ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثالث/الباب الثامن والثلاثون (15)
وأيضاً فإنهم يتركون في أكثر أقوالهم ظاهر القرآن بخبر الواحد، ثم يتركون خبر الواحد للقياس، فقد حصل من كلامهم وعملهم أنهم غلبوا القياس على الحديث، وغلبوا الحديث على القرآن فقد صار القياس على هذا أقوى من القرآن ولا قياس البتة إلا على قرآن أو حديث وهذا كله تخليط، وسخنة عين وغباوة جهل وإقدام واستحلال لما لا يحل ولا يخفى على ذي بصر، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضاً: فهم كثيراً ما يقولون، فيما يرد عليهم من أقوال موقوفة على بعض الصحابة مما يوافق ما قلدوا فيه مالكاً وأبا حنيفة، مثل هذا لا يقال بالقياس فيغلبونه على ما يوجبه القياس عندهم كقولهم فيمن باع شيئاً إلى أجل، ثم ابتاعه بأقل إلى أقل من ذلك الأجل، وفي البناء في الصلاة على الرعاف والحدث، وفي مواضع كثيرة جمة، وهذا ترك منهم للقياس وتغليب للظن أنه خبر واحد على القياس، لأنهم لا يقطعون على أن هذه الأقوال توقيف، وإنما يظنون ذلك ظنّاً، فقد صار الظن أنه خبر واحد عندهم أقوى من القياس الذي هو عندهم أقوى من يقين أنه خبر واحد، فقد صار الظن أقوى من اليقين وفي هذا عجب عجيب ونعوذ بالله من الخذلان.
وأما الحقيقة فإن الظن باطل. بنص حكم النبي بأنه أكذب الحديث، وبنص قول الله تعالى: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } فالظن بنص القرآن ليس حقّاً، فإذ ليس حقّاً فهو باطل، فإذا كان الظن الذي هو الباطل أقوى من القياس، فالقياس بحكمهم أبطل من كل باطل. وبالله تعالى التوفيق.
وجملة القول: أن قولهم: إن خبر الواحد يدخله السهو والغلط، والكذب، إنما هو من اعتراضات من لا يقول بخبر الواحد من المعتزلة. والخوارج وقد مضى الكلام في إيجاب خبر الواحد العدل، وقد وجب قبوله بالبرهان، فاعترض المعترض بأنه قد يدخله السهو، وتعمد الكذب اعتراض بالظن، وبعض الظن إثم والظن أكذب الحديث.
وقولهم: إن القياس يدخله خوف خطأ التشبيه إقرار منهم بأنهم لا يثقون بجملته، وهذا هو الحكم بالظن؛ وهو محرم بنص القرآن ويسألون عن إنسان مشهور بالباطل، معروف بادعائه قد كثر ذلك منه وفشا فتقدم إلى قاضي يخاصم عنده؟. فإن الأمة كلها مجمعة عن ألا يقاس أمره الآن على ما عهد منه، فإذا خرم أن يقاس حكم المرء اليوم على حكمه بنفس أمس، فهو أبعد من أن تقاس على غيره وهذا هدم من القياس للقياس، وتفاسد منه بعضه لبعض، وما كان هكذا فهو فاسد كله، وبالله تعالى التوفيق. وقال قائل منهم: هل يجوز أن يتعبدنا الله تعالى بالقياس؟.
قال أبو محمد: فالجواب إن كان جائزاً قبل نزول قول الله تعالى: {قَالَ هَـذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } وقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } وكان يكون ذلك لو كان حمل إصر كما حمله على الذين من قبلنا، وتحميلاً لما لا طاقة لنا به، وكما قال تعالى: {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } وأما بعد نزول الآيتين اللتين ذكرنا؛ وبعد أن أمننا الله تعالى من أن يكلفنا الحكم بالتكهن وبالظنون، وبعد أن نهانا عن أن نقول عليه تعالى ما لم نعلم، فلا يجوز البتة أن يتعبدنا بالقياس، لأن وعد الله تعالى حق لا يخلف البتة، وقوله الحق. وبالله تعالى التوفيق.
