لغير الإملاق حرام، كما هو خشية الإملاق، قالوا: وقول الناس: لا تعط فلاناً حبة، فإنه مفهوم منه أن ما فوق الحبة وما دونها داخل كل ذلك في حكم الحبة، قالوا: ومن ادعى من هذه الآي فهم ما عدا ما فيها من غيرها فهو خارج عن المعقول وعن اللغة.

قالوا: وأنتم توافقوننا في كل ما قلنا في هذه الآيات وهذا الفصل، وتقرون معنا بأن ما عدا هذه المنصوصات فإنه داخل في حكمها، قالوا: وهذا إقرار منكم بالقياس، وترك لمذهبكم في إبطاله.

قال أبو محمد: قال الله عز وجل: {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى } وكل ما ذكروا فلا حجة لهم فيه أصلاً، بل هو أعظم حجة عليهم، لأنه ينعكس عليهم في القول بدليل الخطاب، فإنهم، على ما ذكرنا في بابه في هذا الديوان، يقولون: إن ما عدا المنصوص فهو مخالف للمنصوص، فيلزمهم على ذلك الأصل أن يقولوا ههنا: إن ما عدا {أُفٍّ} فإنه مباح، وما عدا الدينار والقنطار، والأكل، ومثقال الخردلة والذرة، وخشية الإملاق، بخلاف حكم ذلك، فقد ظهر تناقضهم وهدم مذاهبهم بعضها لبعض، ثم نعود فنقول وبالله تعالى التوفيق: أما قول الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } فلو لم يرد غير هذه اللفظة لما كان فيها تحريم ضربهما ولا قتلهما. ولما كان فيها إلا تحريم قول {أُفٍّ} ؟ فقط.

ولكن لما قال الله تعالى في الآية نفسها: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } . اقتضت هذه الألفاظ من الإحسان والقول الكريم وخفض الجناح والذل والرحمة لهما، والمنع من انتهارهما، وأوجبت أن يؤتى إليهما كل بر وكل خير وكل رفق، فبهذه الألفاظ وبالأحاديث الواردة في ذلك وجب بر الوالدين بكل وجه وبكل معنى، والمنع من كل ضرر وعقوق بأي وجه كان، لا بالنهي عن قول: {أُفٍّ} ؟ وبالألفاظ التي ذكرنا وجب ضرورة أن من سبهما أو تبرم عليهما أو منعهما رفده في أي شيء كان من غير الحرام، فلم يحسن إليهما ولا خفض لهما جناح الذل من الرحمة.

ولو كان النهي عن قول: {أُفٍّ} ؟ مغنياً عما سواه من وجوه الأذى لما كان لذكر الله تعالى في الآية نفسها، مع النهي عن قول: {أُفٍّ} ؟، النهي عن النهر والأمر بالإحسان، وخفض الجناح والذل لهما معنى، فلما لم يقتصر تعالى على ذكر الأُف وحده، بطل قول من ادعى أن بذكر الأُف علم ما عداه.

وصح ضرورة أن لكل لفظة من الآية معنى غير سائر ألفاظها، ولكنهم جروا على عادة لهم ذميمة من الاقتصار على بعض الآية والإضراب عن سائرها، تمويهاً على من اغتر بهم، ومجاهرة لله تعالى بما لا يحل من التدليس في دينه. كما فعلوا في ذكرهم في الاستنباط قول الله تعالى: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } وأضربوا عن أول الآية في قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } وأول الآية مبطل للاستنباط. وكما فعل من فعل منهم في قول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وأضربوا عما بعدها من قوله تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الْغَافِلِينَ } .

قال أبو محمد: ومن البرهان الضروري على أن نهي الله تعالى عن أن يقول المرء لوالديه: ليس نهياً عن الضرب ولا عن القتل ولا عما عدا الأُف، أن من حدث عن إنسان قتل آخر أو ضربه حتى كسر أضلاعه وقذفه بالحدود، وبصق في وجهه، فشهد عليه من شهد ذلك كله، فقال الشاهد: إن زيداً، يعني القاتل أو القاذف أو الضارب، قال لعمرو: يعني المقتول أو المضروب أو المقذوف، لكان بإجماع منا ومنهم كاذباً آفكاً شاهد زور مفترياً مردود الشهادة فكيف يريد هؤلاء القوم بنا أن نحكم بما يقرون أنه كذب؟.

