ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثالث/الباب الثامن والثلاثون (11)
ثم نلزمهم إلزاماً آخر وهو: أننا نجد أيضاً شيئاً آخر حلالاً فيلزم أن يكون كل ما في العالم حلالاً، قياساً على هذا، لأنه أيضاً يشبهه من بعض الوجوه، وهذا إن قالوه، حمقوا وخرجوا عن الإسلام، وإن أبوا منه، تركوا مذهبهم الفاسد، في قياس الحكم فيما لم ينص عليه من الأنواع على ما نص عليه منها.
ثم تجمع عليهم هذين الإلزامين معاً، فيلزمهم أن يجعلوا الأشياء كلها حراماً حلالاً معاً، قياساً على ما حرم وما حلل، وهذا تخليط، ولا شك في فساد كل قول أدى إلى مثل هذا السخف، فإذ لا شك في بطلان هذا الهذيان، فالواجب ضرورة أن يحكم بالتحريم فيما جاء فيه النص بالتحريم، وأن يحكم بالتحليل فيما جاء فيه النص بالتحليل، وأن يحكم بالإيجاب فيما جاء فيه النص بالإيجاب ولا يتعدى حدود الله تعالى، فلم يبق لهم إلا أن يقولوا: إن النص لا تستوعب كل شيء.
قال أبو محمد: وهذا قول يؤول إلى الكفر، لأنه قول بأن الله تعالى لم يكمل لنا ديننا، وأنه أهم أشياء من الشريعة، تعالى الله عن هذا، والله تعالى أصدق منهم حيث يقول: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } و: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، و: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فبطل قولهم بالقياس، والحمد لله رب العالمين.
وما نعلم في الأرض، بدع السوفسطائية، أشد إبطالاً لأحكام العقول من أصحاب القياس، فإنهم يدعون على العقل ما لا يعرفه العقل، من أن الشيء إذا حرم في الشريعة وجب أن يحرم من أجله شيء آخر، ليس من نوعه ولا نص الله تعالى ولا رسوله على تحريمه، وهذا ما لا يعرفه العقل ولا أوجب العقل قط تحريم شيء ولا إيجابه، إلا بعد ورود النص، ولا خلاف في شيء من العقول، أنه لا فرق بين الكبش والخنزير.
ولولا أن الله حرَّم هذا وأحلَّ هذا، فهم يبطلون حجج العقول جهاراً، ويضادون حكم العقل صراحاً، ثم لا يستحبون أن يصفوا بذلك خصومهم، فهم كما قال الشاعر: ويأخذ عيب الناس من عيب نفسه مراد لعمري ما أراد قريب وأيضاً: فإنه يقال لهم: إذا قلتم: إن كل شيئين اشتبها في صفة ما، فإنه يجب التسوية بين أحكامهما في الإيجاب والتحليل وبالتحريم في الدين؛ فما الفرق بينكم وبين عكس من عليكم هذا القول بعينه، فقال: بل كل شيئين في العالم إذا افترقا في صفة ما، فإنه يجب أن يفرق أحكامهما في الإيجاب والتحليل والتحريم في الدين؟. فأجاب بعضهم بأن قال: هذا لا يجب دون أن يأتي بفرق. فقال أبو محمد: وهذا تحكم عاجز عن الفرق، ويقال له: بل قولك هو الذي لا يجب، فما الفرق؟. وقال بعضهم: هذا قياس منكم، فإنكم ترومون إبطال القياس بالقياس، فأنتم كالذين يرومون إبطال حجة العقل بحجة العقل. قال أبو محمد: فيقال لهم، وبالله تعالى التوفيق، لم نحتج عليكم بهذا تصويباً منا له ولا للقياس، لكن أريناكم أن قولكم بالقياس ينهدم بالقياس، ويبطل بعضه بعضاً وليس في العالم أفسد من قول من يفسد