فصل في ذكر طرق يسير من تناقض أصحاب القياس في القياس، يدل على فساد مذهبهم في ذلك إن شاء الله تعالى
قال أبو محمد علي بن أحمد رضي الله عنه: أكثرهم لم يقس الماء الوارد على النجاسة على الماء الذي ترد عليه النجاسة، وفرقوا بينهما بغير دليل. وبعضهم لم يقس وجوب إراقة ما ولغ فيه الكلب على وجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب فيما ولغ فيه، ولم يقيسوا الماء في ذلك على غير الماء. وأكثرهم فرق بين الماء الذي تقع فيه النجاسة، وبين المائعات التي تقع فيها النجاسات، فيجدوا مقداراً إذا بلغه الماء لم ينجس، ولم يجدوا في سائر المائعات شيئاً البتة وإن كثرا. وبعضهم قاس سائر المائعات في ذلك على الماء في حد المقدار وهو أبو ثور. وبعضهم فرق بين حكم الماء في البئر، وبين الماء في غير البئر، ولم يقس أحدهما على الآخر اتباعاً، زعم، لقول بعض العلماء في ذلك. وهو قد عصى قول رسول الله وجماعة من الفقهاء، في المصراة والمسح على العمامة، وفي أزيد من ألف قضية، نعم وحكم القرآن، وفرق أيضاً بين أحكام الجيف الواقعة في التيار، وبين أحكامها وأحكام سائر النجاسات ولم يقس بعضها على بعض. وبعضهم قاس الخنزير على الكلب في حكم الغسل مما ولغ فيه كلاهما في الواحد أو السبع، وبعضهم لم يقس أحدهما على الآخر، وبعضهم قاس الماء بحكم الوالغ فيه مما يحرم أكله أو يحل أو يكره، وبعضهم لم يقس ذلك، وبعضهم قاسم ما لا دم له من الميتات على ماله دم. فرأى كل ذلك ينجس ما مات فيه، وبعضهم لم ير ذلك وبعضهم قاس العقارب والخنافس والدود المتولد في القول على الذباب، ولم يقسها على الوزغ وشحمة الأرض والعظماء وصغار الفيران. وبعضهم قاس عذر ما يؤكل لحمه من الدواب وأبوالها على لحومها، ولم يقسها على دمائها، ولم يقسها على لحومها. وبعضهم قاس ذنب الكلب ورجله على لسانه، وبعضهم لم يقس ذلك. وأكثرهم قاس إباحة المسح على الجبائر على المسح على الخفين، ولم يقيسوا إباحة مسح العمامة على الرأس، وعلى المسح على الخفين، وبعضهم قاس ذلك، وكلهم فيما نعلم لم يقس نزع الخفين بعد المسح على حلق الشعر وقطع الأظفار بعد المسح والغسل وبعضهم لم يقس إباحة الصلاة الفريضة بتيمم النافلة على إباحة الصلاة النافلة بتيمم الفريضة، وبعضهم قاس ذلك، وتناقض الأولون فقاسوا جواز صلاة المتوضئين خلف المتيمم على جواز صلاة المتيممين خلف المتوضىء، على أن الخلاف في تسوية كلا الأمرين مشهور.
ومن طرائف قياس بعضهم إيجابه أن تستطهر الحائض بثلاث قياساً على انتظار ثمود صيحة العذاب ثلاثاً، على المصراة، أفلا يراجع بصيرته من يقيس هذا القياس السخيف. فيمنع به خمس عشرة صلاة فريضة، ويوجب به إفطار ثلاثة أيام من رمضان، من أن يقيس مسح العمامة على مسح الخفين.
وبعضهم قاس بول ما يأكل لحمه بعضه على بعض، وبعضهم قاس البول المذكور على ما يتولد منه، فإن تولد من ماء نجس فهو نجس، وإن تولد من ماء طاهر فهو طاهر، وكذلك فعل بنحوه، ولم يقس اللحم المتولد فيه على ما تولد منه، بل رأى ذلك حلالاً أكله وإن تولد من ميتة ولحم خنزير وعذرة. وبعضهم لم يقس نبيذ التين على نبيذ التمر في جواز الوضوء به عند عدم الماء في السفر، وبعضهم قاس الحظر عليه في الإباحة، وهو الحسن بن حي، وقد روى أيضاً قياس نبيذ التين على نبيذ التمر عن أبي حنيفة. ومنع أكثرهم من الكلام في الأذان، قياساً على الصلاة، ولم يقيسوه عليها إذ أجازوه بلا وضوء، وأجاز بعضهم تنكيس الوضوء، ولم يجز تنكيس الأذان ولا تنكيس الطواف، ولم يقس أحدهما على الآخرين، وقاس ذلك كله، بعضهم في المنع في الكل، أو في الإباحة في الكل. وفرق بعضهم بين صلاة الفريضة والنافلة، فأجاز أن يؤم النافلة من يجوز أن يؤم في الفريضة، ثم لم يجز أن تؤم المرأة النساء في شيء منهما، وبعضهم قاس كل ذلك بعضه على بعض. وبعضهم لم يقس جواز صلاة النفل خلف من يصلي الفرض على جواز صلاة من يصلي الفرض خلف المتنفل، وبعضهم قاس كل ذلك بعضه على بعض، وكلهم، فيما أعلم، لم يقس المنع من إتمام المسافر خلف المقيم على المنع من قصر المقيم على المسافر.
