انتقل إلى المحتوى

مجموع الفتاوى/المجلد السابع/جواب أحمد مما نقل عنه في الرد على طوائف المرجئة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


جواب أحمد مما نقل عنه في الرد على طوائف المرجئة

[عدل]

وجواب أحمد:

بسم الله الرحمن الرحيم. أحسن الله إلينا وإليك في الأمور كلها، وسلمنا وإياك من كل شر برحمته، أتاني كتابك تذكرما تذكر من احتجاج من احتج من المرجئة. واعلم رحمك الله أن الخصومة في الدين ليست من طريق أهل السنة، وأن تأويل من تأول القرآن بلا سنة تدل على معنى ما أراد الله منه، أو أثر عن أصحاب رسول الله ، ويعرف ذلك بما جاء عن النبي ، أوعن أصحابه، فهم شاهدوا النبي وشهدوا تنزيله، وما قصه الله له في القرآن، وماعني به، وما أراد به أخاص هو أم عام، فأما من تأوله على ظاهره بلا دلالة من رسول الله ولا أحد من الصحابة، فهذا تأويل أهل البدع؛ لأن الآية قد تكون خاصة ويكون حكمها حكمًا عامًا، ويكون ظاهرهاعلى العموم، وإنما قصدت لشيء بعينه، ورسول الله هو المعبر عن كتاب الله وما أراد، وأصحابه أعلم بذلك منا، لمشاهدتهم الأمر وما أريد بذلك، فقد تكون الآية خاصة، أي معناها مثل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} 1 وظاهرها على العموم، أي من وقع عليه اسم "ولد" فله ما فرض الله، فجاءت سنة رسول الله ألا يرث مسلم كافرًا.

وروي عن النبي وليس بالثبت إلا أنه عن أصحابه أنهم لم يورثوا قاتلا، فكان رسول الله هو المعبر عن الكتاب أن الآية إنما قصدت للمسلم لا للكافر، ومن حملها على ظاهرها لزمه أن يورث من وقع عليه اسم الولد كافرًا كان أو قاتلا، وكذلك أحكام الوارث من الأبوين وغير ذلك مع آي كثير يطول بها الكتاب، وإنما استعملت الأمة السنة من النبي ومن أصحابه، إلا من دفع ذلك من أهل البدع والخوارج وما يشبههم، فقد رأيت إلى ما خرجوا.

قلت: لفظ المجمل والمطلق والعام كان في اصطلاح الأئمة، كالشافعي وأحمد، وأبي عبيد وإسحاق وغيرهم سواء، لا يريدون بالمجمل ما لا يفهم منه، كما فسره به بعض المتأخرين وأخطأ في ذلك، بل المجمل ما لا يكفي وحده في العمل به وإن كان ظاهره حقًا، كما في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} 2، فهذه الآية ظاهرها ومعناها مفهوم، ليست مما لا يفهم المراد به، بل نفس ما دلت عليه لا يكفي وحده في العمل فإن المأمور به صدقة تكون مطهرة مزكية لهم، وهذا إنما يعرف ببيان الرسول ؛ولهذا قال أحمد يحذر المتكلم في الفقه هذين الأصلين: المجمل والقياس. وقال: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس، يريد بذلك ألا يحكم بما يدل عليه العام والمطلق قبل النظر فيما يخصه ويقيده، ولا يعمل بالقياس قبل النظر في دلالة النصوص هل تدفعه، فإن أكثر خطأ الناس تمسكهم بما يظنونه من دلالة اللفظ والقياس، فالأمور الظنية لا يعمل بها حتى يبحث عن المعارض بحثًا يطمئن القلب إليه، وإلا أخطأ من لم يفعل ذلك. وهذا هو الواقع في المتمسكين بالظواهر والأقيسة؛ ولهذا جعل الاحتجاج بالظواهر مع الإعراض عن تفسير النبي وأصحابه طريق أهل البدع، وله في ذلك مصنف كبير.

