إعراب القرآن للسيوطي/الثالث
الثالث ما جاء في التنزيل معطوفاً بالواو والفاء
فمن ذلك قوله تعالى: " إياك نعبد وإياك نستعين " ألا ترى أن الاستعانة على العبادة قبل العبادة ومن ذلك قوله تعالى: " وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة ".
وقال عز من قائل في سورة الأعراف: " وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً " والقصة قصة واحدة ولم يبال بتقديم الدخول وتأخيره عن قول الحطة.
ومثله: " فاعفوا واصفحوا " لأن العفو ألا يكون في القلب من ذنب المذنب أثر والصفح أن يبقى له أثر ما ولكن لا تقع به المؤاخذة.
ومن ذلك قوله تعالى: " يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين " والسجود قبل الركوع ولم يبال بتقديم ذكره لما كان بالواو فوجب أن يجوز تقديم غسل اليد والرجل على غسل الوجه في قوله تعالى: " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ".
ومن ذلك قوله تعالى: " إنى متوفيك ورافعك إليَّ " والرفع قبل التوفي.
ومن ذلك قوله تعالى: " ووهبنا له إسحاق ويعقوب " إلى قوله: " وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً " فأخر لوطا عن إسماعيل وعيسى.
ومن ذلك قوله تعالى: " رب موسى وهارون " في الأعراف وفي طه: " برب هارون وموسى ".
وفي الشعراء أيضاً فبدأ أولا بموسى ثم قدم هارون في الأخريين.
ومن ذلك قوله تعالى: " فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة " وإمطار احجارة قبل جعل الأسافل أعالي.
فقدم وأخر الإمطار.
نظيره في سورة الحجر.
وقال تعالى: " فكيف كان عذابي ونذر " والنذر قبل العذاب.
وفسر قوله تعالى: " فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت " أي: وانتفخت لظهور نباتها فيكون من هذا الباب وفسروها بأضعف نباتها فلا يكون من هذا الباب.
وأما قوله تعالى: " وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا " فلا يخلو أهلكناها من أن يكون خبراً أو صفة فالذي يقوى الخبر قوله تعالى: وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها ".
وقوله تعالى: " وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح ".
فكما أن كم في هذه المواضع محمولة على أهلكنا كذلك إذا شغل عنها الفعل بالضمير ترتفع بالابتداء مثل زيداً ضربت وزيد ضربته.
ومن قال: زيدا ضربته كان قوله تعالى: " وكم من قرية أهلكناها " كم في موضع النصب.
فإن قلت: فما وجه دخول الفاء في قوله فجاءها بأسنا والبأس لا يأتي المهلكين إنما يجيئهم البأس قبل الإهلاك ومن مجئ البأس يكون الإهلاك فإنه يكون المعنى في قوله أهلكناها قربت من الهلاك ولم تهلك بعد ولكن لقربها من الهلاك ودنوها وقع عليها لفظ الماضي لمقاربتها له وإحانته إياها.
ونظير هذا قولهم: قد قامت الصلاة إذا كان المقيم مفرداً وإن لم تقع التحريمة بها للقرب من التحريمة بها.
ومنه قول رؤبة: يا حكم الوارث عن عبد الملك أوديت إن لم تحب حبو المعتنك فأوقع لفظ الماضي على الهلاك لمقاربته منه ومراده الآتي.
ألا ترى أنك لا تقول: أتيتك إن قمت وإنما تقول: آتيك إن قمت.
فمن حيث كان معناه الآتي قال: إن لم تحب ومن حيث قارب ذاك أوقع عليه لفظ الماضي وكأن المعنى: كم من قرية قاربت الهلاك فجاءها البأس ليلاً أو نهاراً فأهلكناها خبر على هذا.
وقوله فجاءها معطوف.
فإن جعلت أهلكناها صفة للقرية ولم تجعله خبراً ف كم في المعنى هي القرية.
فإذا وصفت القرية فكأنك قد وصفت كم إذ كان كم في المعنى هو القرية.
ويدلك على ذلك قوله تعالى: " وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً فعاد الذكر على كم على المعنى إذ كانت الملائكة في المعنى.
وعلى هذا قال: " أو هم قائلون " فيعاد مرة الذكر على لفظ القرية ومرة على معناها فيكون دخول الفاء في قوله: " فجاءها بأسنا " على حد: كل رجل جاءني فله درهم فيكون المعنى: كم من قرية جاءها الهلاك فقاربت البأس فكان سبب الإهلاك مجئ البأس لأن الإهلاك إنما يكون عما يستحق له الإهلاك فكأنها استحقت الإهلاك فجاءها البأس فصار نزول البأس استحقاق ذلك.
فإذا سلكت فيه هذا المسلك لم يجز في موضع كم النصب لأن من قال: زيدا ضربته لا يقول: أزيداً أنت رجل تضربه إذا جعلت تضربه صفة للرجل.