وأطرف من هذا أن بعضهم لم يقس إتمام أهل مكة بمنى على إتمام أهل منى بمكة وهذا عجيب ما شئت ولم يقيسوا جواز الحج على العبد إذا حضره على جواز الجمعة عنه إذا حضرها. وبعضهم لم يقس جواز صلاة الفرض خلف الفاسق من الأمراء على جواز صلاة الجمعة خلفه، وبعضهم قاس كل ذلك وجعله سواء. وبعضهم لم يقس حكم ابتداء التكبير للقائم من الركعتين على حكم ابتداء التكبير في الركوع والسجود والرفع من السجود، وبعضهم ساوى بين ذلك كله وقاس بعضه على بعض. وبعضهم لم يقس إيجاب البناء على المحدث على إيجاب البناء على الراعف، وبعضهم ساوى بينهما. وبعضهم لم يقس وجوب البناء قبل تمام السجدتين على وجوب البناء بعد تمام السجدتين، وبعضهم قاس كلا الأمرين على السواء. وبعضهم لم يقس وقوع الجبهة والرجلين على نجاسة الصلاة على وقوع اليدين والركبتين على نجاسة في الصلاة، وبعضهم قاس كل ذلك بعضه على بعض، وهؤلاء الذين قاسوا بعض ذلك على بعض تناقضوا، فلم يقيسوا جواز وقوع الرجلين والركبتين على غير الأرض، أو ما تنبت على جواز وقوع الجبهة واليدين على ذلك، وفرقوا بين الأمرين. وبعضهم لم يقس الثبات على يقين الحدث لمن شك في الوضوء على الثبات على يقين الوضوء لمن شك في الحدث، وبعضهم ساوى بين الأمرين. وبعضهم لم يقس كثير السهو على قليله، فرأى من قليله السجود فقط، ومن كثيره الإعادة ومنهم من رأى من السلام ساهياً السجود فقط ورأى من الكلام ساهياً الإعادة، ورأى بعضهم على من تكلم في صلاته ساهياً أنها قد بطلت، فإن أحدث بغلبة لم تبطل صلاته، فإن أكل ساهياً وهو صائم لم يبطل صيامه وقلب غيره منهم الأمر، فرأى إن تكلم ساهياً في صلاته لم تبطل، فإن أحدث بغلبة بطلت، وإن أكل ناسياً وهو صائم بطل صومه، وفرقوا بين من نسي صلاة يوم وليل، وبين من نسي أكثر ولم يقيسوا أحدهما على الآخر، وبعضهم قاس كل ذلك على السواء.
وقاس بعضهم الجمع بين الذهب والفضة في الزكاة، على الجمع بين المعز والضأن في الزكاة، ولم يقسه على التفريق بين التمر والزبيب في الزكاة، وبعضهم قاسه على التفريق المذكور لا على الجمع، وأعجب من ذلك أن من ذكرنا رأى إخراج ذهب عن فضة، وفضة عن ذهب، ولم ير إخراج عنز عن ضانية، ولا ضانية عن عنز، ولا بُرّاً عن شعير، ولا شعيراً عن بُرّ، ولم يقس بعض ذلك على بعض أو بعضهم أجاز كل ذلك بالقيمة قياساً.