بعضه بعضاً، فأنتم إذا أقررتم بصحة القياس فنحن نلزمكم ما التزمتم به ونحجكم به، لأنكم مصوبون له، مصدقون لشهادته، وهو قولكم بالفساد وعلى مذاهبكم بالتناقض، أقررتم به أو أنكرتموه، وأما نحن فلم نصوبه قط، ولا قلنا به، فهو يلزمكم ولا يلزمنا، وكل أحد فإنما يلزمه ما التزم، ولا يلزم خصمه، كما أن أخبار الآحاد المتصلة بنقل الثقات لازم لنا للاحتجاج بها علينا في المناظرة، ولا نلزم من أنكرها، فمن ناظرنا بها لم ندفعه عما يلزمنا بها، وهذا هو فعلنا بكم في القياس. وأما تشبيهكم إيانا في ذلك بمن جنح في إبطال حجة العقل بحجة العقل، فتشبيه فاسد، لأن المحتج علينا في إبطال حجة العقل لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يصوب ما يحتج به ويحققه فقد تناقض، أو يبطل ما يأتي به فقد كفانا مؤنته، ولسنا نحن كذلك في احتجاجنا عليكم بالقياس، لكنا نقول لكم: إن كان القياس حقّاً عندكم فإنه يلزمكم منه كذا وكذا، وليس يقول لنا المبطلون لحجج العقول هكذا، لكنهم محققون لما يحتجون به، فيتناقضون إذا حققوا ما أبطلوا، كما تناقضتم أنتم في إبطالكم ما حققتموه من نتائج القياس، فطريقكم هي طريقهم.
ونحن نقول: إن هذا الذي نعارضكم به من القياس أنتم التزمتم حكمه، وهو عندنا باطل، كقولكم سواء بسواء، فإن التزمتموه أفسد قولكم، وإن أبيتموه فكذلك لأنكم تقرون حينئذ بإبطال ما قد صوبتموه، ولا فساد أشد من فساد قول أدى إلى التزام الباطل، وليس من يبطل قضايا العقل كذلك، لأنه لا يصح شيء أصلاً إلا بالعقل أو بالحواس مع العقل، أو ما أنتج من ذلك، فمن أبطل حجة العقل ثم ناظر في ذلك بحجة العقل، فإن صححها رجع إلى الحق ودخل معنا، وإن أبطلها سقط القول معه، لأنه يقر أنه يتكلم بلا عقل، وليس القياس هكذا بإقراركم. ويكفي من هذا: أن من رام إبطال حجة العقل بحجة فقد رام ما لا يجده أبداً، وحجة العقل لا تبطل حجة العقل أصلاً، بل توجبها وتصححها، وكذلك من رام إبطال خبر الواحد بخبر الواحد، فإنه لا يجد أبداً خبراً صحيحاً يبطل خبر الواحد. وهكذا كل شيء صحيح، فإنه لا يوجد شيء صحيح يعارضه أبداً، هذا يعلم ضرورة، ولو كان ذلك لكان الحق يبطل الحق، وهذا محال في البنية، وليس كذلك القياس لأنه يبطل بالقياس جهاراً وبأسهل عمل، فصح أنه باطل، وهكذا كل باطل في العالم فإنه يبطل بعضه بعضاً بلا شك. وقال بعضهم: من الدليل على أن حكم المماثلين حكم واحد أن الله عز وجل قد تحدى العرب بأن يأتوا بمثل هذا القرآن وأعلم أنهم لو أتوا بمثله لكان باطلاً، لأن مثل الباطل لا يكون إلا باطلاً، ومثل الحق لا يكون إلا حقّاً. قال أبو محمد: هذا قول صحيح، وهو حجة عليهم، لأن المشبه للباطل في أنه باطل هو بلا شك باطل، وبهذا أبطلنا القياس بالقياس، ورأينا أنه كله باطل، وليس ما أشبه الباطل في أنه مخلوق مثله، وأنه كلام مثله، يكون باطلاً بل هذا حكم يؤدي إلى الكفر، لأن الكفر كلام، والكذب كلام، والقرآن كلام، والحق كلام. وليس ذلك بموجب اشتباه كل ذلك في غير ما اشتبه فيه يرومون.
