إعراب القرآن للسيوطي/التاسع والثمانون
التاسع والثمانون باب ما جاء في التنزيل من ألفاظ استعملت استعمال القسم وأجيبت بجواب
فمن ذلك قوله تعالى: " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ".
وقوله تعالى: " وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ".
وقوله: " ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ".
وقوله: " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم ".
وقوله: " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ".
وقوله: " كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم ".
وقوله: " كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا ".
فيمن كسر إن دون من فتح.
وقوله: " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ".
وقوله: " وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص " في غير قول الأنباري وسهل.
وغير ذلك من الآي أجريت فيهن الجمل مجرى الجمل من المبتدأ والخبر في نحو قوله تعالى: " لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ".
أترى أن التقدير: قسمي أو: لعمرك ما أحلف به أو أقسم عليه كقول الشاعر: فقال فريق القوم لما نشدتهم نعم وفريقٌ ليمن الله ما ندرى أي: لا يمن الله قسمي.
وقالوا: على عهد الله لأقومن فاللام و إن وما و لا كلها أجوبة الأقسام التي هي " أخذنا ميثاقكم " و " عملوا " و " كتب على نفسه الرحمة " و " كتب الله لأغلبن " و " ظنوا " إذ معنى " ظنوا " أيقنوا وبلغ أمرهم باليقين كأنهم أقسموا ما لهم من محيص فهكذا: كتب الله على نفسه الرحمة وأوجب حتى بلغ الأمر إلى أنه أقسم: إنه من عمل فكسر.
ان إنما هو لمكان القسم لا كما ذهب إليه أحمد بن موسى وفارس الصناعة من أن قوله: " إنه من عمل " فيمن كسر تفسيرٌ للرحمة.
كما أن قوله: " لهم " تفسير للوعد في قوله: " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات " فكما لا يجوز الوقف على قوله: لعمرك وعلى قوله: " ميثاق بني إسرائيل " وعلى قوله: " كتب الله " من قوله: " كتب الله لأغلبن " لمكان أجوبة القسم فكذا لا يجوز الوقف على قوله: " كتب على نفسه الرحمة " من دون قوله: " ليجمعنكم " فقوله: " كتب الله ".
أي: فرض الله القتال وأوجبه واقسم عليه لأغلبن فاللام جواب القسم كما إن في " لعمرك إنهم " و " لا " في قوله: " لا تعبدون إلا الله " و " لا تسفكون دماءكم ".
واللام في " لمن اشتراه " و ما من قوله: " ما لهم من محيص " جواب فليس قوله: " لأغلبن من قوله: " الله كقوله: " الإيمان " من قوله: " أولئك كتب في قلوبهم الإيمان " إنما قوله: " كتب " أضمر مفعوله أي: كتب الله القتال كقوله: " كتب عليكم القتال " و " كتب عليكم الصيام " و " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية " فكيف ظننت أيها الظان أن قوله: " لأغلبن " مفعول " كتب " ومن أين لك أن تقول إن الجمل تكون فاعلات ومفعولات ولم لا تتم الصنعة حتى لا تتوالى عليك الفتوق.
قال أبو علي: الألفاظ التي جرت في كلامهم مجرى القسم حتى أجيبت بجوابه تستعمل على ضربين: أحدهما: أن تكون كسائر الأخبار التي يقسم فلا تجاب كما لا تجاب الأخبار.
والآخر: أن يجرى مجرى القسم فتجاب كما يجاب القسم.
فمما لم يجب بأجوبة القسم قوله تعالى: " وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين ".
ومنه قوله: " وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوةٍ ".
وقال: " فيحلفون له كما يحلفون لكم ".
فمما جاء من ذلك وفيه ذكر من الأول مما يجوز أن يكون حالا على ضربين: أحدهما: أن يكون حالا.
والآخر: أن يكون قسما.
وإنما جاز أن تحمله على الحال دون جواب القسم لأنه جاز أن يكون معرًّى من الجواب وإذا جعلت ما يجوز أن يكون حالا فقد عريتها من الجواب.
فمما يجوز أن يكون حالا: " وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا " فقوله: " ورفعنا " يجوز أن يكون حالا غير جواب قوله: " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ".
فهذا يكون حالا كأنه قال: أخذنا ميثاقهم موخذين وكذلك: " وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم " أي: غير سافكين فيكون حالا من المخاطبين المضاف إليهم وإنما جاز كونهما حالا بما ذكرنا ومن أجل هذا النحو قد يعرى من أن يجاب بجواب القسم ألا ترى أن قوله: " خذوا " في الآية ليس بجواب قسم ولا يجوز أن يكون جوابا له وكذلك من قرأ: " لا تعبدوا ": فجعل لا للنهي.
