مجموع الفتاوى/المجلد السابع/فصل في أن أبا الحسن الأشعري نصر قول جهم في الإيمان
فصل في أن أبا الحسن الأشعري نصر قول جهم في الإيمان
[عدل]وأبو الحسن الأشعري نصر قول جهم في الإيمان مع أنه نصر المشهور عن أهل السنة من أنه يستثني في الإيمان فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأنه نصر مذهب أهل السنة في أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة ولا يخلدون في النار وتقبل فيهم الشفاعة ونحو ذلك.
وهو دائما ينصر - في المسائل التي فيها النزاع بين أهل الحديث وغيرهم - قول أهل الحديث لكنه لم يكن خبيرا بمآخذهم فينصره على ما يراه هو من الأصول التي تلقاها عن غيرهم؛ فيقع في ذلك من التناقض ما ينكره هؤلاء وهؤلاء، كما فعل في مسألة الإيمان ونصر فيها قول جهم مع نصره للاستثناء؛ ولهذا خالفه كثير من أصحابه في الاستثناء كما سنذكر مأخذه في ذلك واتبعه أكثر أصحابه على نصر قول جهم في ذلك. ومن لم يقف إلا على كتب الكلام ولم يعرف ما قاله السلف وأئمة السنة في هذا الباب؛ فيظن أن ما ذكروه هو قول أهل السنة؛ وهو قول لم يقله أحد من أئمة السنة بل قد كفر أحمد بن حنبل ووكيع وغيرهما من قال بقول جهم في الإيمان الذي نصره أبو الحسن. وهو عندهم شر من قول المرجئة؛ ولهذا صار من يعظم الشافعي من الزيدية والمعتزلة ونحوهم يطعن في كثير ممن ينتسب إليه يقولون: الشافعي لم يكن فيلسوفا ولا مرجئا وهؤلاء فلاسفة أشعرية مرجئة وغرضهم ذم الإرجاء ونحن نذكر عمدتهم لكونه مشهورا عند كثير من المتأخرين المنتسبين إلى السنة. قال القاضي أبو بكر في التمهيد: فإن قالوا: فخبرونا ما الإيمان عندكم؟ قيل: الإيمان هو التصديق بالله وهو العلم، والتصديق يوجد بالقلب فإن قال: فما الدليل على ما قلتم؟ قيل: إجماع أهل اللغة قاطبة على أن الإيمان قبل نزول القرآن وبعثة النبي ﷺ هو التصديق لا يعرفون في اللغة إيمانا غير ذلك ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا} 1 أي بمصدق لنا. ومنه قولهم: فلان يؤمن بالشفاعة وفلان لا يؤمن بعذاب القبر أي: لا يصدق بذلك. فوجب أن الإيمان في الشريعة هو الإيمان المعروف في اللغة؛ لأن الله ما غير اللسان العربي ولا قلبه ولو فعل ذلك لتواترت الأخبار بفعله وتوفرت دواعي الأمة على نقله ولغلب إظهاره على كتمانه، وفي علمنا بأنه لم يفعل ذلك بل إقرار أسماء الأشياء والتخاطب بأسره على ما كان دليل على أن الإيمان في الشريعة هو الإيمان اللغوي ومما يبين ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} 2 وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 3. فأخبر أنه أنزل القرآن بلغة العرب وسمى الأسماء بمسمياتهم ولا وجه للعدول بهذه الآيات عن ظواهرها بغير حجة لا سيما مع القول بالعموم وحصول التوقيف على أن القرآن نزل بلغتهم؛ فدل على ما قلناه من أن الإيمان ما وصفناه دون ما سواه من سائر الطاعات من النوافل والمفروضات، هذا لفظه. وهذا عمدة من نصر قول الجهمية في مسألة الإيمان وللجمهور من أهل السنة وغيرهم عن هذا أجوبة.
أحدها: قول من ينازعه في أن الإيمان في اللغة مرادف للتصديق ويقول هو بمعنى الإقرار وغيره.
والثاني: قول من يقول: وإن كان في اللغة هو التصديق؛ فالتصديق يكون بالقلب واللسان وسائر الجوارح كما قال النبي ﷺ: «والفرج يصدق ذلك أو يكذبه».
والثالث: أن يقال: ليس هو مطلق التصديق بل هو تصديق خاص مقيد بقيود اتصل اللفظ بها وليس هذا نقلا للفظ ولا تغييرا له فإن الله لم يأمرنا بإيمان مطلق بل بإيمان خاص وصفه وبينه.
والرابع: أن يقال: وإن كان هو التصديق؛ فالتصديق التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح فإن هذه لوازم الإيمان التام، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم، ونقول: إن هذه اللوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة وتخرج عنه أخرى.
والخامس: قول من يقول: إن اللفظ باقٍ على معناه في اللغة، ولكن الشارع زاد فيه أحكامًا.
والسادس: قول من يقول: إن الشارع استعمله في معناه المجازي، فهو حقيقة شرعية، مجاز لغوي.
السابع: قول من يقول: إنه منقول.
فهذه سبعة أقوال:
الأول: قول من ينازع في أن معناه في اللغة التصديق، ويقول: ليس هو التصديق، بل بمعنى الإقرار وغيره.
قوله: إجماع أهل اللغة قاطبة على أن الإيمان قبل نزول القرآن هو التصديق. فيقال له: من نقل هذا الإجماع؟ ومن أين يعلم هذا الإجماع؟ وفي أي كتاب ذكر هذا الإجماع؟
الثاني: أن يقال: أتعني بأهل اللغة: نقلتها، كأبي عمرو، والأصمعي، والخليل، ونحوهم، أو المتكلمين بها؟ فإن عنيت الأول؛ فهؤلاء لا ينقلون كل ما كان قبل الإسلام بإسناد، وإنما ينقلون ما سمعوه من العرب في زمانهم، وما سمعوه في دواوين الشعر وكلام العرب وغير ذلك بالإسناد. ولا نعلم فيما نقلوه لفظ الإيمان، فضلًا عن أن يكونوا أجمعوا عليه، وإن عنيت المتكلمين بهذا اللفظ قبل الإسلام، فهؤلاء لم نشهدهم، ولا نقل لنا أحد عنهم ذلك.
الثالث: أنه لا يعرف عن هؤلاء جميعهم أنهم قالوا: الإيمان في اللغة هو التصديق، بل ولا عن بعضهم، وإن قدر أنه قاله واحد أو اثنان؛ فليس هذا إجماعًا.
الرابع: أن يقال: هؤلاء لا ينقلون عن العرب أنهم قالوا: معنى هذا اللفظ كذا وكذا، وإنما ينقلون الكلام المسموع من العرب، وأنه يفهم منه كذا وكذا، وحينئذ فلو قدر أنهم نقلوا كلامًا عن العرب يفهم منه أن الإيمان هو التصديق، لم يكن ذلك أبلغ من نقل المسلمين كافة للقرآن عن النبي ﷺ. وإذا كان مع ذلك قد يظن بعضهم أنه أريد به معنى ولم يرده؛ فظن هؤلاء ذلك فيما ينقلونه عن العرب أولى.
الخامس: أنه لو قدر أنهم قالوا هذا، فهم آحاد لا يثبت بنقلهم التواتر، والتواتر من شرطه استواء الطرفين والواسطة، وأين التواتر الموجود عن العرب قاطبة قبل نزول القرآن؟ إنهم كانوا لا يعرفون للإيمان معنى غير التصديق.