وأيضاً فهذا من ذلك التمويه الذي إذا كشف عاد مبطلاً لقولهم بعون الله عز وجل، وذلك أننا لم ننكر قط أن ما وقع عليه مع غيره اسم يجمع تلك الأشخاص، فإنها كلها مستحقة لذلك الاسم، بل نحن أهل هذا القول. ونقول: إن كل ما يوضع من الكلام في غير مواضعه التي وضعها الله تعالى فيها في الشرائع أو في غير المواضع التي وضعه فيها أهل اللغات للتفاهم فهو باطل وتحريف للكلم عن مواضعه، وتبديل له، وهذا محرم بالنص وتدليس بضرورة العقل، وكل ما كان من الكلام موضوعاً في مواضعه التي ذكرنا فهو حق. فإذ لا شك في هذا، فلم نحكم لشيء من الباطل بأنه باطل من أجل شبهه بباطل آخر، بل ليس أحد الباطلين أولى أن يكون باطلاً من سائر الأباطيل، بل كل الأباطيل في وقوعها تحت الباطل سواء، ولا أحد الحقين أولى أن يكون حقّاً من حق آخر، بل كل حق فهو، في أنه حق، سواء مع سائر الحقوق كلها، وليس شيء من ذلك مقيساً على غيره.
والقول مطرد هكذا بضرورة العقل في كل ما في العالم من الشرائع وغيرها فكذلك كل بر فهو بر، وكل تمر فهو تمر، وكل ما أشبه البر مما ليس برّاً، فليس برّاً، وكل ما أشبه الذهب مما ليس ذهباً فليس ذهباً، وكل ما أشبه الحرام مما لم ينه النص عنه فليس حراماً، وهكذا جميع الأشياء أولها عن آخرها، فهذا الذي أتوا به مبطل للقياس لو عقلوا وأنصفوا أنفسهم، وبالله تعالى التوفيق. وإنما عوَّل القوم على التمويه والكذب والتلبيس على من اغتر بهم، فقالوا: إن أصحاب الظاهر ينكرون تماثل الأشياء، ثم جعلوا يأتون بآيات وأحاديث ومشاهدات فيها تماثل أشياء. وهذا خداع منهم لعقولهم وما أنكرنا قط تماثل الأشياء، بل نحن أعرف بوجوه التماثل منهم، لأننا حققنا النظر فيها، فأبانها الله تعالى لنا، وهم خلطوا وجه نظرهم، فاختلط الأمر عليهم، وإنما أنكرنا أن نحكم للمتماثلات في صفاتهما من أجل ذلك في الديانة بتحريم أو إيجاب أو تحليل، دون نص من الله تعالى أو رسوله ، أو إجماع من الأمة، فهذا الذي أبطلنا، وهو الباطل المحض، والتحكم في دين الله تعالى بغير هدى من الله، نعوذ بالله من ذلك، وقالوا أيضاً: إن أصحاب الظاهر يبطلون حجج العقول. قال أبو محمد: وكذبوا بل نحن المثبتون لحجج العقول على الحقيقة، وهم المبطلون لها حقّاً، لأن العقل يشهد أنه يحرم دون الله تعالى، ولا يوجب دون الله تعالى شريعة، وأنه إنما يفهم ما خطب الله تعالى به حامله، ويعرف الأشياء على ما خلقها الله تعالى عليه فقط، وهم يحرمون بعقولهم ويشرعون الشرائع بعقولهم، بغير نص من الله تعالى، ولا من رسوله ، ولا إجماع من الأمة، فهذا هو إبطال حجج العقول على الحقيقة، وبالله تعالى التوفيق. واحتجوا بالموازنة يوم القيامة. قال أبو محمد: وهذا من أغرب ما أبدوا فيه عن جهلهم، وهل هذا إلا نص جليّ؟ وأي شيء من موازنة أعمال العباد؟ وجزاء المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، والعفو عن التائب بعد أن أجرم، والعفو عن الصغائر باجتناب الكبائر، والمؤاخذة بها لمن فعل كبيرة وأصر عليها، مما يحتج به في إيجاب تحريم الأرز بالأرز متفاضلاً، وهل يعقل وجوب هذا من موازنة الأعمال يوم القيامة، وجزاء الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة، وجزاء السيئة بمثلها، إلا مجنون مصاب. وقالوا: أخبرونا عن قولكم بالدليل: أبنص قلتموه، أم بغير نص؟ فإن قلتم: قلناه بنص، فأروناه، وإن قلتم: بغير نص، دخلتم فيما عبتم من القياس.