وكذلك التمسك بالأقيسة مع الإعراض عن النصوص والآثار طريق أهل البدع؛ولهذا كان كل قول ابتدعه هؤلاء قولا فاسدًا، وإنما الصواب من أقوالهم ما وافقوا فيه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلاَدِكُمْ} 3 سماه عامًا وهو مطلق في الأحوال، يعمها على طريق البدل، كما يعم قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 4 جميع الرقاب، لا يعمها كما يعم لفظ الولد للأولاد، ومن أخذ بهذا لم يأخذ بما دل عليه ظاهر لفظ القرآن، بل أخذ بما ظهر له مما سكت عنه القرآن، فكان الظهور لسكوت القرآن عنه، لا لدلالة القرآن على أنه ظاهر، فكانوا متمسكين بظاهر من القول لا بظاهر القول، وعمدتهم عدم العلم بالنصوص التي فيها علم بما قيد، وإلا فكل ما بينه القرآن وأظهره فهو حق، بخلاف ما يظهر للإنسان لمعنى آخر غير نفس القرآن يسمى ظاهر القرآن. كاستدلالات أهل البدع من المرجئة والجهمية والخوارج والشيعة.

قال أحمد: وأما من زعم أن الإيمان الإقرار، فما يقول في المعرفة؟ هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟ وهل يحتاج أن يكون مصدقًا بما عرف؟ فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فلقد زعم أنه من شيئين، وإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقرًا ومصدقًا بما عرف فهو من ثلاثة أشياء، وإن جحد وقال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق، فقد قال قولا عظيمًا، ولا أحسب أحدًا يدفع المعرفة والتصديق وكذلك العمل مع هذه الأشياء.

قلت: أحمد وأبو ثور وغيرهما من الأئمة كانوا قد عرفوا أصل قول المرجئة، وهو: أن الإيمان لا يذهب بعضه ويبقى بعضه، فلا يكون إلا شيئًا واحدًا فلا يكون ذا عدد؛ اثنين أو ثلاثة، فإنه إذا كان له عدد، أمكن ذهاب بعضه وبقاء بعضه، بل لا يكون إلا شيئًا واحدًا، ولهذا قالت الجهمية: إنه شيء واحد في القلب. وقالت الكرامية: إنه شيء واحد على اللسان، كل ذلك فرارًا من تبعض الإيمان وتعدده، فلهذا صاروا يناظرونهم بما يدل على أنه ليس شيئًا واحدًا، كما قلتم، فأبو ثور احتج بما اجتمع عليه الفقهاء المرجئة، من أنه تصديق وعمل، ولم يكن بلغه قول متكلميهم وجهميتهم، أو لم يعد خلافهم خلافًا، وأحمد ذكر أنه لابد من المعرفة والتصديق مع الإقرار، وقال: إن من جحد المعرفة والتصديق فقد قال قولا عظيمًا، فإن فساد هذا القول معلوم من دين الإسلام؛ ولهذا لم يذهب إليه أحد قبل الكرامية، مع أن الكرامية لا تنكر وجوب المعرفة والتصديق، ولكن تقول: لا يدخل في اسم الإيمان حذرًا من تبعضه وتعدده؛ لأنهم رأوا أنه لا يمكن أن يذهب بعضه ويبقى بعضه، بل ذلك يقتضي أن يجتمع في القلب إيمان وكبر، واعتقدوا الإجماع على نفي ذلك، كما ذكر هذا الإجماع الأشعري وغيره.