وفرق بعضهم بين غلة ما ابتيع للتجارة وبين الربح المتولد في ذلك، فرأى في الغلة الاستئناف، ورأى في الربح ضمه إلى أصل الحول في رأس المال، ولم يقس أحدهما على الآخر، وقاس غيره منهم بعض ذلك ببعض في الاستئناف أو في الضم، وأوجبوا ديون الناس من رأس المال، ولم يوجبوا ديون الله تعالى إلا من الثلث، ولم يقيسوا أحدهما على الآخر، وساوى بعضهم بين الأمرين. ولم يقس بعضهم الحلي، وإن كان لكراء أو لباس، على العوامل المعلوفة من الإبل والبقر والغنم، فبعضهم أوجب الزكاة في الحلي وأسقطها عن العوامل، وبعضهم أوجب الزكاة في العوامل، وأسقطها عن الحلي، وبعضهم قاس أحدهما على الآخر في إسقاط الزكاة عن كل ذلك، والعجب أن الذي أسقط الزكاة عن الحلي الكراء لم يقس عليه الحلي المبتاع للتجارة ورأى فيه الزكاة. وبعضهم فرق بين عبيد العبيد فلم يرهم كسادتهم، ولا كسادات ساداتهم في وجوب زكاة الفطر المأخوذة، ورأى على عبيد أهل الذمة أن يؤخذ منهم ما يؤخذ من ساداتهم إذا اتجروا إلى غير أفقهم. وبعضهم رأى الزكاة في زيت الفجلة، ولم يرها في الترمس، ولم يقس أحدهما على الآخر، وبعضهم الزكاة في جب الآس، ولم يرها في البلوط ولم يقس أحدهما على الآخر. وبعضهم لم يقس الدين على الرهن في الكفن، فرأى الكفن فيه أولى من الدين، ولم يره أولى من الرهن إذا كان رهناً، وبعضهم ساوى بين الأمرين. وبعضهم لم يقس المدبر على المحتكر، وبعضهم قاسه عليه. وبعضهم لم يقس الخليطين في الثمار والزرع والعين، على الخليطين في المواشي، وبعضهم ساوى بين كل ذلك قياساً. وفرق بعضهم بين من أعطى آخر مالاً ليأكل ربحه والأصل لصاحب المال، وأعطاه غنماً ليأكل نسلها ورسلها والأصل لصاحب المال، فرأى في الغنم الزكاة، ولم ير في ربحه زكاة، وهو مال تجارة، لا على التاجر ولا على الذي له أصل، ولم يقس أحدهما بالآخر، وقاس غيره أحدهما على الآخر. ولم يقس بعضهم فائدة العين على فائدة الماشية، فرأى في فائدة الماشية الزكاة إذا كان عنده نصاب منها، ولم ير في فائدة العين الزكاة وإن كان عنده نصاب منه، وقاس غيره منهم بعض على بعض في إيجاب الزكاة في الكل، وفي إسقاطها عن الكل. ولم يقس بعضهم فائدة الكسب على فائدة الولادة في إيجاب الزكاة في كل ذلك، وقاس كل ذلك بعضهم، فرأى في الكل الزكاة ولم يقس بعضهم فائدة المعدل على سائر الفوائد، وقاسه بعضهم عليها.
وقال بعضهم: لا يجزىء في زكاة الغنم إلا الجذع من الضأن فصاعداً. والثني فصاعداً من الماعز قياساً على ما يجيز منها الأضحية، وأجازوا في البقر والإبل الجذع ودون الجذع، ولم يقيسوا ذلك على ما يجوز منهما في الأضحية، ولا قاسوا حكم الغنم في ذلك على الإبل والبقر، ولا حكم الإبل والبقر على حكم الغنم. وقال بعضهم من بادل ذهباً بفضة زكى الآخر بحول الأول، ولم يقس ذلك على ما بادل بقراً بإبل، وقاسه على ما بادل غنماً بماعز. وقال بعضهم: تؤخذ الزكاة من الزيتون قياساً على التمر والعنب، ولم يقسه عليها في الخرص في الزكاة. وقال بعضهم: يخرج الأرز والذرة في زكاة الفطر قياساً على الشعير والبر، ولم يجز أن يخرج فيها الزيتون قياساً على التمر والزبيب، ولم يجز أن يخرج فيها الدقيق قياساً على البر، وقد قاسه على البر في تحريم بيع بعضه ببعض متفاضلاً، وأجاز بيعه بالبُر متماثلاً.