قال أبو محمد: وقد أفردنا فيما خلا من كتابنا هذا باباً لبيان الدليل الذي نقول به فأغني عن ترداده، إلا أننا نقول ههنا جواباً لهم، وبالله تعالى التوفيق، ما لا يستغني هذا المكان عن إيراده وهو أن الدليل نقول: هو المقصود بالنص نفسه وإن كان بغير لفظه، كقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } فبالضرورة نعلم أنه ليس بسفيه، ومثل قول رسول الله : «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» فصح ضرورة من هذا اللفظ أن كل مسكر حرام. فدليلنا هو النص والإجماع نفسه، لا ما سواهما، وبالله تعالى التوفيق. وقالوا: لا نص في ميراث من بعض حر وبعضه عبد، ولا في حده، ولا في ديته، فما تقولون في ذلك؟ وكذلك نكاحه وطلاقه والجناية عليه ومنه. قال أبو محمد: وصاحب هذا الكلام كان أولى به أن يتعلم قبل أن يتكلم، وذلك أن النص ورد بعموم ميراث الأبناء والبنات والآباء والأمهات، والإخوة والأخوات، والعصبة والأزواج، فواجب ألا يخرج عن النص أحد فيمنع الميراث إلا بنص، والنص قد صح من حديث عليّ، وابن عباس: «إن المكاتب إذا أصاب حدّاً أو دية أو ميراثاً، ورث وورث منه، وأقيم عليه الحد، وودي بمقدار ما أدى دية وميراث حر، وبمقدار ما لم يؤده دية عبد وميراث عبد، فحص أن العبد لا يرث» . وقد قال قوم من العلماء: إن لهما من الميراث بمقدار ما فيهما من الحرية، وقال آخرون: لا شيء لهما من الميراث فكان قول هؤلاء مساقطاً لمخالفته النص؛ ولأنه دعوى بلا دليل، فلم يبق قول من قال: إن لهما من الميراث بمقدار ما فيهما من الحرية فقلنا به. فهكذا القول في حده وديته إذ قد بطل قول من قال: إن حده كحد الحر بحديث ابن عباس في المكاتب، إذاً في نص ذلك الحديث الفرق بين حد الحر وحد العبد. وأما نكاحه فإن النص جاء بأن كل عبد نكح بغير إذن مواليه فنكاحه عهر، والمعتق بعضه ليس عبداً كله ولا حرّاً كله، ولا ينتقل عن حكمه المجمع عليه، والثابت عليه بالنص إلا بنص آخر أو إجماع، فهو غير خارج عن هذا النص فليس له أن ينكح كسائر المسلمين إلا بإذن من له فيه ملك، وطلاقه جائز على عموم النص في المطلقين. وأما جنايته والجناية عليه وشهادته فكالأحرار، ولا فرق إذ لم يمنع من ذلك نص ولا إجماع هذا مع صحة حديث ابن عباس في ميراث المكاتب وديته وحدوده، وإن ذلك بمقدار ما فيه من الحرية والرق.
