مجموع الفتاوى/المجلد السابع/فصل: الإيمان تارة يطلق على ما في القلب من الأقوال القلبية
فصل: الإيمان تارة يطلق على ما في القلب من الأقوال القلبية
[عدل]إذا عرف أن أصل الإيمان في القلب، فاسم الإيمان تارة يطلق على ما في القلب من الأقوال القلبية والأعمال القلبية من التصديق والمحبة والتعظيم ونحو ذلك، وتكون الأقوال الظاهرة والأعمال لوازمه وموجباته ودلائله، وتارة على ما في القلب والبدن جعلا لموجب الإيمان ومقتضاه داخلا في مسماه، وبهذا يتبين أن الأعمال الظاهرة تسمى إسلامًا، وأنها تدخل في مسمى الإيمان تارة، ولا تدخل فيه تارة.
وذلك أن الاسم الواحد تختلف دلالته بالإفراد والاقتران، فقد يكون عند الإفراد فيه عموم لمعنيين، وعند الاقتران لا يدل إلا على أحدهما، كلفظ الفقير والمسكين، إذا أفرد أحدهما تناول الآخر، وإذا جمع بينهما كان لكل واحد مسمى يخصه، وكذلك لفظ المعروف والمنكر إذا أطلقا، كما في قوله تعالى: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} 1 دخل فيه الفحشاء والبغي، وإذا قرن بالمنكر أحدهما، كما في قوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} 2 أو كلاهما كما في قوله تعالى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} 3 كان اسم المنكر مختصًا بما خرج من ذلك على قول، أو متناولا للجميع على قول بناء على أن الخاص المعطوف على العام هل يمنع شمول العام له؟ أو يكون قد ذكر مرتين. فيه نزاع والأقوال والأعمال الظاهرة نتيجة الأعمال الباطنة ولازمها.
وإذا أفرد اسم الإيمان فقد يتناول هذا وهذا، كما في قول النبي ﷺ «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق». وحينئذ فيكون الإسلام داخلا في مسمى الإيمان وجزءًا منه، فيقال حينئذ: إن الإيمان اسم لجميع الطاعات الباطنة والظاهرة. ومنه قوله ﷺ لوفد عبد القيس: «آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وتؤدوا خمس المغنم» أخرجاه في الصحيحين.
ففسر الإيمان هنا بما فسر به الإسلام؛ لأنه أراد بالشهادتين هنا أن يشهد بهما باطنًا وظاهرًا، وكان الخطاب لوفد عبد القيس، وكانوا من خيار الناس وهم أول من صلى الجمعة ببلدهم بعد جمعة أهل المدينة، كما قال ابن عباس: أول جمعة جمعت في الإسلام بعد جمعة المدينة جمعة ب "جُواثي" قرية من قرى البحرين وقالوا: يا رسول الله، إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مُضَر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل نعمل به وندعو إليه من وراءنا، وأرادوا بذلك أهل نَجْد، من تَمِيم وأسَد وغَطَفَان وغيرهم، كانوا كفارًا، فهؤلاء كانوا صادقين راغبين في طلب الدين، فإذا أمرهم النبي ﷺ بأقوال وأعمال ظاهرة فعلوها باطنًا وظاهرًا فكانوا بها مؤمنين.
وأما إذا قرن الإيمان بالإسلام، فإن الإيمان في القلب والإسلام ظاهر، كما في المسند عن النبي ﷺ أنه قال: «الإسلام عَلانِيَة، والإيمان في القلب، والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره». ومتى حصل له هذا الإيمان، وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام الذي هو الشهادتان، والصلاة والزكاة والصيام والحج، لأن إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الاستسلام لله، والانقياد له، وإلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار والحب والانقياد باطنًا ولا يحصل ذلك في الظاهر، مع القدرة عليه، كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة بدون وجود المراد.
وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانًا جازمًا امتنع ألا يتكلم بالشهادتين مع القدرة، فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام، وبهذا يظهر خطأ جهم ومن اتبعه، في زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع في الآخرة، فإن هذا ممتنع، إذ لا يحصل الإيمان التام في القلب إلا ويحصل في الظاهر موجبه بحسب القدرة، فإن من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حبًا جازمًا وهو قادر على مواصلته، ولا يحصل منه حركة ظاهرة إلى ذلك.