كما كان: " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه " قسما.
وكذلك: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ".
وكما أن " لتبيننه " لا يكون إلا جوابا للقسم يكون قوله: " لا تعبدون " و " لا تسفكون " يجوز أن يكون جوابا للقسم ويجوز أن يكون " لا تسفكون " ونحوه في: أن لا تسفكوا كأن تقديره: أخذنا ميثاقهم بأن لا تسفكوا ولا يكون ذلك جواب قسم كما كان فيمن قدره حالا غير جواب قسم إلا أنه لما حذف أن ارتفع الفعل.
واعلم أن ما يتصل بهذه الأشياء الجارية مجرى القسم.
في أنها أجيبت بما يجاب به القسم لا تخلو من أن تكون لمخاطب أو لمتكلم أو لغائب جاز أن يكون على لفظ المخاطب وإنما جاز كونه على لفظ المخاطب لأنك تحكى حال الخطاب وقت ما تخاطب به ألا ترى أنهم قد قرءوا: " قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم " على لفظ الغيبة وبالتاء على لفظ الخطاب على حكاية الحال حال الخطاب في وقت الخطاب فإذا كان هذا النحو جاز أن تجىء القراءة بالوجهين جميعا وجاز أن تجىء بأحدهما كما جاء قوله: " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون " بالوجهين جميعا ويجوز في قياس العربية في قوله تعالى: " إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " على الوجهين اللذين قرئ فيهما في " ستغلبون " و " تحشرون " فإن كان الكلام على الخطاب لم يجز فيما يكون في تقدير ما تتلقى به القسم إلا الخطاب كقوله: " وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم " فهذا لا يجوز أن يكون إلا على الخطاب لأن المأخوذ ميثاقهم مخاطبون ولأنك إن حكيت الحال التي تكون للخطاب فيها فيما يأتى لم يجز أن تجعل المخاطبين كالغيب كما جاز في الغيب الخطاب من حيث قدرت الحال التي يكون فيها الخطاب فيما يستقبل ألا ترى أنه لا يجوز أن تجعل المخاطبين غيباً فتقول: أخذنا ميثاقكم لا يسفكون لأنك إذا قدرت الحكاية كان التقدير: أخذنا ميثاقكم فقلنا لكم لا تسفكون كان بالتاء ولم يجز بالياء كما لا يجوز أن تقول للمخاطبين: هم يفعلون وأنت تخاطبهم وإن لم تقدر الحكاية فهو بالتاء مذهب إذا قرب في ذلك غير الخطاب فقوله تعالى: " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله " لا يخلو قوله: " تعبدون " من أن يكون حالا أو يكون تلقى قسم أو يكون على لفظ الخبر والمعنى فيه معنى الأمر أو تقدر الجار في أن فتحذفه ثم تحذف أن.
فإن جعلته حالا جعلته على قول من قرأ بالياء فقال: لا يعبدون ليكون في الحال ذكر من ذي الحال.
فإن قلت: فإذا قرئ بالتاء فالمراد به هو: بنو إسرائيل والحال مثل الصفة وقد حملت الصفة في هذا النحو على المعنى.
فإن هذا قول والأول أبين.
وإن جعلته تلقى قسم فإن هذا اللفظ الذي هو " أخذنا ميثاق " مجاز ما يقع بعده على ثلاثة أضرب: أحدها: أن لا يتبع شيئا مما يجرى مجرى القسم كقوله: " وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين ".
والآخر أن يتلقى بما يتلقى به القسم نحو: " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ".
والثالث: أن يكون أمراً.
نحو: " وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ".
ولم يجئ شيء من هذا النحو فيما علمنا تلقى بجواب القسم ووقع بعده أمر فإن جعلت " لا فإن قلت: لا أحمل الأمر على القسم ولكن أضمر القول كأنه قال: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وقلنا لهم: " وأحسنوا بالوالدين إحسانا " فالقول: إن إضمار القول في هذا النحو لا يضيق " وقلنا " على هذا معطوف على " أخذنا " وأخذ الميثاق قول وكأنه: قلنا لهم: كذا وكذا.
وإن حملته على أن اللفظ في " لا تعبدون " لفظ خبر والمعنى معنى الأمر فإن ذلك تقوية ما زعموا أن في إحدى القراءتين " لا تعبدوا ".
ومثل ذلك قوله تعالى: " تؤمنون بالله ورسوله ".
يدلك على ذلك قوله: " يغفر لكم " وزعموا أن في بعض المصاحف " آمنوا " ويؤكد ذلك أنه قد عطف عليه بالأمر وهو قوله: " وبالوالدين إحساناً وأقيموا الصلاة ".