وقسموا أنواع القياس فقال بعضهم: من القياس قياس المفهوم، مثل قياس رقبة الظهار على رقبة القتل، قالوا: ومنه قياس العلة، كالعلة الجامعة بين النبيذ والخمر وهي الإسكار والشدة، ومنه قياس الشبه، ثم اختلفوا في هذا النوع من القياس، فقالوا: هو على الصفات الموجودة في العلة، وذلك مثل أن يكون في الشيء خمسة أوصاف من التحليل وأربعة من التحريم، فيغلب الذي فيه خمسة أوصاف على الذي فيه أربعة أوصاف، وقال آخرون منهم: وهو على الصور، كالعبد يشبه البهائم في أنه سلعة متملكة، ويشبه الأحرار في الصور الآدمية، وأنه مأمور منهي بالشريعة. قال أبو محمد: وكل هذا فاسد باطل متناقض لأنه كله دعاوى باردة بلا دليل على صحة شيء منها ثم تسميتهم قياس الرقبة في الظهار على الرقبة في القتل أنه مفهوم، وليت شعري بماذا فهموه حتى علموا أنها لا تجزىء إلا مؤمنة؟ هذا وقد خالفهم إخوانهم من القائسين في ذلك من أصحاب أبي حنيفة، فلم يفهموا من هذا القياس العجيب ما فهم الشافعي والمالكي، وكل ما فهم من كلام فأهل اللغة متساوون في فهمه بلا شك، فصار دعواهم للفهم كذباً، ثم هلا إذا فهموا أن كلتا الرقبتين سواء، مشوا في قياسهم ففهموا أنه يجب التعويض من الصيام في القتل إطعام ستين مسكيناً كالتعويض لذلك من صيام الظهار، كما تساوى التعويض من رقبتي الظهار والقتل، صيام شهرين متتابعين، فما هذا التباين في فهم ما لا تقضيه الآية ولا اللغة؟. وأما قولهم: قياس العلة، وأن النبيذ مقيس على الخمر ــــ فكذب مجرد بارد سمج، وجرأة على الله تعالى، وقد قال رسول الله : «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» فساوى بين كل مسكر، ولم يخص من عنب ولا تمر ولا تين ولا عسل ولا غير ذلك، ثم أخبر أن كل مسكر حرام، فليست خمر العنب في ذلك بأولى من خمر التين، ولا خمر العنب أصلاً وغيرها فرعاً، بل كل ذلك سواء بالنص، فظهر برد قولهم وفساده.
فإن قالوا: فهلا كفرتم من استحل نبيذ التين المسكر، كما تكفرون مستحل عصير العنب المسكر؟. قيل له، وبالله تعالى التوفيق: إنما كفرنا من استحل عصير العنب المسكر لقيام الحجة بالإجماع، ولو استحله جاهل لم يعرف الإجماع في ذلك ما كفرناه حتى يعرفه بالإجماع، وكذلك لم نكفر مستحل نبيذ التين لجهله بالحجة في ذلك، ولو أنه يصح عنه قول النبي في تحريم كل مسكر على عمومه، ثم يستجيز مخالفة النبي ، لكان كافراً بلا شك وقد أفردنا بعد هذا باباً ضخماً في إبطال قولهم في العلل، وبالله تعالى التوفيق.
وأما قولهم في موازنة صفات التحليل وصفات التحريم، فإنا نقول لهم: هبكم، لو سامحناكم في هذا الهذيان المفترى، وماذا تصنعون إذا تساوت عندكم صفات التحريم وصفات التحليل؟ فإن قالوا: نغلب التحريم احتياطاً. قلنا لهم: ولم لا تغلبوا التحليل تيسيراً؟ لقول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وإن قالوا: نغلب التحليل، قيل لهم: وهلا غلبتم التحريم؟. ولقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } فظهر بطلان قولهم وفساده، وبالجملة فليس تغليب أحد الوجهين أولى من الآخر، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } فنص تعالى على أن كل محرم ومحلل بغير نص من الله تعالى فهو كاذب ومفتر، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضاً: فلو كانت صفة شبه التحريم توجب التحريم، وصفة شبه التحليل توجب التحليل، لما وجد كلا الأمرين في شيء واحد البتة، لأنه كان يجب من ذلك أن يكون الشيء حراماً حلالاً معاً، وهذا حمق محال. فصح أن الشبه لا يوجب تحريماً ولا تحليلاً، كثرت الأوصاف بذلك أو قلَّت. وقد أقدم بعضهم فقال: إن الله تعالى قال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } قالوا: غلب تعالى الإثم فحرمها.