فإن قيل: هذا يقدح في العلم باللغة قبل نزول القرآن، قيل: فليكن، ونحن لا حاجة بنا مع بيان الرسول لما بعثه الله به من القرآن أن نعرف اللغة قبل نزول القرآن، والقرآن نزل بلغة قريش، والذين خوطبوا به كانوا عربًا، وقد فهموا ما أريد به وهم الصحابة، ثم الصحابة بلغوا لفظ القرآن ومعناه إلى التابعين حتى انتهى إلينا، فلم يبق بنا حاجة إلى أن تتواتر عندنا تلك اللغة من غير طريق تواتر القرآن، لكن لما تواتر القرآن لفظًا ومعنى، وعرفنا أنه نزل بلغتهم، عرفنا أنه كان في لغتهم لفظ السماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، ونحو ذلك على ما هو معناها في القرآن. وإلا فلو كلفنا نقلًا متواترًا لآحاد هذه الألفاظ من غير القرآن، لتعذر علينا ذلك في جميع الألفاظ، لا سيما إذا كان المطلوب أن جميع العرب كانت تريد باللفظ هذا المعنى، فإن هذا يتعذر العلم به والعلم بمعاني القرآن ليس موقوفًا على شيء من ذلك، بل الصحابة بلغوا معاني القرآن، كما بلغوا لفظه. ولو قدرنا أن قومًا سمعوا كلامًا أعجميًا، وترجموه لنا بلغتهم، لم نحتج إلى معرفة اللغة التي خوطبوا بها أولًا.
السادس: أنه لم يذكر شاهدًا من كلام العرب على ما ادعاه عليهم، وإنما استدل من غير القرآن بقول الناس: فلان يؤمن بالشفاعة، وفلان يؤمن بالجنة والنار، وفلان يؤمن بعذاب القبر. وفلان لا يؤمن بذلك، ومعلوم أن هذا ليس من ألفاظ العرب قبل نزول القرآن، بل هو مما تكلم الناس به بعد عصر الصحابة، لما صار من الناس أهل البدع يكذبون بالشفاعة وعذاب القبر ومرادهم بذلك هو مرادهم بقوله: فلان يؤمن بالجنة والنار، وفلان لا يؤمن بذلك. والقائل لذلك وإن كان تصديق القلب داخلًا في مراده، فليس مراده ذلك وحده، بل مراده التصديق بالقلب واللسان، فإن مجرد تصديق القلب بدون اللسان لا يعلم حتى يخبر به عنه.
السابع: أن يقال: من قال ذلك، فليس مراده التصديق بما يرجى ويخاف بدون خوف ولا رجاء، بل يصدق بعذاب القبر ويخافه، ويصدق بالشفاعة ويرجوها. وإلا فلو صدق بأنه يعذب في قبره، ولم يكن في قلبه خوف من ذلك أصلًا. لم يسموه مؤمنًا به، كما أنهم لا يسمون مؤمنًا بالجنة والنار إلا من رجا الجنة وخاف النار، دون المعرض عن ذلك بالكلية مع علمه بأنه حق. كما لا يسمون إبليس مؤمنا بالله، وإن كان مصدقًا بوجوده وربوبيته، ولا يسمون فرعون مؤمنًا، وإن كان عالمًا بأن الله بعث موسى، وأنه هو الذي أنزل الآيات، وقد استيقنت بها أنفسهم مع جحدهم لها بألسنتهم. ولا يسمون اليهود مؤمنين بالقرآن والرسول، وإن كانوا يعرفون أنه حق، كما يعرفون أبناءهم. فلا يوجد قط في كلام العرب أن من علم وجود شيء مما يخاف ويرجى، ويجب حبه وتعظيمه، وهو مع ذلك لا يحبه ولا يعظمه، ولا يخافه ولا يرجوه، بل يجحد به ويكذب به بلسانه، أنهم يقولون: هو مؤمن، بل ولو عرفه بقلبه وكذب به بلسانه، لم يقولوا: هو مصدق به. ولو صدق به مع العمل بخلاف مقتضاه، لم يقولوا: هو مؤمن به. فلا يوجد في كلام العرب شاهد واحد يدل على ما ادعوه.
وقوله: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا} 4 قد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع، فإن هذا استدلال بالقرآن، وليس في الآية ما يدل على أن المصدق مرادف للمؤمن، فإن صحة هذا المعنى بأحد اللفظين لا يدل على أنه مرادف للآخر، كما بسطناه في موضعه.
الوجه الثامن: قوله: لا يعرفون في اللغة إيمانًا غير ذلك. من أين له هذا النفي الذي لا تمكن الإحاطه به؟ بل هو قول بلا علم.
التاسع: قول من يقول: أصل الإيمان مأخوذ من الأمن، كما ستأتي أقوالهم إن شاء الله. وقد نقلوا في اللغة الإيمان بغير هذا المعنى. كما قاله الشيخ أبو البيان في قول.
الوجه العاشر: أنه لو فرض أن الإيمان في اللغة التصديق، فمعلوم أن الإيمان ليس هو التصديق بكل شيء، بل بشيء مخصوص، وهو ما أخبر به الرسول، ﷺ، وحينئذ فيكون الإيمان في كلام الشارع أخص من الإيمان في اللغة، ومعلوم أن الخاص ينضم إليه قيود لا توجد في جميع العام كالحيوان إذا أخذ بعض أنواعه وهو الإنسان كان فيه المعنى العام ومعنى اختص به، وذلك المجموع ليس هو المعنى العام. فالتصديق الذي هو الإيمان، أدنى أحواله أن يكون نوعًا من التصديق العام، فلا يكون مطابقًا له في العموم والخصوص من غير تغيير اللسان ولا قلبه، بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفًا من العام والخاص كالإنسان الموصوف بأنه حيوان وأنه ناطق.
الوجه الحادي عشر: أن القرآن ليس فيه ذكر إيمان مطلق غير مفسر، بل لفظ الإيمان فيه إما مقيد، وإما مطلق مفسر. فالمقيد كقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} 5، وقوله: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} 6، والمطلق المفسر كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية 7، وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 8 ونحو ذلك. وقوله: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} 9 وأمثال هذه الآيات. وكل إيمان مطلق في القرآن فقد يبين فيه أنه لا يكون الرجل مؤمنا إلا بالعمل مع التصديق، فقد بين في القرآن أن الإيمان لابد فيه من عمل مع التصديق، كما ذكر مثل ذلك في اسم الصلاة والزكاة والصيام والحج.
فإن قيل: تلك الأسماء باقية، ولكن ضم إلى المسمى إعمالًا في الحكم لا في الاسم، كما يقوله القاضي أبو يعلي وغيره، قيل: إن كان هذا صحيحًا قيل مثله في الإيمان. وقد أورد هذا السؤال لبعضهم، ثم لم يجب عنه بجواب صحيح، بل زعم أن القرآن لم يذكر فيه ذلك. وليس كذلك، بل القرآن والسنة مملوآن بما يدل على أن الرجل لا يثبت له حكم الإيمان إلا بالعمل مع التصديق. وهذا في القرآن أكثر بكثير من معنى الصلاة والزكاة، فإن تلك إنما فسرتها السنة، والإيمان بين معناه الكتاب والسنة، وإجماع السلف.