وأسقط بعضهم زكاة التجارة على الماشية المشتراة للتجارة لزكاة الأصل، ولم يقس على ذلك سقوط زكاة التجارة عن الدقيق المشترى للتجارة من أجل زكاة الفطر فيهم. وأوجب بعضهم الزكاة في العسل وفي الحبوب وفي الثمار إذا كانت في أرض غير خراجية وأسقط الزكاة عن كل ذلك في الأرض الخراجية، ولم يسقط الزكاة عن الماشية وإن رعت في أرض خراجية، فلم يقس رعي النحل على رعي الماشية، ولا رعي الماشية على رعي النحل. وسقط بعضهم الزكاة في العين والماشية عن الصغير والمجنون، قياساً على سقوط الصلاة عنهما ولم يسقط الزكاة عن ثمارهما وزرعهما قياساً على سقوط الصلاة عنهما. وقال آخرون منهم في هذا: إن حق الزكاة ثابت مع الزرع والثمر. قال أبو محمد: وهذا كذب، لأن قائل هذا لا يرى فيما دون خمسة أوسق صدقة فلم ير الزكاة ثابتة مع هذه الثمرة، ولم يقيسوا وجوب الزكاة في ذلك عليهما على وجوب زكاة الفطر عليهما، وقياس زكاة على زكاة، أولى من قياس زكاة على صلاة، ولا قاسوا وجوب الزكاة، وهي حق المال، على وجوب سائر الحقوق في الأموال على الصغار والمجانين، من النفقات والأروش وقياس مال على مال، أولى من قياس زكاة على صلاة ولم يقس سقوط الصلاة عن الفقراء على سقوط الزكاة عنهم.
وفرق بعضهم بين حكم من رأى هلال شوال وحده، وبين حكم من رأى هلال رمضان وحده، ولم يقس أحدهما على الآخر، وبعضهم قاس كل واحد منهما على الآخر، ولم يقس بعضهم حكم الحائض تطهر، والكافر يسلم، والمسافر يقدم في نهار رمضان على حكم من بلغه بعد الفجر إن هلال رمضان رئي البارحة، فأوجبوا على هذا ألا يأكل باقي النهار، ولم يوجبوا ذلك على الآخرين، ثم قاسوا بعضهم على بعض في وجوب القضاء عليهم، حاشا الكافر يسلم، فلم يقيسوه عليهم في وجوب القضاء. وقاسه بعضهم عليهم، فأوجبوا عليه القضاء. وأطرف من هذا قياس بعضهم من غلبته ذبابة فدخلت حلقه، على الأكل عمداً في إيجاب القضاء فقط عليه، ولم يقس على ذلك من أخرج بلسانه من بين أسنانه الجريدة ــــ ولعلها من مقدار الذبابة ــــ فيبلغها عمداً في نهار رمضان. فقالوا: صومه تام ولا قضاء عليه. وقاس بعضهم: المجنون على الحائض في إيجاب قضاء رمضان عليهما، ولم يقيسوه عليها في وجوب الحدود عليها. وقاس بعضهم من لمس عمداً فأمنى على المجامع عمداً في القضاء والكفارة، ولم يقس من استعط عمداً فوجد طعم ذلك في حلقه على الأكل عمداً لم يوجب فيه كفارة. وقاس بعضهم المغمى عليه في رمضان على المريض في إيجاب القضاء عليه، ولم يقسه عليه في إيجاب قضاء ما ترك من الصلوات عليه وقاسه بعضهم في إيجاب الصلوات. وأوجب بعضهم على من أكره امرأته على الجماع في نهار رمضان أن يكفر عنها فيصوم عنها ولم يقس على ذلك إيجاب الصوم على من مات وعليه صوم. وقاس بعضهم الأكل عمداً في نهار رمضان على الواطىء عمداً في نهار رمضان وأوجب عليهما الكفارة، ولم يقيسوه على المتقيِّىء عمداً في نهار رمضان في إسقاط الكفارة عنه، وقياس الأكل على القيء أولى من قياسه على الوطء، وقاسه بعضهم على المتقيء فيما ذكرنا. وفرقوا بين الواطىء والآكل بأن قالوا: الوطء يوجب أحكام لا يوجبها الأكل، فالوطء يوجب الغسل والحد والصداق، ولا يوجب شيئاً من ذلك الأكل ولا الشرب، والأكل يوجب الغرامة، ولا يوجبها الوطء، والأكل من مال الصديق مباح، ولا يجوز وطء ملكه، فقاسوا ترك الكفارة في الأكل على هذه الفروق. وقال بعضهم: إنما القياس على التشابه، لا على عدم التشابه.
قال أبو محمد: وكل هذا تحكم كما ترى، ولا دليل.
