مجموع الفتاوى/المجلد الثامن/فصل في قدرة الرب عز وجل
فصل في قدرة الرب عز وجل
في قدرة الرب عز وجل
اتفق المسلمون وسائر أهل الملل على أن الله على كل شيء قدير، كما نطق بذلك القرآن في مواضع كثيرة جدًا. وقد بسطت الكلام في الرد على من أنكر قدرة الرب في غير موضع، كما قد كتبناه على الأربعين، والمحصل وفي شرح الأصبهانية وغير ذلك، وتكلمنا على ما ذكره الرازي وغيره في مسألة كون الرب قادرًا مختارًا، وما وقع فيها من التقصير الكثير مما ليس هذا موضعه
والمقصود هنا: الكلام بين أهل الملل الذين يصدقون الرسل فنقول: هنا مسائل:
المسألة الأولى: قد أخبر الله أنه على كل شيء قدير، والناس في هذا على ثلاثة أقوال:
طائفة تقول: هذا عام يدخل فيه الممتنع لذاته من الجمع بين الضدين، وكذلك يدخل في المقدور، كما قال ذلك طائفة منهم ابن حزم
وطائفة تقول: هذا عام مخصوص يخص منه الممتنع لذاته، فإنه وإن كان شيئًا، فإنه لا يدخل في المقدور، كما ذكر ذلك ابن عطية وغيره، وكلا القولين خطأ
والصواب: هو القول الثالث الذي عليه عامة النظار، وهو: أن الممتنع لذاته ليس شيئًا البتة، وإن كانوا متنازعين في المعدوم، فإن الممتنع لذاته لا يمكن تحققه في الخارج، ولا يتصوره الذهن ثابتًا في الخارج، ولكن يقدر اجتماعهما في الذهن، ثم يحكم على ذلك بأنه ممتنع في الخارج؛ إذ كان يمتنع تحققه في الأعيان، وتصوره في الأذهان، إلا على وجه التمثيل بأن يقال: قد تجتمع الحركة والسكون في الشيء، فهل يمكن في الخارج أن يجتمع السواد والبياض في محل واحد، كما تجتمع الحركة والسكون؟ فيقال: هذا غير ممكن، فيقدر اجتماع نظير الممكن ثم يحكم بامتناعه، وأما نفس اجتماع البياض والسواد في محل واحد، فلا يمكن ولا يعقل، فليس بشيء لا في الأعيان ولا في الأذهان، فلم يدخل في قوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1
المسألة الثانية: أن المعدوم ليس بشيء في الخارج عند الجمهور وهو الصواب
وقد يطلقون أن الشيء هو الموجود، فيقال على هذا: فيلزم ألا يكون قادرًا إلا على موجود، وما لم يخلقه لا يكون قادرًا عليه، وهذا قول بعض أهل البدع، قالوا: لا يكون قادرًا إلا على ما أراده، دون ما لم يرده، ويحكى هذا عن تلميذ النظام. والذين قالوا: إن الشيء هو الموجود من نظار المثبتة كالأشعري، ومن وافقه من أتباع الأئمة؛ أحمد وغير أحمد، كالقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني وغيرهما يقولون: إنه قادر على الموجود، فيقال: إن هؤلاء أثبتوا ما لم تثبته الآية، فالآية أثبتت قدرته على الموجود، وهؤلاء قالوا: هو قادر على الموجود والمعدوم
والتحقيق: أن الشيء اسم لما يوجد في الأعيان، ولما يتصور في الأذهان، فما قدَّره الله وعلم أنه سيكون هو شيء في التقدير والعلم والكتاب، وإن لم يكن شيئًا في الخارج. ومنه قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2، ولفظ الشيء في الآية يتناول هذا وهذا، فهو على كل شيء ما وجد وكل ما تصوره الذهن موجودًا، إن تصور أن يكون موجودًا قديرًا، لا يستثنى من ذلك شيء، ولا يزاد عليه شيء، كما قال تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} 3، وقال: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} 4، وقد ثبت في الصحيحين: أنها لما نزلت قال النبي ﷺ: «أعوذ بوجهك». فلما نزل: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} الآية قال: 5. فهو قادر على الأولتين وإن لم يفعلهما، وقال: {وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} 6
قال المفسرون: لقادرون على أن نذهب به حتى تموتوا عطشًا، وتهلك مواشيكم، وتخرب أراضيكم. ومعلوم أنه لم يذهب به، وهذا كقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} إلى قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 7، وهذا يدل على أنه قادر على ما لا يفعله. فإنه أخبر أنه لو شاء جعل الماء أجاجًا وهو لم يفعله، ومثل هذا: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}8 0 {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} 9، {وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقْتَتَلَ} 10، فإنه أخبر في غير موضع أنه لو شاء لفعل أشياء وهو لم يفعلها، فلو لم يكن قادرًا عليها؛ لكان إذا شاءها لم يمكن فعلها