هامش

  1. [النساء: 11]
  2. [التوبة: 103]
  3. [النساء: 11]
  4. [المجادلة: 3]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد السابع
كتاب الإيمان الكبير | الفرق بين الإيمان والإسلام | تفسير الإيمان في حديث وفد عبد القيس | تفسير قوله: ألم يأن للذين آمنوا | تفسير قوله: ثم قست قلوبكم | تفسير قوله: إن الذين اتقوا إذا مسهم | فصل: جاءت أحاديث تنازع الناس في صحة الإيمان لأجل ترك واجب | كلام محمد بن نصر المروزي على آية حبب إليكم الإيمان | تفسير آيات فيما أحل وما حرم من الأطعمة | معنى: وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة من خردل | فصل: في لفظ الكفر والنفاق | فصل: في لفظ الصالح والشهيد والصديق | فصل: في لفظ المعصية والفسوق والكفر | فصل: في ظلم النفس | فصل: في لفظ الصلاح والفساد | فصل: فإن قيل تنوع دلالة اللفظ بالإطلاق والتقييد لا يمكن دفعه | بحث في الإطلاق والتقييد والكليات والجزئيات في الأمور العقلية | ومن الأمثلة المشهورة لمن يثبت المجاز في القرآن | فإن قيل: الصلاة والحج ونحوهما لو ترك بعضها بطلت بخلاف الإيمان | فصل في أن أبا الحسن الأشعري نصر قول جهم في الإيمان | فصل: الذين نصروا مذهب جهم جعلوا الإيمان خصلة من خصال الإسلام | فصل: ومما يدل من القرآن على أن الإيمان المطلق مستلزم للأعمال | فصل: فيما إذا قرن الإسلام بالإيمان | فصل: عطف الشيء على الشيء في القرآن يقتضي المغايرة | فصل: لفظ الإيمان إذا أطلق يراد به ما يراد بلفظ البر | فصل:هذا النوع من نمط أسماء الله وأسماء كتابه وأسماء رسوله وأسماء دينه | فصل: الوجه الثاني ظنهم أن ما في القلب من الإيمان ليس إلا التصديق فقط | فصل: فإن قيل فإذا كان الإيمان المطلق يتناول جميع ما أمر الله به ورسوله | فصل: زيادة الإيمان تعرف من وجوه | فصل: أثبت الله في القرآن إسلاما بلا إيمان | فصل: الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها | فصل: ومما يسأل عنه أنه إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من هذه الخمس | فصل: قال محمد بن نصر: واستدلوا على أن الإيمان هو ما ذكره بالآيات التي تلوناها | من يختصه الله بفضله | سائر أهل الكبائر إيمانهم ناقص | الذين نفى عنهم الرسول الإيمان | اسم الإسلام يتناول أيضا ما هو أصل الإيمان | وقول القائل: أصل الاستسلام هو الإسلام الظاهر | وقول القائل: الطاعات ثمرات التصديق الباطن | تفريق أحمد بين الإسلام والإيمان | جواب أحمد مما نقل عنه في الرد على طوائف المرجئة | دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين | صار الناس في الإيمان والإسلام على ثلاثة أقوال | فصل: الاستثناء في الإيمان | كتاب الإيمان الأوسط | فصل: حديث سؤال النبي عن الإسلام والإيمان والإحسان | فصل: قول الخوارج الذين يكفرون بمطلق الذنوب ويخلدون في النار | فصل: تنازع الناس في اسم المؤمن والإيمان نزاعا كثيرا | الأصل الثاني: أن شعب الإيمان قد تتلازم | فصل: الإيمان تارة يطلق على ما في القلب من الأقوال القلبية | فصل: التفاضل في الإيمان بدخول الزيادة والنقص فيه يكون من وجوه متعددة | فصل: إذا علم أن الإيمان الذي في القلب من التصديق والحب وغير ذلك يستلزم الأمور الظاهرة | فصل: في الجمع بين الأحاديث التي ذكرت فيها أركان الإسلام الخمسة | فصل: في الإحسان وقوله أن تعبد الله كأنك تراه | فصل: فيما تقدم من القواعد | فصل: لفظ الإسلام يستعمل على وحهين | فصل: أصل الإيمان هو الإيمان بالله ورسوله | سئل: عن الإيمان بالله ورسوله هل فوقه مقام من المقامات أو حال من الأحوال | فصل: في قول القائل: هل تكون صفة الإيمان نورا يوقعه الله في قلب العبد | فصل: في قوله: هل يكون لأول حصوله سبب | فصل: قوله: الأسباب التي يقوى بها الإيمان | فصل: في طريق الوصول إلى ذلك | فصل: الإيمان: هل هو مخلوق أو غير مخلوق | فصل: الاستثناء في الإيمان سنة | فصل: سئل عن معنى حديث إذا زنى العبد خرج منه الإيمان | فصل: سئل عن معنى قوله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر | سئل شيخ الإسلام عن بدعة المرازقة