ولم يقس بعضهم من أفطر عمداً في قضاء رمضان ــــ وهو فرض ــــ في وجوب الكفارة عليه على إفطاره عمداً في رمضان، وكلاهما فرض، وقد أوجب ذلك عليهما بعض السلف. وأوجب الكفارة على المظاهر من زوجته، وعلى المرأة الموطوءة في رمضان طائعة، وقد سمع النبي أمرها فلم يوجب عليها شيئاً، ولم يقيسوا المرأة المظاهرة من زوجها في إيجاب الكفارة عليها على المظاهر، ولا على المرأة الموطوءة، وقد أوجب الكفارة على المرأة المظاهرة من زوجها جمهور من السلف ومن بعدهم، وقاسوا الأكل عمداً في رمضان، في إيجاب الكفارة عليه، على الواطىء في رمضان عمداً، ولم يقيسوا على ذلك مفسد صلاته عمداً، والصلاة أعظم حرمة من الصوم. ومن طرائف بعضهم إيجابه قياس من أفطر ناسياً في رمضان على من أفطر عمداً، في إيجاب القضاء عليهما، ولم يقسه عليه في إيجاب الكفارة عليهما، نعم، ولم يقس الأكل ناسياً على المتقيىء ناسياً أو مغلوباً، فأسقط على هذا ولم يسقطه عن الآخر.
وفرق بعضهم بين أحكام النيات ولم يقس بعضها على بعض فأجاز بعضهم الطهارات بلا نية، ولم يجز الصلاة إلا بالنية، وبعضهم لم يجز الطهارات إلا بنية وأجاز الصوم في الواجبات بلا نية محدثة لكل يوم منه، وبعضهم أوجب النية في كل ذلك، ولم يوجبها في أعمال الحج. وأما تناقضهم في أعمال الحج فأكثر من أن يُجمع في سفر وذلك فيما أوجبوا فيه الفدية، وما أسقطوها فيه، ولم يقيسوا بعض ذلك على بعض. وأيضاً فإن بعضهم قال: من طرح القراد عن نفسه لم يطعم، فإن طرحه عن بعيره أطعم، ولم يقس أحدهما على الآخر. ولم يقس بعضهم إباحة قتل الفأرة وإن لم تؤذه، على نهيه عن قتل الغراب والحدأة إن لم تؤذياه. ورأى بعضهم الجزاء على قاتل السنور ولم يره على قاتل الفهد، ولم يقس أحدهما على الآخر، ورأى قتل الفهد قياساً على قتل السبع، ولم ير قتل الصقر البري قياساً على الغراب والحدأة، بل رأى في الصقر البري الجزاء. ولم يقس بعضهم استظلال المحرم في المحمل على استظلاله في الخباء في الأرض، ورأى على المستظل في المحمل الفدية، وكذلك في السفينة، ولم يقس على ذلك من مشى في ظل المحمل، فلم ير عليه الفدية. ولم يقس بعضهم على دهن باطن يديه وباطن قدميه بسمن أو زيت، فلم ير عليه فدية، على من دهن بذلك ظاهرهما، فرأى عليه الفدية. ولم يقس بعضهم تحريمه ما ذبح المحرم من الصيد على ما ذبحه السارق أو الغاصب فأباحه، وقاس بعضهم بعض ذلك على بعض فأباح الكل. ولم يقس بعضم من دل من الحرمين حلالاً على صيد أو أعطاه سيفاً يقتله به فلم يوجب عليه الفدية: على محرم آكل من صَيْدٍ صِيدَ من أجله فأوجب عليه الجزاء، وقاس بعضهم عليه فأوجب الجزاء في كل ذلك. ولم يقس بعضهم حكمه بأن جناية العبد في رقبته على قوله، أن أقتله الصيد ليس في رقبته.