قال أبو محمد: هذا من الجرأة على القول على الله تعالى بغير علم، وهذا يوجب إن الله تعالى اعترضه في الخمر والميسر أصلان: أحدهما المنافع، والثاني الإثم، فغلب الإثم، هذا هو نص كلامهم وظاهره ومقتضاه، وليت شعري، من رتب هذا الإثم في الخمر والميسر؟ وقد كانا برهة قبل التحريم حلالين لا إثم فيهما، وقد شربها أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، وأهديت إلى النبي وتنادم الصالحون عليها أزيد من ستة عشر عاماً، في الأصل صح ذلك عن عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وحمزة، وأبي عبيدة بن الجراح، وسهيل بن بيضاء، وأبي بن كعب، وأبي دجانة، وأبي طلحة، وأبي أيوب، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وغيرهم كلهم شربوا الخمر بعد الهجرة، واصطحبها جماعة يوم أُحد ممن أكرمهم الله تعالى في ذلك اليوم بالشهادة، فهل أحدث الإثم فيها بعد أن لم يكن إلا الله تعالى؟ فأين قول هؤلاء النوكى: إن الله تعالى حرمها لأجل الإثم الذي فيها، أو لأجل الشدة والإسكار؟ وهل هذا إلا كذب بحت؟ وهل حدث الإثم إلا بعد حدوث التحريم بلا فصل؟ وهل خلط قط عن الشدة والإسكار مذ خلقها الله تعالى، فبطل قولهم بتجاذب الأوصاف، والحمد لله كثيراً. وأما قولهم في تغليب الصورة الآدمية في العبيد على شبهة البهائم، إنه سلعة مملوكة، فقول بارد وهلا، إذ فعلوا ذلك، قبلوا شهادته إذ غلبوا شبهة الأحرار على شبهة البهائم؟ وهل هذا كله إلا لهو ولعب، وشبيه بالخرافات؟ نعوذ بالله من الخذلان، ومن تعدي حدوده، ومن القول في الدين بغير نص من الله تعالى أو رسوله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وإذا أبطلوا حكم الشبه من أجل شبه آخر أقوى منه، فقد صاروا إلى قولنا في إبطال حكم التشابه في إيجاب حكم له في الدين لم يأت به نص، ثم تناقضوا في إثباته مرة وإبطاله أخرى بلا برهان. وشنع بعضهم بأن قال: إن إبطال القياس مذهب النظام، ومحمد بن عبد الله الإسكافي، وجعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر، وعيسى المراد، وأبي عفار، وبعض الخوارج، وإن من هؤلاء من يقول: إن بنات البنين حلال، وكذلك الجدات، وكذلك دماغ الخنزير.
قال أبو محمد: ولسنا ننكر أن تقول اليهود لا إله إلا الله، ونقولها أيضاً نحن، ولكن إذا ذكروا هؤلاء فلا تنسوا القائلين بقولهم القياس، أبا الهذيل العلاف، وأبا بكر بن كيسان الأصم، وجهم بن صفوان، وبشر بن المعتمر، ومعمراً وبشراً المريسي، والأزارقة، وأحمد بن حائط، ومن هؤلاء من يقول بقياس الأطفال على الكبار، وأنهم نسخت أرواحهم في الأطفال، وبالقياس على قوم نوح، فأباحوا قتل الأطفال، وقاسوا فناء الجنة والنار على فناء الدنيا، وغير ذلك من شنيع الأقوال. فهذا كل ما موَّهوا به في نص القياس قد تقصيناه والحمد لله، ولم ندع منه بقية، وبيَّنا ــــ بعون الله ــــ أنه لا حجة لهم بوجه من الوجوه، ولا متعلق في شيء منه البتة، وأنه كله عائد عليهم، ومبطل لقولهم في إثبات القياس، وقد كان هذا يكفي من تكلف إبطال القياس، لأن كل قول لا يقوم بصحته برهان فهو دعوى ساقطة ولكنا لا نقطع بذلك حتى نورد ــــ بحول الله ــــ البراهين القاطعة على إبطال القياس والقول به.