فكيف يستجيزون أن ينسبوا إلى الله تعالى الحكم بما يشهدون أنه كذب؟ ونحن نعوذ بالله العظيم من أن نقول: إن نهي الله عز وجل عن قول: للوالدين يفهم منه النهي عن الضرب لهما أو القتل أو القذف، فالذي لا شك فيه عند كل من له معرفة بشيء من اللغة العربية أن القتل والضرب والقذف لا يسمى شيء من ذلك فبلا شك يعلم كل ذي عقل أن النهي عن قول أُفٍّ ليس نهياً عن القتل ولا عن الضرب ولا عن القذف، وأنه إنما هو نهي عن قول: فقط. وأما ذكره تعالى القنطار في آية الصداق وآية وفاء أهل الكتاب، فما فهمنا قط أن ما عدا القنطار فهو حكم القنطار من هاتين الآيتين، لكن لما قال تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } . قال أبو محمد: فبهذه الآية حرم على الزوج أن يأخذ مما أعطى زوجته شيئاً، وسواء قل أو كثر، إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، أو تطيب نفسها كما قال تعالى: {وَآتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } لولا هذه الآية، وما في معناها من سائر الآيات والأحاديث التي فيها تحريم الأموال جملة وتحريم العود في الهبات، لما كان في آية القنطار مانع مما عدا القنطار أصلاً.

وبرهان عن ذلك أنه لو شهد شاهدان لزيد: أن له على عمرو قنطاراً، وكان في علمهما الصحيح أنه له عليه قنطارين أو أكثر من قنطار أو أقل من قنطار، لكانا شاهدي زور كذابَيْنِ آفكين، وما علمنا في طبيعة بشر أحداً يفهم من قول القائل أخذ لي عمرو قنطاراً، أنه آخذ له أكثر من قنطار، ومدعي هذا مفتر على اللغة ومكابر للحس، داخل في نصاب الموسوسين مبطل للحقائق، ويقال له: لعله تعالى إذا ذكر سبع سموات، إنما أراد بها خمس عشرة أو أكثر من ذلك، وهذا هو بطلان الحقائق، وفساد العقل على الحقيقة. وأما الآية التي فيها ذكر الدينار والقنطار في ائتمان أهل الكتاب فقد أخبرنا تعالى أنهم يقولون أو من قال منهم: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ففي هذا استجازة أهل الكتاب لخون أماناتنا، قلَّت أو كثرت، وقد علمنا بضرورة العقل والمشاهدة، وعلم الناس قبل نزول هذه الآية المذكورة، أن في أهل الكتاب وفي المسلمين أوفياء، يفون بالقليل والكثير، وغدرة يغدرون بالقليل والكثير، لأن هذا من صفات الناس، وإن في الناس من يفي بالقليل تصنُّعاً ويخون الكثير رغبة، وأن فيهم من يغدر بالقليل خسة نفس واستهانة، ويفي بالكثير مخافة الشهرة أو انقطاع رزقه إن كان لا يعيش في مكسبة إلا بائتمان الناس إياه وهذا كله موجود مشاهد، معلوم بالحس. فإن قالوا: فما فائدة الآية إذن؟ قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: الفائدة فيها عظيمة، فأول ذلك الأجر العظيم في تلاوتها في التصديق أنها من عند الله عز وجل.