وقاس بعضهم بيض الصيد على جنين المرأة، ولم يقسه بعضهم عليه، ولم يقس بعضهم تحريمه على المحرم ذبح صيد صاده حلال على إباحته ذبح الصيد في الحرام إذا دخل من الحل. وقاس بعضهم قاتل الأسد على قاتل الذئب، فلم ير فيه جزاء، ولم يقس قاتل النسر والعقاب على قاتل الحدأة والغراب، فرأى أن في النسر والعقاب الجزاء، ولم يقس بعضهم قاتل الأسد والخنزير على قاتل الذئب، فرأى في الأسد والخنزير الجزاء. وقاس بعضهم: إن أصاب القارن صيداً فجزاء واحد، ولم يقسه على القارن يفسد حجه، فرأى عليه هديين، وقاس بعضهم بعض ذلك على بعض فأوجب في كل ذلك هديين، وبعض أوجب في كل ذلك هدياً واحداً. وأظرف من هذا أن بعضهم قال: على العبد الفار إذا دخل مكة أن يحرم وليس ذلك على الأعجمي المسلم، ولا على الجارية المصونة للبيع، وله مثل ذلك في الفرق بين الشريعة والدنية في النكاح بغير الولي وهذا أشنع مما أنكروه من ترك القياس، لأن هذا فرق بين الناس فأين هذا مما استعملوه من التسوية بين الزاني والقتل في جلد مائة وتغريب عام؟ وبين الصداق والقطع في السرقة؟ وبين المستحاضة والمصراة؟ وهل في التخليط أكثر من هذا؟. وفرقوا ــــ أو أكثرهم ــــ بين صوم المرء عن غيره وحجه عنه، فلم يروا ذلك ولم يقيسوه على الصدقة عنه واحتجوا في ذلك بــــ {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } وهذا إن منعت من الصيام منعت من الصدقة ولا فرق ثم لم يقيسوا وصيته بالحج على وصيته بالصوم. ولم يقس بعضهم من وقف بعرفة قبل غروب الشمس، ثم دفع منها ولم يعد إليها تلك الليلة فقالوا: بطل حجه على من يقف بمزدلفة حتى طلعت الشمس من يوم النحر.
ولم يقس بعضهم من لم يدفع عن عرفة مع الإمام، في إباحة الجمع له بمزدلفة، على من لم يدرك الصلاة بعرفة مع الإمام، في إباحتهم له الجمع بين الصلاتين بعرفة، وقاس بعضهم قصر أهل منى بعرفة، وأهل عرفة بمنى، على قصر أهل مكة بمنى وعرفة، ولم يقيسوا على ذلك في سائر البلاد وقاس بعضهم كل ذلك في سائر البلاد. وقاس بعضهم الهدي على الأضحية فيما يجزي منها، ولم يقسه عليها في الذبح والنحر قبل الإمام، فأي ذلك يجزىء قبل الإمام في الهدي ولا يجزئه في الأضحية، وقاس غيره منهم بعض ذلك على بعض في الإباحة.
ولم يقس بعضهم الأعمى في وجوب الحج عليه على المقعد في سقوط الحج عنه، وقاسه بعضهم عليه.
وقال بعضهم سكان ذي الحليفة وهم على نحو مائتي ميل وخمسين ميلاً من مكة، على سكان يلملم، وهو على نحو ثلاثين ميلاً من مكة إنها لا هدي عليهما إن تمتعا، ولم يقسم على ما بينهم وبين مكة كالذي بينهم وبينها، ولم يقس أهل يلملم على أهل ذي الحليفة في قصر الصلاة والإفطار في الصوم، وساوى غيرهم منهم بين كل ذلك في إيجاب الهدي عليهم كلهم التمتع ولم يسو بينهم في قصر الصلاة، ولم يقس بعضهم لابس المخيط في الإحرام يوماً من غير ضرورة على لابسه أقل من يوم لغير ضرورة. ولم يقس بعضهم قوله في تحريم قتل المحرم للسبع الذي لا يؤذيه، وإيجاب الجزاء في ذلك، على قوله في إباحة قتله للذئب ومن لم يؤذه ولم يجعل في ذلك جزاء وهم مع ذلك ــــ قليلاً منهم ــــ يقيسون قاتل الصيد خطأ على قاتله عمداً، وعلى قاتل حيوان وغيره خطأ، فأوجبوا الجزاء في ذلك ولم يقيسوا ــــ إلا قليلاً منهم ــــ قاتل النفس عمداً على قاتلها خطأ، فلم يروا في قاتلها عمداً كفارة. وقاس بعضهم سقوط الجزاء على قاتل السبع العادي عليه على سقوط الضمان عنه في البعير العادي فيقتله، ولم يقس بعضهم ذلك فرأى الضمان على قاتل البعير العادي عليه، ولم ير الجزاء على قاتل السبع العادي عليه، وقد قاسوا بعض ذلك على بعض في إيجاب الجزاء في قتل الخطأ. ولم يقس بعضهم الحلال بقتل الصيد في الحرام ــــ في حكم الجزاء ــــ على المحرم بقتل الصيد في الحل، فرأى الصيام على المحرم، ولم يجزه للحلال إلا بالمثل والإطعام فقط وساوى الأمرين. ولم يقيسوا قاتل الصيد في حرم المدينة ــــ في إيجاب الجزاء عليه ــــ على قاتله في حرم مكة، وقد أوجب ذلك بعض السلف والخلف.