المسألة الثالثة: أنه على كل شيء قدير، فيدخل في ذلك أفعال العباد وغير أفعال العباد. وأكثر المعتزلة يقولون: إن أفعال العبد غير مقدورة
المسألة الرابعة: أنه يدخل في ذلك أفعال نفسه، وقد نطقت النصوص بهذا، وهذا كقوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} 11، {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} 12، {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} 13 ونظائره كثيرة
والقدرة على الأعيان جاءت في مثل قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} 14، {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} 15، وجاءت منصوصًا عليها في الكتاب والسنة0 أما الكتاب فقوله: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} 16، فبين أنه سبحانه يقدر عليهم أنفسهم، وهذا نص في قدرته على الأعيان المفعولة، وقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} 17، و{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} 18 ونحو ذلك. وهو يدل بمفهومه على أن الرب هو الجبار عليهم المسيطر، وذلك يستلزم قدرته عليهم، وقوله: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} 19 على قول الحسن وغيره من السلف ممن جعله من القدرة دليل على أن الله قادر عليه وعلى أمثاله، وكذلك قول الموصى لأهله: لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين. فلما حرقوه أعاده الله تعالى وقال له: «ما حملك على ما صنعت؟» قال: خشيتك يا رب! فغفر له، وهو كان مخطئًا في قوله: لئن قدر الله علي ليعذبني كما يدل عليه الحديث، وإن الله قدر عليه، لكن لخشيته وإيمانه غفر الله له هذا الجهل والخطأ الذي وقع منه
وقد يستدل بقوله: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} إلى قوله: {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} 20 على قول من جعله من القدرة، فإنه يتناول القدرة على المخلوقين وإن كان سبحانه قادرًا أيضا على خلقه، فالقدرة على خلقه قدرة عليه، والقدرة عليه قدرة على خلقه، وجاء أيضا الحديث منصوصًا في مثل قول النبي ﷺ لأبي مسعود لما رآه يضرب عبده: «لله أقدر عليك منك على هذا»0 فهذا فيه بيان قدرة الرب على عين العبد، وأنه أقدر عليه منه على عبده، وفيه إثبات قدرة العبد
وقد تنازع الناس في قدرة الرب والعبد، فقالت طائفة: كلا النوعين يتناول الفعل القائم بالفاعل، ويتناول مقدوره وهذا أصح الأقوال، وبه نطق الكتاب والسنة، وهو أن كل نوع من القدرتين يتناول الفعل القائم بالقادر ومقدوره المباين له، وقد تبين بعض ما دل على ذلك في قدرة الرب. وأما قدرة العبد، فذكر قدرته على الأفعال القائمة به كثيرة، وهذا متفق عليه بين الناس الذين يثبتون للعبد قدرة، مثل قوله: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} 21، {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} 22، {وَسَيَحْلِفُونَ بِالله لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} الآية 23، وقول النبي ﷺ: «صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جَنْبِكَ»«2»
وأما المباين لمحل القدرة، فمثل قوله: {وَعَدَكُمْ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} إلى قوله: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} إلى {قَدِيرًا} 24، فدل على أنهم قدروا على الأول، وهذه يمكن أن يقدروا عليها وقتًا آخر. وهذه قدرة على الأعيان، وقوله: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} إلى قوله: {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا} الآية 25
قال أبو الفرج: وفي قوله: {قادرين} ثلاثة أقوال:
أحدها: قادرين على جنتهم عند أنفسهم، قاله قتادة. قلت: وهو قول مجاهد وقتادة، رواه ابن أبي حاتم عنهما. قال مجاهد: قادرين في أنفسهم، وهذا الذي ذكره البغوي: قادرين عند أنفسهم على جنتهم، وثمارها، لا يحول بينهم وبينها أحد، وعن قتادة قال: غدا القوم وهم يحدون إلى جنتهم، قادرين على ذلك في أنفسهم