وإن حملته على أن المعنى: أخذنا ميثاقهم بأن لا يعبدوا فإن هذا قول إن حملته عليه كان فيه حذف بعد حذف.
وزعم سيبويه أن حذف إن من هذا النحو قليل.
المتم التسعين باب ما جاء في التنزيل من الأفعال ومن ذلك قوله تعالى: " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله " فلفظة " الله " منصوبة ب " تعبدون " فرغ له.
وهكذا قوله: " وما يذكر إلا أولوا الألباب ".
وقال: " وما يعلم تأويله إلا الله ".
وقال: " والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ".
وقال: " وما يتذكر إلا من ينيب ".
وقال: " إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ".
فالأسماء بعد " إلا " في هذه الآي مرتفعة بفعلٍ قبل " إلا " عند النحاة عن آخرهم وتنازعهم الآية التي في سورة " والصافات " وهي: " وما منا إلا له مقام معلوم ".
ألا ترى أن التقدير: وما منا أحد إلا له مقام معلوم ف أحد مضمر يأتى عود الهاء إليه وكذا: " وإن منكم إلا واردها " أي: وإن منكم أحد.
وقال: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به " أي: وإن من أهل الكتاب أحد.
وقال الشاعر: لو قلت ما في قومها لم تيتم يفضلها من أحدٍ وميسم أي: ما في قومها أحد إلا أنهم يقولون: لو صح الاعتبار ب أحدٍ مضمر لكان ما بعد إلا بدلا مما قبلها وهو أحد وإذا كان بدلا جاز فيه النصب كما لو أظهر أحد فإنه قد جاء " قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ".
فما بعد إلا بدل من قوله: " من في السموات " ولا يجوز فيه النصب ف أحد لا يضمرونه قبل إلا ولا يحيزون بعد إلا الحمل فيه على ما قبل إلا.
وعند محمد بن الحسن: أحد مضمر في هذه الآي وبنى عليه مسائل فقال: عبدى حر إن كان في البيت إلا رجل.
فإذا كان في البيت رجل وامرأة أو رجل وصبي فإنه حانث لأن المستثنى منه غير مذكور فوجب إثباته على وفق المستثنى تحقيقا للمجانسة وذلك أن تجعل المستثنى منه أحدا فصار الشرط أن يكون فيه أحد غير رجل أو امرأةٍ والصبي أحد غير رجل إلا أن يكون نوى الرجال خاصة فلا يحنث حتى يكون فيه رجلان ولا يحنث بالصبي والمرأة ويصدق فيما بينه وبين الله فأما في القضاء فلا لأن الظاهر من كلامه أوجب تحقيق المجانسة فيما قصده الحالف وهو الكون والسكنى في الدار وبنو آدم كلهم جنس واحد لأنهم جميعا مقصودون ذلك فإذا نوى تخصيص الرجال كان ذلك خلاف الظاهر فيه تخفيف فلم يصدقه القاضي ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى المجانسة أيضا لكنه خلاف المعهود الظاهر. والله أعلم.
أي: ما في قومها أحد إلا أنهم يقولون: لو صح الاعتبار ب أحدٍ مضمر لكان ما بعد إلا بدلا مما قبلها وهو أحد وإذا كان بدلا جاز فيه النصب كما لو أظهر أحد فإنه قد جاء " قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ".
فما بعد إلا بدل من قوله: " من في السموات " ولا يجوز فيه النصب ف أحد لا يضمرونه قبل إلا ولا يحيزون بعد إلا الحمل فيه على ما قبل إلا.
وعند محمد بن الحسن: أحد مضمر في هذه الآي وبنى عليه مسائل فقال: عبدى حر إن كان في البيت إلا رجل.
فإذا كان في البيت رجل وامرأة أو رجل وصبي فإنه حانث لأن المستثنى منه غير مذكور فوجب إثباته على وفق المستثنى تحقيقا للمجانسة وذلك أن تجعل المستثنى منه أحدا فصار الشرط أن يكون فيه أحد غير رجل أو امرأةٍ والصبي أحد غير رجل إلا أن يكون نوى الرجال خاصة فلا يحنث حتى يكون فيه رجلان ولا يحنث بالصبي والمرأة ويصدق فيما بينه وبين الله فأما في القضاء فلا لأن الظاهر من كلامه أوجب تحقيق المجانسة فيما قصده الحالف وهو الكون والسكنى في الدار وبنو آدم كلهم جنس واحد لأنهم جميعا مقصودون ذلك فإذا نوى تخصيص الرجال كان ذلك خلاف الظاهر فيه تخفيف فلم يصدقه القاضي ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى المجانسة أيضا لكنه خلاف المعهود الظاهر. والله أعلم.