ولم يقس بعضهم من اشترى أحد أربعة أثواب بغير عينه على أن يأخذ أيها شاء بدينار بالخيار ثلاثاً، فلم يجز هذا العقد، على إجازته إذا اشترى أحد ثلاثة أثواب بغير عينه على أن يأخذ أيها شاء بدينار بالخيار ثلاثاً، وسوى بعضهم بين كل ذلك من المنع أو الجواز. ولم يقس بعضهم قوله في تحريم بيع لبن النساء محلوباً في قدح على إباحته بيع سائر الألبان محلوبة في قدح. ولم يقس بعضهم تحريم البيع قبل تمام القبض قبل التفرق في الذهب بعينه بالذهب بغير عينه، وفي الفضة بالفضة كذلك، على إباحة تمام البيع قبل تمام القبض قبل التفرق في البُر بالبُر كذلك، والشعير بالشعير كذلك، والتمر بالتمر كذلك، والملح بالملح كذلك، فأبطل البيع في الذهب بالذهب، والفضة بالفضة على كل حال، وأجازه في هذه الأربعة إذا قبض الذي بغير عينه ولم يقبض الذي بعينه، وقاس بعضهم كل ذلك في المنع من جوازه.
ولم يقس بعضهم قوله في المنع من جواز بيع شحم البطن باللحم متفاضلاً على إباحته جواز بيع شحم الظهر باللحم متفاضلاً، وسوى بعضهم بين كل ذلك. ولم يقس بعضهم قوله: «إن الألية يجوز أن تباع باللحم متفاضلاً» على منعه من بيع سائر الأعضاء باللحم متفاضلاً، وسوى بعضهم بين كل ذلك. وقاس بعضهم جواز بيع الرطب بالتمر، على جواز بيع التمر الحديث بالتمر القديم. وقاس بعضهم جواز بيع الدقيق بالبر متماثلاً على المنع من انتباذ الرطب والتمر، وقال: هما صنفان. وقاس بعضهم منعه من بيع الدقيق بالبر البتة على النهي عن بيع الرطب بالتمر وقال هما صنف واحد مجهول تماثله. ولم يقس بعضهم رجوع من أعتق مملوكاً اشتراه، ثم اطلع على عيب بأرش العيب على منعه من ابتاع طعاماً فأكله ثم اطلع على عيب كان به من الرجوع بأرش العيب.
ولم يقس بعضهم من باع مال غيره بغير إذن على من اشترى له شيئاً بغير إذنه، وساوى بعضهم بين كلا الأمرين. ولم يقس بعضهم بيع من طرأ عليه الخرس على بيع من ولد أخرس فأجازه ههنا وأبطله هنالك. ولم يقس بعضهم بيع السكران على طلاقة، فأجاز طلاقه وأبطل بيعه وقاسه بعضهم فأبطل كل ذلك، وقد أجاز كل ذلك بعضهم. ولم يقس بعضهم جواز السلم في الشحم على جوازه في اللحم، وقاس ذلك بعضهم فأجاز كل ذلك. ولم يقس بعضهم جواز السلم في السمك المالح على قوله في المنع من السلم في السمك الطري، وقاس بعضهم بعض ذلك على بعض في المنع من الكل أو جواز الكل. ولم يقس بعضهم على جواز سلم الذهب والفضة في سائر الموزونات، جواز سلم الموزونات بعضها على بعض، وقاس ذلك بعضهم فأجازه فيما عدا ما يؤكل. ولم يقس بعضهم جواز السلم في قوله بتأخير النقد لرأس المال اليوم واليومين بشرط وبغير شرط، على منعه من ذلك في الأيام الكثيرة بشرط وبغير شرط، وقاس غيره بعض ذلك على بعض في المنع من الكل. ولم يقس بعضهم جواز السلم في القمح والفاكهة والكناش واللبن، على أن يأخذ منه كل يوم مقداراً معلوماً، واشترطا تأخير نقد الثمن إلى الأجل البعيد على سائر قوله في المنع من تأخير النقد في السلم، ومن منعه الدين بالدين. ولم يقس بعضهم قوله في إباحة دقيق البُر بالبُر متماثلاً، والمنع منه متفاضلاً، على قوله: إن من سلم في قمح موصوف فحلَّ الأجل فجائز عنده أن يأخذ مكان القمح شعيراً أو سلتاً مثل كيل قمحه، ولا يأخذ دقيق قمح ولا علساً مثل مكيلة قمحه، وكل ذلك عنده صنف واحد.