وكذلك أهلكناها إذا جعلتها صفة ولم تجعلها خبراً.
ويكون قوله فجاءها في موضع الخبر كما أن قوله فله درهم من قولك: كل رجل يأتيني فله درهم في موضع الخبر.
ويجوز أيضاً أن تكون الفاء عاطفة جملة على جملة على تقدير: جاءها البأس قبل الإهلاك لأن المعنى يدل على أن البأس مجئ الإهلاك فصار جاءها بأسنا كالتبيين للإهلاك لهم والتعريف لوقته.
قال أبو سعيد: دخول الفاء في هذا الموضع ونحوه يجري مجرى الفاء في جواب الشرط وجواب الشرط قد يكون متأخراً في الكلام ومتقدماً في المعنى كقول القائل: من يظهر منه الفعل المحكم فهو عالم به ومن يقتصد في نفقته فهو عاقل.
ومعلوم أن العلم بالفعل المحكم قبل ظهوره وعقل المقتصد قبل الاقتصاد ممتنع.
وإنما يقدر في ذلك: من يظهر منه الفعل فيحكم أنه عالم به.
وكذلك لو جعلناه جزاء فقلنا: زيد إن ظهر منه الفعل المحكم فهو عالم فهو محكوم له بالعلم بعد وكذلك قوله تعالى: " فجاءها بأسنا بياتاً " لما أهلكها الله حكم بأن البأس جاءها بياتاً أو بالنهار.
ونحو هذا في القرآن والكلام كثير.
قال الله تعالى: " فلم تقتلون أنبياء الله " والخطاب لليهود بعد قتل أسلافهم الأنبياء على معنى: لم ترضون بذلك وقال عز من قائل: " إذا زلزلت الأرض زلزالها " إلى قوله " فمن يعمل مثقال ذرة " الآية.
ومعلوم أنه لا يشترط في الآخرة شروط الثواب والعقاب.
وفي هذا جوابان.
أحدهما: أن معنى " فمن يعمل " أي: فمن يظهر ذلك اليوم في صحيفته خير أو شريرى مكافأته.
والآخر: أن المعنى: فمن يعمل في الدنيا.
ويكون كون الفاء بعد ذكر ما ذكر في الآخرة على معنى: أن ما يكونه الله في الآخرة من الشدائد التي ذكرها توجب أنه من عمل في الدنيا خيراً أو شراً يره كما يقول القائل: الآخرة دار المجازاة فمن يعمل خيراً يره.
ولم يرد خيراً مستأنفاً دون ما عمله العاملون.
وقد يكون ذلك أيضاً على مذهب الإرادة فيكون التقدير: وكم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا.
كما قال الله تعالى " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم " والقيام بعد غسل الوجه.
والمعنى: إذا أردتم القيام إلى الصلاة.
قال الفراء: ربما أتى ما بعد الفاء سابقاً إذا كان في الكلام دليل السبق.
فإذا عدم الدليل لم يجز.
وذكر قول الله تعالى: " وكم من قرية أهلكناها فجاءها باسنا " فذكر عن قوم قالوا: البأس قبل الإهلاك كما تأولوا في " ثُمَّ " مثل هذا في قوله تعالى: " خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها " أي ثم خلقكم منها.
وقيل: معناها: خلقكم من نفس وحدها جعل الزوج منها بعد التوحيد فأفادت واحدة هذا المعنى.
قال: والأجود في قوله تعالى: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة " أن يريد: ولقد خلقنا أصلكم الذي هو آدم كما قال: " هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً " معناه: خلق أصلكم الذي هو آدم من طين.
وقال الفراء في قوله تعالى: " فجاءها بأسنا " إذا كان الشيئان يقعان في حال واحدة نسقت بأيهما شئت على الآخر بالفاء كقولك: أعطيتني فأحسنت وأحسنت فأعطيتني لا فرق بين الكلامين لأن الإحسان والإعطاء وقتهما واحد.
قال أبو سعيد: وهذا مشبه الذي بدأت به في تفسيره إلا أنه متى جعلنا أحدهما شرطاً جاز أن يجعل الآخر جواباً فتدخل الفاء حيث جاز أن تكون جواباً كقولك: إن أعطيتني أحسنت وإن أحسنت أعطيت وإن يعط فإنه محسن وإن يحسن فإنه معط.
وقال غير الفراء في قوله: " هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش " وهذا يشبه الجواب الذي حكاه الفراء في قوله: " فجاءها بأسنا ".
وقالوا فيها جواباً آخر على جعل ثم للتقديم تقديره: هو الذي خلق السموات والأرض أي أخبركم بخلقهما ثم استوى ثم أخبركم بالاستواء.
ومثله: " اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم " أي: فأخبرهم بالإلقاء ثم أخبرهم بالتولي.