الثاني عشر: أنه إذا قيل: إن الشارع خاطب الناس بلغة العرب، فإنما خاطبهم بلغتهم المعروفة، وقد جرى عرفهم أن الاسم يكون مطلقًا وعامًا، ثم يدخل فيه قيد أخص من معناه، كما يقولون: ذهب إلى القاضي والوالي والأمير، ويريدون شخصًا معينًا يعرفونه دلت عليه اللام مع معرفتهم به. وهذا الاسم في اللغة اسم جنس لا يدل على خصوص شخص، وأمثال ذلك. فكذلك الإيمان والصلاة والزكاة، إنما خاطبهم بهذه الأسماء بلام التعريف، وقد عرفهم قبل ذلك أن المراد الإيمان الذي صفته كذا وكذا، والدعاء الذي صفته كذا وكذا. فبتقدير أن يكون في لغتهم التصديق، فإنه قد يبين أني لا أكتفي بتصديق القلب واللسان، فضلًا عن تصديق القلب وحده، بل لابد أن يعمل بموجب ذلك التصديق، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} 10 {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} 11 وفي قوله ﷺ: «لا تؤمنون حتى تكونوا كذا»، وفي قوله تعالى: { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ} 12، وفي قوله: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء} 13، ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة، كقوله عليه السلام: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن». وقوله: «لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه». وأمثال ذلك.
فقد بين لهم أن التصديق الذي لا يكون الرجل مؤمنًا إلا به، هو أن يكون تصديقًا على هذا الوجه، وهذا بين في القرآن والسنة من غير تغيير للغة ولا نقل لها.
الثالث عشر: أن يقال: بل نقل وغير. قوله: لو فعل لتواتر. قيل: نعم. وقد تواتر أنه أراد بالصلاة والزكاة والصيام والحج معانيها المعروفه، وأراد بالإيمان ما بينه بكتابه وسنة رسوله من أن العبد لا يكون مؤمنا إلا به، كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} 14، وهذا متواتر في القرآن والسنن ومتواتر أيضا أنه لم يكن يحكم لأحد بحكم الإيمان إلا أن يؤدي الفرائض. ومتواتر عنه أنه أخبر أنه: من مات مؤمنًا دخل الجنة ولم يعذب، وأن الفساق لا يستحقون ذلك، بل هم معرضون للعذاب. فقد تواتر عنه من معاني اسم الإيمان وأحكامه ما لم يتواتر عنه في غيره، فأي تواتر أبلغ من هذا؟ ! وقد توفرت الدواعي على نقل ذلك وإظهاره، ولله الحمد. ولا يقدر أحد أن ينقل عن النبي ﷺ نقلًا يناقض هذا. لكن أخبر أنه يخرج منها من كان معه شيء من الإيمان. ولم يقل: إن المؤمن يدخلها، ولا قال: إن الفساق مؤمنون. لكن أدخلهم في مسمى الإيمان في مواضع، كما أدخل المنافقين في اسم الإيمان في مواضع مع القيود. وأما الاسم المطلق الذي وعد أهله بالجنة، فلم يدخل فيه لا هؤلاء ولا هؤلاء.
الوجه الرابع عشر: قوله: ولا وجه للعدول بالآيات التي تدل على أنه عربي عن ظاهرها، فيقال له: الآيات التي فسرت المؤمن، وسلبت الإيمان عمن لم يعمل؛ أصرح وأبين وأكثر من هذه الآيات. ثم إذا دلت على أنه عربي، فما ذكر لا يخرجه عن كونه عربيًا؛ ولهذا لما خاطبهم بلفظ الصلاة والحج وغير ذلك، لم يقولوا: هذا ليس بعربي. بل خاطبهم باسم المنافقين، وقد ذكر أهل اللغة أن هذا الاسم لم يكن يعرف في الجاهلية، ولم يقولوا: إنه ليس بعربي، لأن المنافق مشتق من نفق إذا خرج، فإذا كان اللفظ مشتقًا من لغتهم وقد تصرف فيه المتكلم به كما جرت عادتهم في لغتهم، لم يخرج ذلك عن كونه عربيًا.
الوجه الخامس عشر: أنه لو فرض أن هذه الألفاظ ليست عربية، فليس تخصيص عموم هذه الألفاظ بأعظم من إخراج لفظ الإيمان عما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف، فإن النصوص التي تنفي الإيمان عمن لا يحب الله ورسوله، ولا يخاف الله ولا يتقيه ولا يعمل شيئًا من الواجب، ولا يترك شيئًا من المحرم، كثيرة صريحة، فإذا قدر أنها عارضها آية، كان تخصيص اللفظ القليل العام أولي من رد النصوص الكثيرة الصريحة.
السادس عشر: أن هؤلاء واقفة في ألفاظ العموم لا يقولون بعمومها والسلف يقولون: الرسول وقفنا على معاني الإيمان وبينه لنا. وعلمنا مراده منه بالاضطرار، وعلمنا من مراده علمًا ضروريًا أن من قيل: إنه صدق. ولم يتكلم بلسانه بالإيمان مع قدرته على ذلك، ولا صلى ولا صام، ولا أحب الله ورسوله ولا خاف الله، بل كان مبغضًا للرسول، معاديًا له يقاتله، أن هذا ليس بمؤمن. كما قد علمنا أن الكفار من المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يعلمون أنه رسول الله وفعلوا ذلك معه، كانوا عنده كفارًا لا مؤمنين، فهذا معلوم عندنا بالاضطرار أكثر من علمنا بأن القرآن كله ليس فيه لفظ غير عربي. فلو قدر التعارض، لكان تقديم ذلك العلم الضروري أولى.
فإن قالوا: من علم أن الرسول كفره، علم انتفاء التصديق من قلبه. قيل لهم: هذه مكابرة، إن أرادوا أنهم كانوا شاكِّين مرتابين. وأما إن عني التصديق الذي لم يحصل معه عمل، فهو ناقص كالمعدوم، فهذا صحيح. ثم إنما يثبت، إذا ثبت أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، وذاك إنما يثبت بعد تسليم هذه المقدمات التي منها هذا، فلا تثبت الدعوى بالدعوي مع كفر صاحبها. ثم يقال: قد علمنا بالاضطرار أن اليهود وغيرهم كانوا يعرفون أن محمدا رسول الله، وكان يحكم بكفرهم. فقد علمنا من دينه ضرورة أنه يكفر الشخص مع ثبوت التصديق بنبوته في القلب، إذا لم يعمل بهذا التصديق، بحيث يحبه ويعظمه، ويسلم لما جاء به.
ومما يعارضون به أن يقال: هذا الذي ذكرتموه، إن كان صحيحًا، فهو أدل على قول المرجئة، بل على قول الكرَّامِية منه على قولكم، وذلك أن الإيمان إذا كان هو التصديق كما ذكرتم، فالتصديق نوع من أنواع الكلام، فاستعمال لفظ الكلام والقول ونحو ذلك في المعنى واللفظ، بل في اللفظ الدال على المعنى أكثر في اللغة من استعماله في المعنى المجرد عن اللفظ، بل لا يوجد قط إطلاق اسم الكلام ولا أنواعه: كالخبر أو التصديق والتكذيب والأمر والنهي على مجرد المعنى من غير شيء يقترن به من عبارة ولا إشارة ولا غيرهما، وإنما يستعمل مقيدًا.
