مجموع الفتاوى/المجلد السابع/فصل: ومما يسأل عنه أنه إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من هذه الخمس
فصل: ومما يسأل عنه أنه إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من هذه الخمس
[عدل]ومما يسأل عنه: أنه إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من هذه الخمس، فلماذا قال: الإسلام هذه الخمس، وقد أجاب بعض الناس بأن هذه أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيام العبد بها يتم إسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده.
والتحقيق أن النبي ﷺ ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقا، الذي يجب لله عبادة محضة على الأعيان. فيجب على كل من كان قادرا عليه ليعبد الله بها مخلصا له الدين. وهذه هي الخمس، وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب لمصالح، فلا يعم وجوبها جميع الناس، بل إما أن يكون فرضا على الكفاية، كالجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما يتبع ذلك من إمارة، وحكم، وفتيا، وإقراء، وتحديث، وغير ذلك. وإما أن يجب بسبب حق للآدميين يختص به من وجب له وعليه. وقد يسقط بإسقاطه، وإذا حصلت المصلحة أو الإبراء، إما بإبرائه وإما بحصول المصلحة، فحقوق العباد مثل قضاء الديون ورد الغصوب، والعَوَارِي والودائع، والإنصاف من المظالم من الدماء والأموال والأعراض، إنما هي حقوق الآدميين. وإذا أبرئوا منها سقطت. وتجب على شخص دون شخص في حال دون حال، لم تجب عبادة محضة لله على كل عبد قادر؛ ولهذا يشترك فيها المسلمون واليهود والنصارى، بخلاف الخمسة فإنها من خصائص المسلمين.
وكذلك ما يجب من صلة الأرحام، وحقوق الزوجة، والأولاد والجيران والشركاء، والفقراء، وما يجب من أداء الشهادة، والفتيا، والقضاء، والإمارة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، كل ذلك يجب بأسباب عارضة على بعض الناس دون بعض لجلب منافع ودفع مضار، لو حصلت بدون فعل الإنسان لم تجب، فما كان مشتركا فهو واجب على الكفاية، وما كان مختصا فإنما يجب على زيد دون عمرو، لا يشترك الناس في وجوب عمل بعينه على كل أحد قادر سوى الخمس، فإن زوجة زيد وأقاربه ليست زوجة عمرو وأقاربه فليس الواجب على هذا مثل الواجب على هذا، بخلاف صوم رمضان، وحج البيت، والصلوات الخمس، والزكاة؛ فإن الزكاة وإن كانت حقا ماليا فإنها واجبة لله، والأصناف الثمانية مصارفها؛ ولهذا وجبت فيها النية، ولم يجز أن يفعلها الغير عنه بلا إذنه، ولم تطلب من الكفار. وحقوق العباد لا يشترط لها النية، ولو أداها غيره عنه بغير إذنه برئت ذمته، ويطالب بها الكفار، وما يجب حقا لله تعالى كالكفارات هو بسبب من العبد، وفيها شوب العقوبات، فإن الواجب لله ثلاثة أنواع: عبادة محضة كالصلوات، وعقوبات محضة كالحدود، وما يشبهها كالكفارات، وكذلك كفارات الحج، وما يجب بالنذر فإن ذلك يجب بسبب فعل من العبد، وهو واجب في ذمته.
وأما الزكاة فإنها تجب حقا لله في ماله؛ ولهذا يقال: ليس في المال حق سوى الزكاة، أي ليس فيه حق يجب بسبب المال سوى الزكاة، وإلا ففيه واجبات بغير سبب المال، كما تجب النفقات للأقارب، والزوجة، والرقيق والبهائم، ويجب حمل العاقلة، ويجب قضاء الديون، ويجب الإعطاء في النائبة، ويجب إطعام الجائع وكسوة العاري فرضا على الكفاية، إلى غير ذلك من الواجبات المالية، لكن بسبب عارض، والمال شرط وجوبها، كالاستطاعة في الحج، فإن البدن سبب الوجوب والاستطاعة شرط، والمال في الزكاة هو السبب والوجوب معه، حتى لو لم يكن في بلده من يستحقها حملها إلى بلد أخرى، وهي حق وجب لله تعالى؛ولهذا قال من قال من الفقهاء: إن التكليف شرط فيها، فلا تجب على الصغير والمجنون، وأما عامة الصحابة والجمهور، كمالك والشافعي وأحمد، فأوجبوها في مال الصغير والمجنون؛ لأن مالهما من جنس مال غيرهما ووليهما يقوم مقامهما، بخلاف بدنهما، فإنه إنما يتصرف بعقلهما، وعقلهما ناقص. وصار هذا كما يجب العشر في أرضهما مع أنه إنما يستحقه الثمانية، وكذلك إيجاب الكفارة في مالهما، والصلاة والصيام. إنما تسقط لعجز العقل عن الإيجاب، لا سيما إذا انضم إلى عجز البدن كالصغير. وهذا المعنى منتف في المال فإن الولي قام مقامهما في الفهم كما يقوم مقامهما في جميع ما يجب في المال، وأما بدنهما فلا يجب عليهما فيه شيء.
هامش