وأيضاً فالتنبيه لنا على التفكر في عظيم القدرة في ترتيبه لنا طبائع الناس، فمنهم الوفي الكافر، والخائن الكافر، وأيضاً فائتمانهم على المال فإن ذلك مباح لنا إذا قدرنا فيهم الأمانة، وإبطال قول من منع من الوصية إليهم بالمال وهذا مثل قوله تعالى: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } ومثل قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ } وقد علمنا ذلك قبل نزول القرآن ولكنه تنبيه ووعظ وتحريك إلى اكتساب الأجر بالاعتبار والفكرة في قدرة الله عز وجل وذكره تعالى القنطار ههنا كذكره السبعين استغفارة في قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } وقد سبق في علم الله تعالى أنه سيبين مراده من ذلك أنه تعالى لا يقبل استغفاره لهم أصلاً، وقد قلنا غير مرة إن مثل هذا السؤال فاسد، وأنه تعالى لا يُسأل عما يفعل، ونحن نسأل عن كل فعلنا وقولنا. وأما قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } ، وقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } فإنما علمنا عموم ذلك كله فيما دون الذرة وما فوقها من قوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يوَيْلَتَنَا مَا لِهَـذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } وبقوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } وبقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } فهذه الآيات بيَّنت أن ما فوق الذرة والخردلة وما دونها محسوب كل ذلك ومجازى به، وكذلك قوله تعالى: {يبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } فإنما علمنا العموم في ذلك من قول الله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } فشمل تعالى جميع أرزاق الحيوان في هذه الآية، فدخل في ذلك ما هو دون الخردلة وما فوقها.

وقد أجاب أبو بكر بن داود عن هذا السؤال أن قال: إن الذي هو فوق الذرة ذرة وذرة وهكذا ما زاد لأنه زاد على الذرة بعض ذرة، فذاك البعض إذا أضيف إلى أبعاض الذرة جاء من ذلك مقدار الذرة، وأما ما دون مثقال الذرة فحكمه مأخوذ من غير هذا المكان. قال علي: وهذا جواب صحيح ضروري والذي نعتمد عليه عموماً في جميع هذا الباب، فهو الذي قلنا آنفاً، وأن المرجوع إليه في كل ما جرى هذا المجرى نصوص أخر، أو إجماع متيقن أو ضرورة المشاهد بالحواس والعقل فقط، فإن لم نجد نصّاً ولا إجماعاً ولا ضرورة اقتصرنا على ما جاء به النص، وقفنا حيث وقف ولا مزيد وإلا فإن ذكره تعالى لما ذكر من هذه المقادير، وهذه الأحوال في هذه الآيات كذكره تعالى أخبار بعض الأنبياء عليهم السلام في مكان، وذكره تعالى لهم في مكان آخر بأكمل مما ذكرهم به في غيرها، ولا يُسأل عما يفعل.

وأما قوله عز وجل: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } فإنما علمنا أن ما عدا الأكل حرام بقول رسول الله في حجة الوداع: «دِمَاؤُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ وَأَعْرَاضُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» وبآيات أخر وأحاديث أخر، فبالحديث المذكور حرم التصرف في أموال الناس بغير ما أمر الله تعالى به بالأكل وغير الأكل، ولو تركنا والآية المذكورة ما حرم بها شيء غير الأكل، ولكان ما عدا الأكل موقوفاً على طلب الدليل فيه إما بمنع وإما إباحة من غيرها، ولما وجب أن تحكم فيما عدا الأكل من الآية لا بتحريم ولا بتحليل كما يقولون معنا: إن الله حرم الأكل على الصائم ولم يحل عليه تملك الطعام، ولا ما عدا الأكل من بيه وهبة وغير ذلك فأي فرق بين الأكل المحرم على الصائم، وبين الأكل المحرم على الناس في أموالهم؟ وكما أباحوا هم ونحن الأكل من بيت الأب والأم والصديق والأقارب المنصوصين، فهلا أباحوا أخذ ما وجدوا للأقارب ما عدا الأكل قياساً على الأكل المباح أهلا حرموا على الصائم تملك الطعام وبيعه قياساً على ما صح من تحريم الأكل عليه؟ كما زعموا أنهم إنما حرموا تملك الأموال بالظلم والباطل قياساً على تحريم الله تعالى أكلها بالباطل، فإذ لم يفعلوا ذلك، فقد تركوا القياس الذي يقرون أنه حق، فظهر تناقضهم والحمد لله رب العالمين.