فصل في إبطال القياس
وهذا حين نأخذ في إبطال القياس بالبراهين الضرورية إن شاء الله تعالى. قال أبو محمد: ويقال للقائلين بالقياس: أليس قد بعث الله عز وجل محمداً رسولاً إلى الإنس والجن، فأول ما دعاهم إليه فقول «لا إله إلا الله» ورفض كل معبود دون الله تعالى، ومن وثن وغيره، وأنه رسول الله فقط لم يكن في الدين شريعة غير هذا أصلاً، لا إيجاب حكم، ولا تحريم شيء؟. فمن قولهم وقول كل مسلم وكافر: نعم، هذا أمر لا شك فيه عند أحد، فإذ هذا لا خلاف فيه ولا شك فيه، ولا ينكره أحد، فقد كان الدين والإسلام لا تحريم فيه، ولا إيجاب، ثم أنزل الله تعالى الشرائع، فما أمر به فهو واجب، وما نهى عنه فهو حرام، ومالم يأمر به ولا نهى عنه فهو مباح مطلق، حلال كما كان، هذا أمر معروف ضرورة بفطرة العقول من كل أحد ففي ماذا يحتاج إلى القياس أو إلى الرأي؟. أليس من أقر بما ذكرنا ثم أوجب ما لا نص بإيجابه، أو حرم ما لا نص بالنهي عنه، قد شرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى؟ وقال ما لا يحل القول به؟ وهذا برهان لائح واضح وكاف لا معترض فيه.
ثم يقال لهم أيضاً وبالله تعالى التوفيق: فماذا يحتاج إلى القياس؟ أفيما نص عليه الله تعالى ورسوله ؟ أم فيما لم ينص عليه؟ فإن قالوا: فيما نص عليه، فارقوا الإجماع، وقاربوا الخروج عن الإسلام، لأنه لم يقل بهذا أحد، وهو مع ذلك قول لا يمكن أحد أن يقوله، لأنه لا قياس إلا على أصل يرد ذلك الفرع إليه، ولا أصل إلا نص أو إجماع، فصح على قولهم أن القياس إنما هو مردود إلى النص.
وإن قالوا: فيما لم ينص عليه، فقلنا وبالله تعالى التوفيق: قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وقال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } وقال تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } وقال في حجة الوداع: «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ قالوا: نعم. قال: اللَّهُمَّ اشْهَدْ» .
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، ثنا أحمد بن عون الله، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا الخشني، ثنا محمد بن المثنى، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن مرة الهمداني قال: قال عبد الله بن مسعود: من أراد العلم فليثر القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين، هكذا رويناه عن مسروق والزهري، أنه ليس شيء اختلف فيه إلا وهو في القرآن، فصح بنص القرآن أنه لا شيء من الدين وجميع أحكامه إلا وقد نص عليه، فلا حاجة بأحد إلى القياس. فإن قالوا: إنما نقيس النوازل، من الفروع على الأصول. قال أبو محمد: وهذا، لأنه ليس في الدين إلا واجب أو حرام أو مباح، ولا سبيل إلى قسم رابع البتة، فأي هذه أصل، وأي هذه فرع فبطل قولهم، وصح أن أحكام الدين كلها أصول لا فرع فيها، وكلها منصوص عليه، فلما اختلف الناس قط إلا في الأصول، كالوضوء والصلاة والزكاة والحج، والحرام من البيوع والحلال منها، وعقود النكاح والطلاق وما أشبه ذلك. فإن قالوا: لسنا ننكر أن الله تعالى لم يفرط في الكتاب من شيء، ولا أن النبي بين، ولكن النص والبيان ينقسم قسمين: أحدهما نص على الشيء باسمه، والثاني نص عليها بالدلالة، وهذا هو الذي نسميه قياساً، وهو التنبيه على علة الحكم، فحيثما وجدت تلك العلة حكم بها. قالوا: وهذا هو الاختصار وجوامع الكلم التي بعث بها رسول الله . قيل لهم: وبالله تعالى التوفيق: هذا هو الباطل، لأن الذي تذكرون دعوى بلا دليل، وتلك الدلالة تخلو من أن تكون موضوعة في اللغة، التي بها خوطبنا وبها نزل القرآن، لذلك المعنى بعينه. فهذا غير قولكم، وهذا هو القسم الأول من النص على الشيء باسمه، فلا تموِّهوا فتجعلوا النص قسمين، أو تكون تلك الدلالة غير موضوعة في اللغة، التي بها خوطبنا وبها نزل القرآن، لذلك المعنى، فإن كانت كذلك فهذا هو التلبيس والتخليط الذي تنزه الله تعالى، ونزه رسوله عنه، ولا يحل لأحد أن ينسب هذا إلى الله تعالى، ولا إلى رسوله . وهذا برهان ضروري، ولا محيد عنه، بين لا إشكال فيه على من له أقل فهم، وليس هذا طريق اختصار، ولا تنبيه ولا بيان، ولكنه خبط وإشكال وإفساد وتدليس. ولا تنبيه ولا بيان فيمن يريد أن يعلمنا حكم الصداق، فلا يذكر صداقاً ويدلنا على ذلك بما نقطع فيه اليد، أو يريد الأكل فيذكر الوطء، أو يريد الجوز فيذكر الملح، أو يريد المخطىء فيذكر المتعمد، وهذا تكليف ما لا يطاق، وإلزام لعلم الغيب والكهانة، وإيجاب للحكم بالظن الكاذب، تعالى الله عن ذلك وتنزه رسول الله عنه.