وأبو طالب إنما كانت محبته للنبي ﷺ لقرابته منه، لا لله وإنما نصره وذب عنه لحَمِيَّة النَّسَب والقرابة؛ ولهذا لم يتقبل الله ذلك منه، وإلا فلو كان ذلك عن إيمان في القلب لتكلم بالشهادتين ضرورة، والسبب الذي أوجب نصره للنبي ﷺ وهو الحمية هو الذي أوجب امتناعه من الشهادتين، بخلاف أبي بكر الصديق ونحوه، قال الله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 4، ومنشأ الغلط في هذه المواضع من وجوه:
أحدها: أن العلم والتصديق مستلزم لجميع موجبات الإيمان.
الثاني: ظن الظان أن ما في القلوب لا يتفاضل الناس فيه.
الثالث: ظن الظان أن ما في القلب من الإيمان المقبول يمكن تخلف القول الظاهر والعمل الظاهر عنه.
الرابع: ظن الظان أن ليس في القلب إلا التصديق، وأن ليس الظاهر إلا عمل الجوارح. والصواب أن القلب له عمل مع التصديق، والظاهر قول ظاهر وعمل ظاهر، وكلاهما مستلزم للباطن. والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان؛ فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضا وجعلها هي التصديق، فهذا ضلال بين، ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم: العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه، وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن، فبقى النزاع في أن العمل الظاهر: هل هو جزء من مسمى الإيمان يدل عليه بالتضمن، أو لازم لمسمى الإيمان؟
والتحقيق أنه تارة يدخل في الاسم، وتارة يكون لازمًا للمسمى بحسب إفراد الاسم واقترانه فإذا قرن الإيمان بالإسلام كان مسمى الإسلام خارجًا عنه، كما في حديث جبريل، وإن كان لازمًا له، وكذلك إذا قرن الإيمان بالعمل، كما في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 5 فقد يقال: اسم الإيمان لم يدخل فيه العمل وإن كان لازمًا له، وقد يقال: بل دخل فيه وعطف عليه عطف الخاص على العام، وبكل حال فالعمل تحقيق لمسمى الإيمان وتصديق له؛ ولهذا قال طائفة من العلماء كالشيخ أبي إسماعيل الأنصاري، وغيره: الإيمان كله تصديق، فالقلب يصدق ما جاءت به الرسل، واللسان يصدق ما في القلب، والعمل يصدق القول، كما يقال: صدق عمله قوله. ومنه قول النبي ﷺ: «العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واليد تزني وزناها البَطْش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفَرْج يصدق ذلك أو يكذبه»، والتصديق يستعمل في الخبر، وفي الإرادة، يقال: فلان صادق العزم وصادق المحبة، وحملوا حملة صادقة.
والسلف اشتد نكيرهم على المرجئة، لما أخرجوا العمل من الإيمان، وقالوا: إن الإيمان يتماثل الناس فيه، ولا ريب أن قولهم بتساوي إيمان الناس من أفحش الخطأ، بل لا يتساوى الناس في التصديق، ولا في الحب، ولا في الخشية ولا في العلم، بل يتفاضلون من وجوه كثيرة.
وأيضا فإخراجهم العمل يشعر أنهم أخرجوا أعمال القلوب أيضا وهذا باطل قطعًا، فإن من صدق الرسول وأبغضه وعاداه بقلبه وبدنه فهو كافر قطعًا بالضرورة، وإن أدخلوا أعمال القلوب في الإيمان أخطؤوا أيضا لامتناع قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن.
وليس المقصود هنا ذكر عمل معين، بل من كان مؤمنًا بالله ورسوله بقلبه، هل يتصور إذا رأى الرسول وأعداءه يقاتلونه، وهو قادر على أن ينظر إليهم ويحض على نصر الرسول بما لا يضره، هل يمكن مثل هذا في العادة إلا أن يكون منه حركة ما إلى نصر الرسول؟ فمن المعلوم أن هذا ممتنع، فلهذا كان الجهاد المتعين بحسب الإمكان من الإيمان، وكان عدمه دليلا على انتفاء حقيقة الإيمان، بل قد ثبت في الصحيح عنه: «من مات ولم يَغْزُ ولم يُحدِّث نفسه بالغزو، مات على شعبة نفاق»، وفي الحديث دلالة على أنه يكون فيه بعض شعب النفاق، مع ما معه من الإيمان، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 6.
