مجموع الفتاوى/المجلد الثامن/قول السائل ولا يقال علم الله ما يختار فالمختار مسطور
قول السائل ولا يقال علم الله ما يختار فالمختار مسطور
[عدل]وأما قوله:
ولا يقال علم الله ما ** يختار فالمختار مسطور
فهو يتضمن إيراد سؤال من القدرية وجوابه منهم: فإنهم قد يقولون: نحن نقول: إنه يعلم، وإذا قلنا ذلك، لم نكن قد نفينا القدرة، بل أثبتنا القدر بمعنى العلم مع نفي كون الرب تعالى شائيًا جميع الحوادث، خالقًا لأفعال العباد. قال الناظم فإن الذي يختاره العبد مسطور قبل ذلك، فلا يمكن بغيره فيلزم الجبر.
وقد يعترض على هذا الجواب، بأن يقال: اللازم هنا بمنزلة الملزوم، فإن علمه بأنه يختاره موافق لما كتبه من أنه يختاره، وتغيير العلم أعظم من تغيير المسطور.
وقد يقال: إنه أراد جعل السطر من تمام القول، أي لا يقال علم ما يختاره، وسطر ذلك. أي: فتقدم العلم والكتاب كاف في الإيمان بالقدر، فإن مجرد ذلك لا يكفي في الإيمان بالقدر، وهذا من حجة القائلين بالجبر. قالوا: خلاف المعلوم ممتنع، فالأمر به أمر بممتنع؛ لأنه لو وقع المأمور للزم انقلاب العلم جهلا.
وجوابهم: أن الممتنع لفظ مجمل، فإن أرادوا أن خلاف المعلوم لا يقع، ولا يكون، فهذا صحيح، ولكن التكليف بما لا يكون لا يكون تكليفًا بما يعجز عنه الفاعل، فإن مالا يفعله الفاعل قد لا يفعله؛ لعجزه عنه وقد لا يفعله؛ لعدم إرادته، فإنما كلف بما يطيقه مع علم الرب أنه لا يكون، كما يعلم أن ما لا يشاؤه هو لا يكون، مع أنه لو شاء لفعله.
وقول المحتج: لو وقع لانقلب العلم جهلا.
قيل: هذا صحيح، وهو يدل على أنه لا يقع، لكن لا يدل على أن المكلف عاجز عنه، لو أراده لم يقدر على فعله، فإنه لا يقع لعدم إرادته له، لا لعدم قدرته عليه، كالذي لا يقع من مقدورات الرب التي لو شاء لفعلها، هو يعلم أنه لا يفعلها.
ولا يجوز أن يقال: إنه غير قادر عليها، كما قاله بعض غلاة أهل البدع، بل قد قال سبحانه: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ. بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} 1، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} 2، مع أنه قد ثبت في الصحيحين عن جابر، أنه لما نزل قوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} 3، قال النبي ﷺ: «أعوذ بوجهك»، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}، قال: «أعوذ بوجهك»، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال: «هاتان أهون». فهذا الذي أخبر أنه قادر عليه منه ما لا يكون، وهو إرسال عذاب من فوق الأمة، أو من تحت أرجلهم. ومنه ما يكون وهو لبسهم شيعًا، وإذاقة بعضهم بأس بعض. كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته ألا يسلط عليهم عدوًا من غيرهم فأعطانيها، وسألته ألا يهلكهم بسنة عامة فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها».
وقد ذكر في غير موضع من القرآن، ما لا يكون أنه لو شاء لفعله، كقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} 4، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} 5، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} 6، وأمثال هذه الآيات، تبين أنه لو شاء أن يفعل أمورًا لم تكن لفعلها، وهذا يدل على أنه قادر على ما علم أنه لا يكون، فإنه لولا قدرته عليه لكان إذا شاء لا يفعله، فإنه لا يمكن فعله إلا بالقدرة عليه، فلما أخبر وهو الصادق في خبره أنه لو شاء لفعله، علم أنه قادر عليه وإن علم سبحانه أنه لا يكون، وعلم أيضا أن خلاف المعلوم قد يكون مقدورًا.
وإذا قيل: هو ممتنع، فهو من باب الممتنع؛ لعدم مشيئة الرب له، لا لكونه ممتنعًا في نفسه، ولا لكونه معجوزًا عنه.
ولفظ الممتنع، فيه إجمال كما تقدم، وما سمى ممتنعًا بمعنى أنه لا يكون مع أنه لو شاء العبد لفعله؛ لقدرته عليه، فهذا يجوز تكليفه بلا نزاع، وإن سماه بعضهم بما لا يطاق، فهذا نزاع لفظي، ونزاع في أن القدرة، هل يجوز أن تتقدم الفعل أم لا؟
هامش