وإنما الاختصار وجوامع الكلم والتنبيه أن يأتي إلى المعنى الذي يعبر عنه بألفاظ كثيرة فيبينه بألفاظ مختصرة جامعة يسيرة، لا يشذ عنها شيء من المراد بها البتة، ولا تقتضي من غير المراد بها شيئاً أصلاً، فهذا هو حقيقة الاختصار والبيان والتنبيه. وذلك مثل قول الله تعالى: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } فدخل تحت هذا اللفظ مالو تقصى لملئت منه أسفار عظيمة، من ذكر قطع الأعضاء عضواً عضواً، وكسرها عضواً عضواً، والجراحات جرحاً جرحاً، والضرب هيئة هيئة، وذكر أحد الأموال وسائر ما يقتضيه هذا المعنى من تولي المجني عليه للاقتصاص، ونفاذ أمره في ذلك. ومثل قوله : «جُرْحُ العَجْمَاءِ جُبَارٌ» وسائر كلامه . وأما من إسقاط معاني أرادها، فلم يذكرها بالاسم الموضوع لها في اللغة التي بها خوطبنا، وطمع أن يدل عليها باسم غير موضوع لها في اللغة:، فهذا فعل الشيطان المريد إفساد الدين والتخليط على المسلمين، لا فعل رب العالمين، وخاتم النبيين. وبالله تعالى نستعين. فإن قالوا: لسنا نقول: إنه تنزل نازلة لا توجد في القرآن والسنة، لكنا نقول إنه يوجد حكم بعض النوازل نصّاً وبعضها بالدليل. قيل لهم، وبالله تعالى التوفيق: إن هذا حق، ولكن إذا كان هذا الدليل الذي تذكرون لا يحتمل إلا وجهاً واحداً. فهذا قولنا لا قولكم، وأما إن كان ذلك الدليل يحتمل وجهين فصاعداً فهذا ينقسم على قسمين: إما أن يكون هنالك نص آخر بين مراد الله تعالى من ذينك الوجهين فصاعداً بياناً جليّاً أو إجماع كذلك، فهذا هو قولنا، والنص بعينه لم نزل عنه، وإما ألا يكون هنالك نص آخر ولا إجماع يبين بأحدهما مراد الله عز وجل من ذلك ــــ فهذا إشكال وتلبيس، تعالى الله عن ذلك، ولا يحل لأحد أن ينسب هذا إلى شيء من دين الله تعالى، الذي قد بينه غاية البيان رسوله .
فإن قالوا: إن التشابه بين الأدلة هو أحد الأدلة على مراد الله تعالى. قيل لهم: هذه دعوى تحتاج إلى دليل يصححها، وما كان هكذا فهو باطل بإجماع، ولا سبيل إلى وجود نص ولا إجماع يصحح هذه الدعوى، ولا فرق بينها وبين من جعل قول إنسان من العلماء بعينه دليلاً على مراد الله تعالى في تلك المسألة، وكل هذا باطل وافتراء على الله تعالى.