وحتى لو لم يرد نص جليّ في تحريم الأموال جملة، لكان الإجماع على تحريمها كافياً، ولعلمنا حينئذ أن اسم الأكل موضوع على أخذ منقول عن موضوعه المختص له في اللغة كما تقول العرب، «أكلتنا السنة» أي أفنت أموالنا، وكما قال الشاعر: فإن قومي لم تأكلهم الضبع يريد لم تفنهم. وأما قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } فإنما حرم قتلهم جملة لغير الإملاق من آيات أخر، وهي قول الله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } وبقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } وبقوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } وبقول رسول الله : «إنَّ دِماءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» . وأما قوله تعالى: {يُولِجُ الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } فإنما أخبر عز وجل في موضع آخر على أنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع، وما كان هذا فبالضرورة نعلم أنها لا تملك شيئاً. وهكذا الحكم في كل ما موَّهوا به، فإن الله تعالى قد بيَّن لنا مراده، ولو لم يرد غير النصوص التي ذكرنا لوجب ألا نتعدى البتة إلى ما لم يذكر بها وللزم ألا نحكم بها أصلاً إلا فيما وردت فيه، ومن تعدى هذا فإنه متعد لحدود الله تعالى: {يأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } نعوذ بالله من ذلك.

وأما قول الناس: لا تعط فلاناً حبة، فإنما يعلم مراد القائل في ذلك، أمُجدّاً قال ذلك أم هازلاً أم مقتصراً على الحبة أم لأكثر منها، بما يشهده من حال الأمر في امتناعه وتسهله، وأكثر ذلك فهذا القول من قائله لا يتأتى مجرَّداً البتة. ولا بد ضرورة من أن يقول: لا تعطه البتة شيئاً ولا حبة، وربما زاد لا قليلاً ولا كثيراً، فهذا هو المعهود من تخاطب الناس فيما بينهم، ومن ادعى غير هذا فهو مجاهر مدع على العقل ما ليس فيه، بل هو مخالف لموجب العقل ولمقتضى اللغة على الحقيقة، وبالله تعالى نعتصم. فإن ذكروا قول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً } فقد قال تعالى في آية أخرى: {قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُوراً } فنص تعالى على الإمساك، والإمساك على عمومه يقتضي النقير وغير النقير، وأقل من النقير وأكثر منه. واحتجوا في ذلك أيضاً بقول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } وبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } قالوا: فلم يخص الله تعالى ما قال أولو الأمر منا بتوقيف من النبي مما قالوه بقياس.

قال أبو محمد: هذا الاحتجاج منهم جمع الشناعة والإثم لأن الله تعالى لم يأمر قط أولي الأمر منا أن يقولوا بآرائهم ولا بقياساتهم، ولا أن يقولوا ما شاؤوا، وإنما أمرهم الله تعالى أن يقولوا ما سمعوا، أو يتفقهوا في الدين الذي أنزله الله تعالى على نبيه وينذروا بذلك قومهم، وهذا بيَّن في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } ، وفي قوله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ، وفي قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } ، وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثالث

في دليل الخطاب (1) | في دليل الخطاب (2) | في دليل الخطاب (3) | في دليل الخطاب (4) | في دليل الخطاب (5) | في إبطال القياس في أحكام الدين(1) | في إبطال القياس في أحكام الدين(2) | في إبطال القياس في أحكام الدين(3) | في إبطال القياس في أحكام الدين(4) | في إبطال القياس في أحكام الدين(5) | في إبطال القياس في أحكام الدين(6) | في إبطال القياس في أحكام الدين(7) | في إبطال القياس في أحكام الدين(8) | في إبطال القياس في أحكام الدين(9) | في إبطال القياس في أحكام الدين(10) | في إبطال القياس في أحكام الدين(11) | في إبطال القياس في أحكام الدين(12) | في إبطال القياس في أحكام الدين(13) | في إبطال القياس في أحكام الدين(14) | في إبطال القياس في أحكام الدين(15) | في إبطال القياس في أحكام الدين(16) | في إبطال القياس في أحكام الدين(17)