وأيضا فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»، وفي رواية: «وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل». فهذا يبين أن القلب إذا لم يكن فيه بغض ما يكرهه الله من المنكرات كان عادمًا للإيمان، والبغض والحب من أعمال القلوب، ومن المعلوم أن إبليس ونحوه يعلمون أن الله عز وجل حرم هذه الأمور ولا يبغضونها، بل يدعون إلى ما حرم الله ورسوله.
وأيضا، فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحي، قد صرحوا بأن سب الله ورسوله، والتكلم بالتثليث، وكل كلمة من كلام الكفر، ليس هو كفرًا في الباطن، ولكنه دليل في الظاهر على الكفر، ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم في الباطن عارفًا بالله، موحدًا له، مؤمنا به، فإذا أقيمت عليهم حجة بنص أو إجماع أن هذا كافر باطنًا وظاهرًا، قالوا: هذا يقتضي أن ذلك مستلزم للتكذيب الباطن، وأن الإيمان يستلزم عدم ذلك، فيقال لهم: معنا أمران معلومان.
أحدهما: معلوم بالاضطرار من الدين.
والثاني: معلوم بالاضطرار من أنفسنا عند التأمل.
أما الأول: فإنا نعلم أن من سب الله ورسوله طوعًا بغير كره، بل من تكلم بكلمات الكفر طائعًا غير مكره، ومن استهزأ بالله وآياته ورسوله، فهو كافر باطنًا وظاهرًا، وأن من قال: إن مثل هذا قد يكون في الباطن مؤمنًا بالله وإنما هو كافر في الظاهر، فإنه قال قولا معلوم الفساد بالضرورة من الدين. وقد ذكر الله كلمات الكفار في القرآن، وحكم بكفرهم واستحقاقهم الوعيد بها، ولو كانت أقوالهم الكفرية بمنزلة شهادة الشهود عليهم، أو بمنزلة الإقرار الذي يغلط فيه المقر، لم يجعلهم الله من أهل الوعيد بالشهادة التي قد تكون صدقًا، وقد تكون كذبًا، بل كان ينبغي ألا يعذبهم إلا بشرط صدق الشهادة، وهذا كقوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} 7، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} 8 وأمثال ذلك.
وأما الثاني: فالقلب إذا كان معتقدًا صدق الرسول، وأنه رسول الله، وكان محبًا لرسول الله معظمًا له، امتنع مع هذا أن يلعنه ويسبه، فلا يتصور ذلك منه إلا مع نوع من الاستخفاف به وبحرمته، فعلم بذلك أن مجرد اعتقاد أنه صادق لا يكون إيمانًا إلا مع محبته وتعظيمه بالقلب.
وأيضا، فإن الله سبحانه قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 9، وقال: {الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِالله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} 10، فتبين أن الطاغوت يؤمن به ويكفر به. ومعلوم أن مجرد التصديق بوجوده وما هو عليه من الصفات يشترك فيه المؤمن والكافر؛ فإن الأصنام والشيطان والسحر يشترك في العلم بحاله المؤمن والكافر، وقد قال الله تعالى في السحر: {حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}إلى قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} 11 فهؤلاء الذين اتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، يعلمون أنه لا خلاق لهم في الآخرة، ومع هذا فيكفرون.
وكذلك المؤمن بالجبت والطاغوت، إذا كان عالمًا بما يحصل بالسحر من التفريق بين المرء وزوجه، ونحو ذلك من الجبت، وكان عالمًا بأحوال الشيطان والأصنام، وما يحصل بها من الفتنة، لم يكن مؤمنا بها مع العلم بأحوالها. ومعلوم أنه لم يعتقد أحد فيها أنها تخلق الأعيان، وأنها تفعل ما تشاء ونحو ذلك من خصائص الربوبية، ولكن كانوا يعتقدون أنه يحصل بعبادتها لهم نوع من المطالب، كما كانت الشياطين تخاطبهم من الأصنام وتخبرهم بأمور، وكما يوجد مثل ذلك في هذه الأزمان في الأصنام التي يعبدها أهل الهند والصين والترك وغيرهم، وكان كفرهم بها الخضوع لها والدعاء والعبادة واتخاذها وسيلة ونحو ذلك، لا مجرد التصديق بما يكون عند ذلك من الآثار، فإن هذا يعلمه العالم من المؤمنين ويصدق بوجوده، لكنه يعلم ما يترتب على ذلك من الضرر في الدنيا والآخرة فيبغضه، والكافر قد يعلم وجود ذلك الضرر لكنه يحمله حب العاجلة على الكفر.