وإذا كان الله إنما أنزل القرآن بلغة العرب، فهي لا تعرف التصديق والتكذيب وغيرهما من الأقوال إلا ما كان معنى ولفظًا، أو لفظًا يدل على معنى؛ ولهذا لم يجعل الله أحدًا مصدقًا للرسل بمجرد العلم والتصديق الذي في قلوبهم حتى يصدقوهم بألسنتهم، ولا يوجد في كلام العرب أن يقال: فلان صدق فلانًا أو كذبه، إذا كان يعلم بقلبه أنه صادق أو كاذب ولم يتكلم بذلك، كما لا يقال: أمره أو نهاه، إذا قام بقلبه طلب مجرد عما يقترن به من لفظ أو إشارة أو نحوهما. ولما قال النبي ﷺ: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس». وقال: «إن الله يحدث من أمره ما شاء، وإن مما أحدث ألاّ تكلِّموا في الصلاة» اتفق العلماء على أنه إذا تكلم في الصلاة عامدًا لغير مصلحتها، بطلت صلاته. واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلم بذلك، فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام.
وأيضا، ففي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «إن الله تجاوز لأمتى عما حَدَّثَتْ به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به» فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم، ففرق بين حديث النفس وبين الكلام، وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به، والمراد حتى ينطق به اللسان باتفاق العلماء، فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة؛ لأن الشارع كما قرر إنما خاطبنا بلغة العرب.
وأيضا، ففي السنن أن معاذًا قال له: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: «وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حَصَائِدُ ألسنتهم» فبين أن الكلام إنما هو ما يكون باللسان. وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل».
وفي الصحيحين عنه أنه قال: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» وقد قال الله تعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ الله وَلَدًا مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} 15، وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «أفضل الكلام بعد القرآن أربع كلمات، وهن في القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر». رواه مسلم. وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 16 ومثل هذا كثير.
وفي الجملة، حيث ذكر الله في كتابه عن أحد من الخلق من الأنبياء، أو أتباعهم أو مكذبيهم أنهم قالوا ويقولون، وذلك قولهم وأمثال ذلك، فإنما يعني به المعنى مع اللفظ، فهذا اللفظ وما تصرف منه من فعل ماض ومضارع وأمر، ومصدر واسم فاعل من لفظ القول والكلام ونحوهما، إنما يعرف في القرآن والسنة وسائر كلام العرب إذا كان لفظًا ومعنى، وكذلك أنواعه، كالتصديق والتكذيب والأمر والنهي وغير ذلك، وهذا مما لا يمكن أحدًا جحده، فإنه أكثر من أن يحصى.
ولم يكن في مسمى الكلام نزاع بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وتابعيهم، لا من أهل السنة، ولا من أهل البدعة، بل أول من عرف في الإسلام أنه جعل مسمى الكلام المعنى فقط، هو عبد الله بن سعيد بن كُلاب، وهو متأخر في زمن محنة أحمد بن حنبل وقد أنكر ذلك عليه علماء السنة، وعلماء البدعة، فيمتنع أن يكون الكلام الذي هو أظهر صفات بني آدم كما قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} 17. ولفظه لا تحصى وجوهه كثرة - لم يعرفه أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم حتى جاء من قال فيه قولًا لم يسبقه إليه أحد من المسلمين، ولا غيرهم.
فإن قالوا: فقد قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ} 18، وقال: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} 19 ونحو ذلك.
قيل: إن كان المراد أنهم قالوه بألسنتهم سرًا، فلا حجة فيه، وهذا هو الذي ذكره المفسرون. قالوا: كانوا يقولون: سلام عليك، فإذا خرجوا يقولون في أنفسهم، أي يقول بعضهم لبعض: لو كان نبيًا عذبنا بقولنا له ما نقول. وإن قدر أنه أريد بذلك أنهم قالوه في قلوبهم، فهذا قول مقيد بالنفس، مثل قوله: «عما حدثت به أنفسها»؛ ولهذا قالوا: لولا يعذبنا الله بما نقول فأطلقوا لفظ القول هنا، والمراد به ما قالوه بألسنتهم؛ لأنه النجوى والتحية التي نهوا عنها كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} 20، مع أن الأول هو الذي عليه أكثر المفسرين، وعليه تدل نظائره؛ فإن النبي ﷺ قال: «يقول الله: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه». ليس المراد أنه لا يتكلم به بلسانه، بل المراد أنه ذكر الله بلسانه.
وكذلك قوله: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} 21 هو الذكر باللسان، والذي يقيد بالنفس لفظ الحديث يقال: حديث النفس، ولم يوجد عنهم أنهم قالوا: كلام النفس وقول النفس؛ كما قالوا: حديث النفس؛ ولهذا يعبر بلفظ الحديث عن الأحلام التي ترى في المنام، كقول يعقوب عليه السلام: {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} 22، وقول يوسف: {وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} 23، وتلك في النفس، لا تكون باللسان؛ فلفظ الحديث قد يقيد بما في النفس، بخلاف لفظ الكلام فإنه لم يعرف أنه أريد به ما في النفس فقط.
وأما قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ِ} 24، فالمراد به القول الذي تارة يسر به فلا يسمعه الإنسان، وتارة يجهر به فيسمعونه كما يقال: أسر القراءة وجهر بها، وصلاة السر وصلاة الجهر؛ ولهذا لم يقل: قولوه بألسنتكم أو بقلوبكم، وما في النفس لا يتصور الجهر به، وإنما يجهر بما في اللسان، وقوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} من باب التنبيه. يقول: إنه يعلم ما في الصدور فكيف لا يعلم القول، كما قال في الآية الأخرى: {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} 25 فنبه بذلك على أنه يعلم الجهر، ويدل على ذلك أنه قال: { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فلو أراد بالقول ما في النفس لكونه ذكر علمه بذات الصدور، لم يكن قد ذكر علمه بالنوع الآخر وهو الجهر.
وإن قيل: نبه، قيل: بل نبه على القسمين. وقوله تعالى: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا} 26، قد ذكر هذا في قوله: {ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} 27، وهناك لم يستثن شيئًا، والقصة واحدة، وهذا يدل على أن الاستثناء منقطع، والمعنى، آيتك ألا تكلم الناس، لكن ترمز لهم رمزًا، كنظائره في القرآن، وقوله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} 28 هو الرمز، ولو قدر أن الرمز استثناء متصل لكان قد دخل في الكلام المقيد بالإستثناء، كما في قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} 29.