ومثله: " ثم استوى إلى السماء وهي دخان " وقد قال قبله: " قل ائنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وقال: " والأرض بعد ذلك دحاها " ثم يكون ثم استوى على الإخبار ويكون الدحو بعد وخلق الأرض قبل خلق السماء وقبل في قوله تعالى: " ثم تول عنهم فانظر " فليس التولي الانصراف وإنما معناه تنح عنهم بعد إلقاء الكتاب إليهم بحيث يكونون عنك بمرأى ومسمع فانظر ماذا يردون من جواب الكتاب.
وقيل في قوله تعالى: " والأرض بعد ذلك دحاها " أي: مع ذلك.
كما قال: " عتل بعد ذلك زنيم أي: مع ذلك.
وعكسه قوله تعالى: " إن مع العسر " أي: بعد العسر.
وأما قوله تعالى: لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى " أي: ثم دام وثبت على الاهتداء.
وهذا كقوله تعالى: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين.
والمعنى في ذلك: الدوام على الإيمان والعمل الصالح لأن الإيمان الذي يحظر النفس والمال قد تقدم فيما ذكر في قوله تعالى: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات " فقال بعد: " إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا ".
ومما يبين أن المعنى فيه ما ذكرت قوله تعالى: " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة " وفي الأخرى " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " والمعنى: اتبعوا التوحيد ثم داموا عليه وأقاموا.
فاستقام مثل أقام كاستحاب وأجاب.
وقال أبو الحسن في قوله تعالى: " ثم تاب عليهم ليتوبوا ": إن ثم زيادة والمعنى على ما قال: لأن المعنى: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت تاب عليهم ليتوبوا.
فجواب الجزاء إن لم يقدر ثم زيادة غير مذكور.
فإن قال قائل: إن ثم زيادة في قوله: " ثم اهتدى " كما قال أبو الحسن في الآية الأخرى فإنه يكون اهتدى بعد تقدير زيادة ثم على تقديرين: أحدهما: " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً " إنساناً مهتدياً ويكون حالا.
ولم يقع بعد فإنه كقوله: " هديا بالغ الكعبة ".
ويجوز أن يكون على إضمار قد على تقدير: " وكنتم أمواتاً " أي: قد كنتم.
وقال أبو علي في قوله تعالى: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم " على ما تقدم من حذف المضاف.
وعلى قولهم: هزمناكم أي: هزمنا إياكم كقوله: " فلم تقتلون أنبياء الله " أي: فلم قتلتم.
وأما قوله تعالى: " ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن " بعد قوله " قل تعالوا " فالتقدير: ثم قل: آتينا موسى الكتاب.
وكذلك قوله: " خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ".
هو على ترتيب الخبر أي: أخبركم أولا بخلقه من تراب ثم أخبركم بقوله كن.
وأما قوله: " فلا اقتحم العقبة " وبعده " ثم كان من الذين آمنوا " فهو مثل الأول في ترتيب الخبر.
وأما قوله تعالى: " وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه " أي: اثبتوا على التوبة ودوموا عليه.
قال عثمان في بعض كلامه في قوله تعالى: " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ": الواو وإن كان لا يوجب الترتيب فإن لتقديم المقدم حظاً وفضلاً على المؤخر.
ألا ترى كيف قال: " أيديهم عنكم " فقدم المؤخر في موضع تعداد النعم فكان أولى.
وقال أبو علي أيضاً في موضع آخر في قوله تعالى: " ثم تاب عليهم " ثم زائدة وقد يجوز أن يكون جواب إذا محذوفاً و " ثُمَّ تَابَ عَليَهِمْ " معطوف على جملة الكلام أي: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض تنصلوا وتندموا ثم تاب عليهم.
وإذا بعد حتى للجزاء وهي بمعنى: متى أي: وأما قوله تعالى: " ثم محلها إلى البيت العتيق " فإن ثم للعطف على تراخ وقد عطفت في الآية النحر الذي هو بآخرة أو الطواف الذي هو الخاتمة على الانتفاع بما يقام في المناسك في الدين أو بمنافع البدن والهدايا في الدنيا على القولين وكذلك إلى التي هي غاية الفرائض إما لنحر الهدايا وإما للطواف الذي هو غاية إقامة جمع الواجبات.
وقيل معناه: إن أجرها على رب البيت العتيق.
وأما قوله تعالى: " ثم لتسألن يومئذ عن النعيم " فقد قيل هذا على الإخبار أيضاً أي: ثم أخبركم بالسؤال عن النعيم لأن السؤال قبل رؤية الجحيم.
وقيل: بل المعنى يقال لكم: أين نعيمكم في النار وأين نمتعكم به وشاهد هذه الآى البيت المعروف وهو قوله: قل للذي ساد ثم ساد أبوه ثم ساد من بعد ذلك جده ومعلوم أن سيادة الجد قبل سيادة أبيه وسيادة أبيه قبل سيادته أولا ثم أخبركم بسيادة أبيه ثانيا ثم أخبركم بسيادة جده ثالثا.