يبين ذلك قوله: {مَن كَفَرَ بِالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ} 12 فقد ذكر تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه وذكر وعيده في الآخرة، ثم قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} وبين تعالى أن الوعيد استحقوه بهذا. ومعلوم أن باب التصديق والتكذيب والعلم والجهل ليس هو من باب الحب والبغض، وهؤلاء يقولون: إنما استحقوا الوعيد لزوال التصديق والإيمان من قلوبهم، وإن كان ذلك قد يكون سببه حب الدنيا على الآخرة، والله سبحانه وتعالى جعل استحباب الدنيا على الآخرة هو الأصل الموجب للخسران واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتصديق بأن الكفر يضر في الآخرة، وبأنه ماله في الآخرة من خلاق.
وأيضا، فإنه سبحانه استثنى المكره من الكفار، ولو كان الكفر لا يكون إلا بتكذيب القلب وجهله لم يستثن منه المكره، لأن الإكراه على ذلك ممتنع، فعلم أن التكلم بالكفر كفر لا في حال الإكراه.
وقوله تعالى: {وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} أي: لاستحبابه الدنيا على الآخرة، ومنه قول النبي ﷺ: «يصبح الرجل مؤمنًا ويمسى كافرًا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرًا، يبيع دِينَهُ بعَرَضٍ من الدنيا»، والآية نزلت في عمار بن ياسر، وبلال بن رباح، وأمثالهما من المؤمنين المستضعفين لما أكرههم المشركون على سب النبي ﷺ، ونحو ذلك من كلمات الكفر، فمنهم من أجاب بلسانه كعَمَّار، ومنهم من صبر على المحنة كبلال، ولم يكره أحد منهم على خلاف ما في قلبه، بل أكرهوا على التكلم، فمن تكلم بدون الإكراه، لم يتكلم إلا وصدره منشرح به.
وأيضا، فقد جاء نفر من اليهود إلى النبي، فقالوا: نشهد إنك لرسول، ولم يكونوا مسلمين بذلك؛ لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في أنفسهم، أي نعلم ونجزم أنك رسول الله، قال: «فلم لا تتبعوني؟» قالوا: نخاف من يهود، فعلم أن مجرد العلم والإخبار عنه ليس بإيمان حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد، مع تضمن ذلك الإخبار عما في أنفسهم.
فالمنافقون قالوا مخبرين كاذبين، فكانوا كفارًا في الباطن، وهؤلاء قالوها غير ملتزمين ولا منقادين، فكانوا كفارًا في الظاهر والباطن، وكذلك أبو طالب قد استفاض عنه أنه كان يعلم بنبوة محمد وأنشد عنه:
ولقد علمت بأن دين محمد ** من خير أديان البرية دينًا
لكن امتنع من الإقرار بالتوحيد والنبوة حبًا لدين سلفه، وكراهة أن يعيره قومه، فلما لم يقترن بعلمه الباطن الحب والانقياد الذي يمنع ما يضاد ذلك من حب الباطل وكراهة الحق لم يكن مؤمنًا.
وأما إبليس وفرعون واليهود ونحوهم، فما قام بأنفسهم من الكفر وإرادة العلو والحسد منع من حب الله، وعبادة القلب له الذي لا يتم الإيمان إلا به، وصار في القلب من كراهية رضوان الله واتباع ما أسخطه ما كان كفرًا لا ينفع معه العلم.
هامش
- ↑ [الأعراف: 157]
- ↑ [العنكبوت: 45]
- ↑ [النحل: 90]
- ↑ [الليل: 17: 21]
- ↑ [البينة: 7]
- ↑ [الحجرات: 15]
- ↑ [المائدة: 73]
- ↑ [المائدة: 72]
- ↑ [النساء: 51]
- ↑ [البقرة: 156]
- ↑ [البقرة: 102]
- ↑ [النحل: 106: 109]