ولا يلزم من ذلك أن يدخل في لفظ الكلام المطلق، فليس في لغة القوم أصلًا ما يدل على أن ما في النفس يتناوله لفظ الكلام والقول المطلق، فضلًا عن التصديق والتكذيب، فعلم أن من لم يصدق بلسانه مع القدرة لا يسمى في لغة القوم مؤمنًا، كما اتفق على ذلك سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
وقول عمر رضي الله عنه: زورت في نفسي مقالة أردت أن أقولها، حجة عليهم. قال أبو عبيد: التزوير إصلاح الكلام وتهيئته، قال: وقال أبو زيد: المُزَوَّر من الكلام والمزوَّق واحد، وهو المصلح الحسن، وقال غيره: زورت في نفسي مقالة، أي: هيأتها لأقولها. فلفظها يدل على أنه قدر في نفسه ما يريد أن يقوله ولم يقله، فعلم أنه لا يكون قولًا إلا إذا قيل باللسان، وقبل ذلك لم يكن قولًا، لكن كان مقدرًا في النفس يراد أن يقال، كما يقدر الإنسان في نفسه أنه يحج وأنه يصلي، وأنه يسافر، إلى غير ذلك، فيكون لما يريده من القول والعمل صورة ذهنية مقدرة في النفس، ولكن لا يسمى قولًا وعملًا إلا إذا وجد في الخارج، كما أنه لا يكون حاجًا ومصليًا إلا إذا وجدت هذه الأفعال في الخارج؛ ولهذا كان ما يهم به المرء من الأقوال المحرمة والأفعال المحرمة لا تكتب عليه حتى يقوله، ويفعله، وما هم به من القول الحسن، والعمل الحسن إنما يكتب له به حسنة واحدة، فإذا صار قولًا وفعلًا كتب له به عشر حسنات إلى سبعمائة، وعوقب عليه إذا قال أو فعل كما قال النبي ﷺ: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدّثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل».
وأما البيت الذي يحكى عن الأخطل أنه قال:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ** جعل اللسان على الفؤاد دليلًا
فمن الناس من أنكر أن يكون هذا من شعره، وقالوا: إنهم فتشوا دواوينه فلم يجدوه، وهذا يروى عن محمد بن الخشاب، وقال بعضهم: لفظه: إن البيان لفي الفؤاد.
ولو احتج مُحتج في مسألة بحديث أخرجاه في الصحيحين عن النبي ﷺ لقالوا: هذا خبر واحد، ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول، وهذا البيت لم يثبت نقله عن قائله بإسناد صحيح لا واحد ولا أكثر من واحد، ولا تلقاه أهل العربية بالقبول، فكيف يثبت به أدنى شيء من اللغة، فضلًا عن مسمى الكلام. ثم يقال: مسمى الكلام والقول ونحوهما ليس هو مما يحتاج فيه إلى قول شاعر، فإن هذا مما تكلم به الأولون والآخرون من أهل اللغة، وعرفوا معناه في لغتهم، كما عرفوا مسمى الرأس واليد والرجل.
وأيضا، فالناطقون باللغة يحتج باستعمالهم للألفاظ في معانيها، لا بما يذكرونه من الحدود، فإن أهل اللغة الناطقين لا يقول أحد منهم: إن الرأس كذا، واليد كذا، والكلام كذا، واللون كذا، بل ينطقون بهذه الألفاظ دالة على معانيها، فتعرف لغتهم من استعمالهم.
فعلم أن الأخطل لم يرد بهذا أن يذكر مسمى الكلام ولا أحد من الشعراء يقصد ذلك البتة، وإنما أراد: إن كان قال ذلك ما فسره به المفسرون للشعر، أي: أصل الكلام من الفؤاد، وهو المعنى، فإذا قال الإنسان بلسانه ما ليس في قلبه فلا تثق به، وهذا كالأقوال التي ذكرها الله عن المنافقين، ذكر أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم؛ ولهذا قال:
لا يعجبنك من أثير لفظه ** حتى يكون مع الكلام أصيلًا
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ** جعل اللسان على الفؤاد دليلًا
نهاه أن يعجب بقوله الظاهر حتى يعلم ما في قلبه من الأصل؛ ولهذا قال: حتى يكون مع الكلام أصيلًا. وقوله: مع الكلام: دليل على أن اللفظ الظاهر قد سماه كلامًا، وإن لم يعلم قيام معناه بقلب صاحبه، وهذا حجة عليهم، فقد اشتمل شعره على هذا وهذا، بل قوله: "مع الكلام" مطلق. وقوله: إن الكلام لفي الفؤاد. أراد به أصله ومعناه المقصود به، واللسان دليل على ذلك.
وبالجملة، فمن احتاج إلى أن يعرف مسمى الكلام في لغة العرب، والفرس، والروم، والترك، وسائر أجناس بني آدم بقول شاعر، فإنه من أبعد الناس عن معرفة طرق العلم. ثم هو من المولًِّدين، وليس من الشعراء القدماء، وهو نصراني كافر مُثَلِّث، واسمه الأخطل، والخَطَل فساد في الكلام، وهو نصراني والنصارى قد أخطؤوا في مسمى الكلام، فجعلوا المسيح القائم بنفسه هو نفس كلمة الله.
فتبين أنه إن كان الإيمان في اللغة هو التصديق، والقرآن إنما أراد به مجرد التصديق الذي هو قول، ولم يُسَمِّ العمل تصديقًا، فليس الصواب إلا قول المرجئة: إنه اللفظ والمعنى. أو قول الكَرَّامية: إنه قول باللسان فقط، فإن تسمية قول اللسان قولًا أشهر في اللغة من تسمية معنى في القلب قولًا، كقوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} 30، وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} 31 وأمثال ذلك، بخلاف ما في النفس، فإنه إنما يسمى حديثا. والكرامية يقولون: المنافق مؤمن وهو مُخَلَّد في النار؛ لأنه آمن ظاهرًا لا باطنًا، وإنما يدخل الجنة من آمن ظاهرًا وباطنًا.
قالوا: والدليل على شمول الإيمان له أنه يدخل في الأحكام الدينية المعلقة باسم الإيمان كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} 32 ويخاطب في الظاهر بالجمعة، والطهارة، وغير ذلك مما خوطب به الذين آمنوا.
وأما من صدق بقلبه ولم يتكلم بلسانه، فإنه لا يعلق به شيء من أحكام الإيمان، لافي الدنيا ولا في الآخرة، ولا يدخل في خطاب الله لعباده بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} 33، فعلم قول الكرامية في الإيمان وإن كان باطلًا مبتدعًا لم يسبقهم إليه أحد، فقول الجهمية أبطل منه، وأولئك أقرب إلى الاستدلال باللغة والقرآن والعقل من الجهمية.
والكرامية توافق المرجئة والجهمية في أن إيمان الناس كلهم سواء ولا يستثنون في الإيمان، بل يقولون: هو مؤمن حقًا لمن أظهر الإيمان، وإذا كان منافقًا فهو مخلد في النار عندهم، فإنه إنما يدخل الجنة من آمن باطنًا وظاهرًا، ومن حكي عنهم أنهم يقولون: المنافق يدخل الجنة، فقد كذب عليهم، بل يقولون: المنافق مؤمن لأن الإيمان هو القول الظاهر، كما يسميه غيرهم مسلمًا؛ إذ الإسلام: هو الاستسلام الظاهر، ولا ريب أن قول الجهمية أفسد من قولهم من وجوه متعددة، شرعًا ولغة وعقلًا.
وإذا قيل: قول الكرَّامية قول خارج عن إجماع المسلمين، قيل: وقول جهم في الإيمان قول خارج عن إجماع المسلمين قبله، بل السلف كفروا من يقول بقول جهم في الإيمان. وقد احتج الناس على فساد قول الكرامية بحجج صحيحة، والحجج من جنسها على فساد قول الجهمية أكثر، مثل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} 34، قالوا: فقد نفى الله الإيمان عن المنافقين.
فنقول: هذا حق، فإن المنافق ليس بمؤمن، وقد ضل من سماه مؤمنا، وكذلك من قام بقلبه علم وتصديق وهو يجحد الرسول ويعاديه، كاليهود وغيرهم، سماهم الله كفارًا لم يسمهم مؤمنين قط ولا دخلوا في شيء من أحكام الإيمان، بخلاف المنافق فإنه يدخل في أحكام الإيمان الظاهرة في الدنيا، بل قد نفى الله الإيمان عمن قال بلسانه وقلبه إذا لم يعمل، كما قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 35، فنفى الإيمان عمن سوى هؤلاء.
وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِالله وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} 36، والتولي هو: التولي عن الطاعة كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِالله وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} 37. وقال تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} 38، وقد قال تعالى: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} 39، وكذلك قال موسى وهارون: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} 40. فعلم أن التولي ليس هو التكذيب، بل هو التولي عن الطاعة، فإن الناس عليهم أن يصدقوا الرسول فيما أخبر، ويطيعوه فيما أمر. وضد التصديق التكذيب، وضد الطاعة التولي؛ فلهذا قال: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} 41، وقد قال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِالله وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} 42، فنفى الإيمان عمن تولى عن العمل، وإن كان قد أتى بالقول، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} 43، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} 44.
ففي القرآن والسنة من نفى الإيمان عمن لم يأت بالعمل مواضع كثيرة، كما نفى فيها الإيمان عن المنافق. وأما العالم بقلبه مع المعاداة والمخالفة الظاهرة، فهذا لم يسم قط مؤمنًا، وعند الجهمية إذا كان العلم في قلبه فهو مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان النبيين، ولو قال وعمل ماذا عسى أن يقول ويعمل؟ ولا يتصور عندهم أن ينتفى عنه الإيمان إلا إذا زال ذلك العلم من قلبه.
ثم أكثر المتأخرين الذين نصروا قول جهم يقولون بالإستثناء في الإيمان، ويقولون: الإيمان في الشرع هو ما يوافي به العبد ربه، وإن كان في اللغة أعم من ذلك، فجعلوا في مسألة الإستثناء مسمى الإيمان ما ادعوا أنه مسماه في الشرع، وعدلوا عن اللغة، فهلا فعلوا هذا في الأعمال. ودلالة الشرع على أن الأعمال الواجبة من تمام الإيمان لا تحصى كثرة، بخلاف دلالته على أنه لا يسمى إيمانا؛ إلا ما مات الرجل عليه فإنه ليس في الشرع ما يدل على هذا، وهو قول محدث لم يقله أحد من السلف، لكن هؤلاء ظنوا أن الذين استثنوا في الإيمان من السلف كان هذا مأخذهم؛ لأن هؤلاء وأمثالهم لم يكونوا خبيرين بكلام السلف، بل ينصرون ما يظهر من أقوالهم بما تلقوه عن المتكلمين من الجهمية ونحوهم من أهل البدع، فيبقى الظاهر قول السلف، والباطن قول الجهمية الذين هم أفسد الناس مقالة في الإيمان. وسنذكر إن شاء الله أقوال السلف في الاستثناء في الإيمان ولهذا لما صار يظهر لبعض أتباع أبي الحسن فساد قول جهم في الإيمان، خالفه كثير منهم، فمنهم من اتبع السلف.
قال أبو القاسم الأنصاري شيخ الشهرستاني في شرح الإرشاد لأبي المعالي، بعد أن ذكر قول أصحابه قال: وذهب أهل الأثر إلى أن الإيمان جميع الطاعات، فَرْضِها ونَفْلِها، وعبروا عنه بأنه إتيان ما أمر الله به فرضًا ونفلًا، والانتهاء عما نهى عنه تحريمًا وأدبًا. قال: وبهذا كان يقول أبو علي الثقفي من متقدمي أصحابنا، وأبو العباس القلانسي.
وقد مال إلى هذا المذهب أبو عبد الله بن مجاهد قال: وهذا قول مالك بن أنس إمام دار الهجرة، ومعظم أئمة السلف رضوان الله عليهم أجمعين.
وكانوا يقولون: الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان. ومنهم من يقول بقول المرجئة: إنه التصديق بالقلب واللسان.
ومنهم من قال: إذا ترك التصديق باللسان عنادًا كان كافرًا بالشرع، وإن كان في قلبه التصديق والعلم. وكذلك قال أبو إسحاق الإسفرائيني.
قال الأنصاري: رأيت في تصانيفه أن المؤمن إنما يكون مؤمنًا حقًا إذا حقق إيمانه بالأعمال الصالحة، كما أن العالم إنما يكون عالمًا حقًا إذا عمل بما علم، واستشهد بقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} 45 وقال أيضا أبو إسحاق: حقيقة الإيمان في اللغة: التصديق، ولا يتحقق ذلك إلا بالمعرفة والائتمار، وتقوم الإشارة والإنقياد مقام العبارة.
وقال أيضا أبو إسحاق في كتاب الأسماء والصفات: اتفقوا على أن ما يستحق به المكلف اسم الإيمان في الشريعة أوصاف كثيرة، وعقائد مختلفة، وإن اختلفوا فيها على تفصيل ذكروه، واختلفوا في إضافة ما لا يدخل في جملة التصديق إليه لصحة الاسم، فمنها ترك قتل الرسول، وترك إيذائه، وترك تعظيم الأصنام، فهذا من التروك، ومن الأفعال نصرة الرسول والذب عنه، وقالوا: إن جميعه يضاف إلى التصديق شرعًا، وقال آخرون: إنه من الكبائر، لا يخرج المرء بالمخالفة فيه عن الإيمان.
قلت: وهذان القولان ليسا قول جهم، لكن من قال ذلك فقد اعترف بأنه ليس مجرد تصديق القلب، وليس هو شيئًا واحدًا، وقال: إن الشرع تصرف فيه، وهذا يهدم أصلهم؛ ولهذا كان حُذَّاق هؤلاء، كجَهّمٍ، والصالحي، وأبي الحسن، والقاضي أبي بكر، على أنه لا يزول عنه اسم الإيمان إلا بزوال العلم من قلبه.
قال أبو المعالي: باب في ذكر الأسماء والأحكام: اعلم أن غرضنا في هذا الباب يستدعى تقديم ذكر حقيقة الإيمان. قال: وهذا مما تباينت فيه مذاهب الإسلاميين، ثم ذكر قول الخوارج، والمعتزلة، والكَرَّامية، ثم قال: وأما مذاهب أصحابنا، فصار أهل التحقيق من أصحاب الحديث والنظار منهم إلى أن الإيمان هو التصديق، وبه قال شيخنا أبو الحسن رحمة الله عليه واختلف رأيه في معنى التصديق؛ وقال مرة: المعرفة بوجوده وقدمه وإلهيته، وقال مرة: التصديق: قول في النفس، غير أنه يتضمن المعرفة، ولا يصح أن يوجد دونها، وهذا مقتضاه، فإن التصديق والتكذيب والصدق والكذب بالأقوال أجدر فالتصديق إذًا قول في النفس يعبر عنه باللسان، فتوصف العبادة بأنها تصديق؛ لأنها عبارة عن التصديق. وقال بعض أصحابنا: التصديق لا يتحقق إلا بالقول والمعرفة جميعا، فإذا اجتمعا كانا تصديقا واحدا.
ومنهم من اكتفى بترك العناد، فلم يجعل الإقرار أحد ركني الإيمان، فيقول: الإيمان هو التصديق بالقلب، وأوجب ترك العناد بالشرع، وعلى هذا الأصل يجوز أن يعرف الكافر الله، وإنما يكفر بالعناد لا لأنه ترك ما هو الأهم في الإيمان.
وعلى هذا الأصل يقال: إن اليهود كانوا عالمين بالله ونبوة محمد ﷺ، إلا أنهم كفروا عنادا وبغيا وحسدا، قال: وعلى قول شيخنا أبي الحسن: كل من حكمنا بكفره فنقول: إنه لا يعرف الله أصلا ولا عرف رسوله ولا دينه، قال أبو القاسم الأنصاري تلميذه: كأن المعنى: لا حكم لإيمانه ولا لمعرفته شرعا.
قلت: وليس الأمر على هذا القول كما قاله الأنصاري هذا، ولكن على قولهم: المعاند كافر شرعا، فيجعل الكفر تارة بانتفاء الإيمان الذي في القلب وتارة بالعناد، ويجعل هذا كافرا في الشرع، وإن كان معه حقيقة الإيمان الذي هو التصديق، ويلزمه أن يكون كافرا في الشرع، مع أن معه الإيمان الذي هو مثل إيمان الأنبياء والملائكة. والحذاق في هذا المذهب، كأبي الحسن، والقاضي ومن قبلهم من أتباع جهم، عرفوا أن هذا تناقض يفسد الأصل فقالوا: لا يكون أحد كافرا إلا إذا ذهب ما في قلبه من التصديق والتزموا أن كل من حكم الشرع بكفره، فإنه ليس في قلبه شيء من معرفة الله ولا معرفة رسوله؛ ولهذا أنكر هذا عليهم جماهير العقلاء، وقالوا: هذا مكابرة وسَفسَطَة.
وقد احتجوا على قولهم بقوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} الآية 46 قالوا: ومفهوم هذا، إن من لم يعمل بمقتضاه لم يكتب في قلوبهم الإيمان.
قالوا: فإن قيل: معناه لا يؤمنون إيمانا مجزئا معتدا به، أو يكون المعنى: لا يؤدون حقوق الإيمان، ولا يعملون بمقتضاه، قلنا: هذا عام لا يخصص إلا بدليل.
فيقال لهم: هذه الآية فيها نفي الإيمان عمن يواد المحادين لله ورسوله، وفيها أن من لا يواد المحادين لله ورسوله فإن الله كتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، وهذا يدل على مذهب السلف أنه لابد في الإيمان من محبة القلب لله ولرسوله، ومن بغض من يحاد الله ورسوله، ثم لم تدل الآية على أن العلم الذي في قلوبهم بأن محمدا رسول الله يرتفع لا يبقى منه شيء، والإيمان الذي كتب في القلب ليس هو مجرد العلم والتصديق، بل هو تصديق القلب وعمل القلب؛ ولهذا قال: {وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله أَلَا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ}47 فقد وعدهم بالجنة. وقد اتفق الجميع على أن الوعد بالجنة لا يكون إلا مع الإتيان بالمأمور به وترك المحظور، فعلم أن هؤلاء الذين كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه، قد أدوا الواجبات التي بها يستحقون ما وعد الله به الأبرار المتقين، ودل هذا على أن الفساق لم يدخلوا في هذا الوعد، ودلت هذه الآية على أنه لا يوجد مؤمن يواد الكفار، ومعلوم أن خلقا كثيرا من الناس يعرف من نفسه أن التصديق في قلبه لم يكذب الرسول، وهو مع هذا يواد بعض الكفار، فالسلف يقولون: ترك الواجبات الظاهرة دليل على إنتفاء الإيمان الواجب من القلب، لكن قد يكون ذلك بزوال عمل القلب الذي هو حب الله ورسوله وخشية الله، ونحو ذلك لا يستلزم أن لا يكون في القلب من التصديق شيء، وعند هؤلاء كل من نفى الشرع إيمانه دل على أنه ليس في قلبه شيء من التصديق أصلا، وهذا سفسطة عند جماهير العقلاء.
وكذلك حكى ابن فُورَك عن أبي الحسن الأشعري قال: الإيمان هو اعتقاد صدق المخبر فيما يخبر به اعتقادا هو علم، ومنه اعتقاد ليس بعلم، والإيمان بالله وهو اعتقاد صدقه إنما يصح إذا كان عالما بصدقه في إخباره، وإنما يكون كذلك إذا كان عالما بأنه يتكلم والعلم بأنه متكلم بعد العلم بأنه حي، والعلم بأنه حي بعد العلم بأنه فاعل، والعلم بأنه فاعل بعد العلم بالفعل، وهو كون العالم فعلا له، وقال: وكذلك يتضمن العلم بكونه قادرا وله قدرة وعالما وله علم، ومريدا وله إرادة، وسائر ما لا يصح العلم بالله إلا بعد العلم به من شرائط الإيمان.
قلت: هذا مما اختلف فيه قول الأشعري، وهو أن الجهل ببعض الصفات، هل يكون جهلا بالموصوف، أم لا؟ على قولين، والصحيح الذي عليه الجمهور وهو آخر قوليه، أنه لا يستلزم الجهل بالموصوف، وجعل إثبات الصفات من الإيمان، مما خالف فيه الأشعري جهما فإن جهما غال في نفي الصفات، بل وفي نفي الأسماء.
قال أبو الحسن: ثم السمع ورد بضم شرائط أخر إليه، وهو ألا يقترن به ما يدل على كفر من يأتيه فعلا وتركا، وهو أن الشرع أمره بترك العبادة والسجود للصنم، فلو أتى به دل على كفره، وكذلك من قتل نبيا واستخف به، دل على كفره، وكذلك لو ترك تعظيم المصحف أو الكعبة دل على كفره، قال: وأحد ما استدللنا به على كفره ما منع الشرع، أن يقرن بالإيمان أو أوجب ضمه إلى الإيمان لو وجد دلنا ذلك على أن التصديق الذي هو الإيمان مفقود من قلبه، وكذلك كل ما كفر به المخالف من طريق التأويل فإنما كفرناه به لدلالته على فقد ما هو إيمان من قلبه؛ لاستحالة أن يقضي السمع بكفر من معه الإيمان والتصديق بقلبه.
فيقال: لا ريب أن الشارع لا يقضي بكفر من معه الإيمان بقلبه، لكن دعواكم أن الإيمان هو التصديق وإن تجرد عن جميع أعمال القلب غلط؛ ولهذا قالوا: أعمال التصديق والمعرفة من قلبه، ألا ترى أن الشريعة حكمت بكفره، والشريعة لا تحكم بكفر المؤمن المصدق؛ ولهذا نقول: إن كفر إبليس لعنه الله كان أشد من كفر كل كافر، وأنه لم يعرف الله بصفاته قطعا، ولا آمن به إيمانا حقيقيا باطنا وإن وجد منه القول والعبادة، وكذلك اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من الكفرة لم يوجد في قلوبهم حقيقة الإيمان المعتد به في حال حكمنا لهم بالكفر. قال الله تعالى: { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء }48، وقوله: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } الآية 49، فجعل الله هذه الأمور شرطا في ثبوت حكم الإيمان، فثبت أن الإيمان المعرفة بشرائط لا يكون معتدا به دونها.
فيقال: إن قلتم: إنه ضم إلى معرفة القلب شروطا في ثبوت الحكم أو الاسم، لم يكن هذا قول جهم، بل يكون هذا قول من جعل الإيمان كالصلاة، والحج هو وإن كان في اللغة بمعنى القصد والدعاء، لكن الشارع ضم إليه أمورا إما في الحكم وإما في الحكم والاسم، وهذا القول قد سلم صاحبه أن حكم الإيمان المذكور في الكتاب والسنة لا يثبت بمجرد تصديق القلب، بل لابد من تلك الشرائط، وعلى هذا فلا يمكنه جعل الفاسق مؤمنا إلا بدليل يدل على ذلك، لا بمجرد قوله: إن معه تصديق القلب، ومن جعل الإيمان هو تصديق القلب يقول: كل كافر في النار ليس معهم من التصديق بالله شيء، لا مع إبليس ولا مع غيره، وقد قال الله تعالى: { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } 50 وقال تعالى: { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } 51، فقد اعترفوا بأن الرسل أتتهم وتلت عليهم آيات ربهم وأنذرتهم لقاء يومهم هذا، فقد عرفوا الله ورسوله واليوم الآخر وهم في الآخرة كفار.
وقال تعالى: { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَيْءٍ } 52، فقد كذبوا بوجوده وكذبوا بتنزيله، وأما في الآخرة فعرفوا الجميع، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } 53،
وقال تعالى: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد} 54، إلَى آيات أخر ٌ كثيرة تدل على أن الكفار في الآخرة يعرفون ربهم فإن كان مجرد المعرفة إيمانا كانوا مؤمنين في الآخرة. فإن قالوا: الإيمان في الآخرة لا ينفع، وإنما الثواب على الإيمان في الدنيا.
قيل: هذا صحيح، لكن إذا لم يكن الإيمان إلا مجرد العلم، فهذه الحقيقة لا تختلف، فإن لم يكن العمل من الإيمان، فالعارف في الآخرة لم يفته شيء من الإيمان، لكن أكثر ما يدعونه أنه حين مات لم يكن في قلبه من التصديق بالرب شيء، ونصوص القرآن في غير موضع تدل على أن الكفار كانوا في الدنيا مصدقين بالرب، حتى فرعون الذي أظهر التكذيب كان في باطنه مصدقا، قال تعالي: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } 55، وكما قال موسى لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ } 56، ومع هذا لم يكن مؤمنا؛ بل قال موسى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ } 57 قال الله: { قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا } 58، ولما قال فرعون: { آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ } 59. قال الله: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } 60 فوصفه بالمعصية، ولم يصفه بعدم العلم في الباطن كما قال: { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } 61، وكما قال عن إبليس: { فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ } 62،
فلم يصفه إلا بالإباء والاستكبار ومعارضته الأمر، لم يصفه بعدم العلم، وقد أخبر الله عن الكفار في غير موضع أنهم كانوا معترفين بالصانع في مثل قوله: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } 63.
ثم يقال لهم: إذا قلتم هوالتصديق بالقلب، أو باللسان، أو بهما، فهل هو التصديق المجمل؟ أو لابد فيه من التفصيل؟ فلو صدق أن محمدا رسول الله ولم يعرف صفات الحق، هل يكون مؤمنا أم لا؟ فإن جعلوه مؤمنا، قيل: فإذا بلغه ذلك فكذب به، لم يكن مؤمنا باتفاق المسلمين، فصار بعض الإيمان أكمل من بعض، وإن قالوا: لا يكون مؤمنا، لزمهم أن لا يكون أحد مؤمنا حتى يعرف تفصيل كل ما أخبر به الرسول، ومعلوم أن أكثر الأمة لا يعرفون ذلك وعندهم الإيمان لا يتفاضل إلا بالدوام فقط.
قال أبو المعالي: فإن قال القائل: أصلكم يلزمكم أن يكون إيمان المنهمك في فسقه كإيمان النبي ﷺ.
قلنا: الذي يفضل إيمانه على إيمان من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله إياه من مُخَامَرَة الشُّكُوك واخْتِلاج الرَّيَب. والتصديق عَرَض من الأعراض لا يبقى وهو متوال للنبي ﷺ ثابت لغيره في بعض الأوقات، وزائل عنه في أوقات الفترات، فيثبت للنبي ﷺ أعداد من التصديق، ولا يثبت لغيره إلا بعضها، فيكون إيمانه لذلك أكثر وأفضل، قال: ولو وصف الإيمان بالزيادة والنقصان، وأريد به ذلك، كان مستقيما.
قلت: فهذا هو الذي يفضل به النبي غيره في الإيمان عندهم، ومعلوم أن هذا في غاية الفساد من وجوه كثيرة، كما قد بسط في مواضع أخرى.
هامش
- ↑ [يوسف: 17]
- ↑ [إبراهيم: 4]
- ↑ [الزخرف: 3]
- ↑ [يوسف: 17]
- ↑ [البقرة: 3]
- ↑ [يونس: 83]
- ↑ [الأنفال: 2]
- ↑ [الحجرات: 15]
- ↑ [النساء: 65]
- ↑ [الحجرات: 15]
- ↑ [الأنفال: 2]
- ↑ [المجادلة: 22]
- ↑ [المائدة: 81]
- ↑ [الأنفال: 2]
- ↑ [الكهف: 4، 5]
- ↑ [فاطر: 10]
- ↑ [الذاريات: 23]
- ↑ [المجادلة: 8]
- ↑ [الأعراف: 205]
- ↑ [المجادلة: 8]
- ↑ [الأعراف: 205]
- ↑ [يوسف: 6]
- ↑ [يوسف: 101]
- ↑ [الملك: 13]
- ↑ [طه: 7]
- ↑ [آل عمران: 41]
- ↑ [مريم: 10]
- ↑ [مريم: 11]
- ↑ [الشورى: 51]
- ↑ [الفتح: 11]
- ↑ [البقرة: 8]
- ↑ [النساء: 92]
- ↑ [البقرة: 104]
- ↑ [البقرة: 8]
- ↑ [الحجرات: 14، 15]
- ↑ [النور: 47]
- ↑ [الفتح: 16]
- ↑ [القيامة: 31، 32]
- ↑ [الليل: 15، 16]
- ↑ [طه: 48]
- ↑ [القيامة 31: 32]
- ↑ [النور: 47]
- ↑ [النور: 62]
- ↑ [الأنفال: 2]
- ↑ [الأنفال 2: 4]
- ↑ [المجادلة: 22]
- ↑ [المجادلة: 22]
- ↑ [المائدة: 18]
- ↑ [النساء: 56]
- ↑ [غافر: 47، 48]
- ↑ [الزمر: 71]
- ↑ [الملك: 8، 9]
- ↑ [الأنعام: 30]
- ↑ [ق: 19: 22]
- ↑ [النمل: 14]
- ↑ [الإسراء: 102]
- ↑ [يونس: 88]
- ↑ [يونس: 89]
- ↑ [يونس: 90]
- ↑ [يونس: 91]
- ↑ [المزمل: 16]
- ↑ [ص: 73، 74]
- ↑ [الزخرف: 87]