قال أبو الفرج: والثاني: قادرين على المساكين، قاله الشعبي، أي: على منعهم. وقيل: على إعطائهم لكن البخل منعهم من الإعطاء، والله أعلم
والثالث: غدوا وهم قادرين، أى: واجدون، قاله ابن قتيبة
قلت: الآية وصفتهم بأنهم غدوا على حرد قادرين، فالحرد يرجع إلى القصد، فغدوا بإرادة جازمة وقدرة، ولكن الله أعجزهم. وقول من قال: قادرين عند أنفسهم، أى: ظنوا أن الأمر يبقى كما كان، ولو كان كذلك، لتمت قدرتهم، لكن سلبوا القدرة بإهلاك جنتهم
قال البغوي: الحرد في اللغة يكون بمعنى القصد والمنع والغضب. قال الحسن وقتادة وأبو العالية: على جد وجهد. وقال القرطبي ومجاهد وعكرمة: على أمر مجتمع قد أسسوه بينهم. قال: وهذا على معنى القصد؛ لأن القاصد إلى الشيء جاد مجمع على الأمر. وقال أبو عبيدة والقُتَيبي: غدوا من أنفسهم على حرد: على منع المساكين، يقول: حاردت السَّنَةُ: إذا لم يكن لها مطر، وحاردت الناقة علىّ: إذا لم يكن لها لبن. وقال الشعبي وسفيان: على حنق وغضب من المساكين. وفي تفسير الوالبي: عن ابن عباس: على قدرة
قلت: الحرد فيه معنى العزم الشديد، فإن هذا اللفظ يقتضى هذا، وحرد السنة والناقة لما فيه من معنى الشدة، وكذلك الحنق والغضب فيه شدة؛ فكان لهم عزم شديد على أخذها، وعلى حرمان المساكين، وغدوا بهذا العزم قادرين ليس هناك ما يعجزهم وما يمنعهم، لكن جاءها أمر من السماء فأبطل ذلك كله، وقيل: الحرد: هو الغيظ والغضب، والله أعلم
ونظير هذا وهو صريح في المطلوب أن القدرة تكون على الأعيان، قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} إلى قوله: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} الآية: 26، وقوله: {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} 27، يبين أنه لولا الجائحة لكان ظنهم صادقًا، وكانوا قادرين عليها، لكن لما أتاها أمر الله تبين خطأ الظن، ولو لم يكونوا قادرين عليها لا في حال سلامتها ولا في حال عطبها، لم يكن الله أبطل ظنهم بما أحدثه من الإهلاك، وهؤلاء لم يكونوا ذهبوا ليحصدوا، بل سلبوا القدرة عليها وهي القدرة التامة فانتفت لانتفاء المحل القابل؛ لا لضعف من الفاعل، وفي تلك قال: {عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} 28، ولم يقل: قادرين عند أنفسهم، فإن كان كما قاله من قال: عند أنفسهم فالمعنى واحد، وإن أريد بكونهم قادرين، أي: ليس في أنفسهم ما ينافى القدرة؛ كالمرض والضعف، ولكن بطل محل القدرة كالذي يقدر على النقد والرزق ولا شيء عنده
وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} 29، فهم في هذه الحال لا يقدرون مما كسبوا على شيء، فدل على أنهم في غير هذا يقدرون على ما كسبوا، وكذلك غيرهم يقدر على ما كسب، فالمراد بالمكسوب المال المكسوب
وقوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا} 30، فلما ذكر في المملوك أنه لا يقدر على شيء، ومقصوده أن الآخر ليس كذلك، بل هو قادر على ما لا يقدر عليه هذا، وهو إثبات الرزق الحسن مقدورًا لصاحبه، وصاحبه قادر عليه، وبهذا ينطق عامة العقلاء يقولون: فلان يقدر على كذا وكذا، وفلان يقدر على كذا وكذا، ومقدرة هذا دون مقدرة هذا
ومما يبين ذلك: أن الملك نائب للعباد على ما ملكهم الله إياه، والملك مستلزم للقدرة فلا يكون مالكًا إلا من هو قادر على التصرف بنفسه، أو بوليه أو وكيله، والعقد والمنقول مملوك لمالكه، فدل على أنه مقدور له، وقد قال موسى: {رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} 31، لما كان قادرًا على التصرف في أخيه؛ لطاعته له جعل ذلك ملكا له، وقال تعالى: {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} 32، وقال تعالى: {وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} 33 أي: مطيقين، فدل على أنهم صاروا مقرنين مطيقين لما سخرها لهم، فهو معنى قوله: {فّهٍمً لّهّا مّالٌكٍونّ}، وقد قال تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} 34، فدل على أنهم لو نقبوا ذلك لكانوا قد استطاعوا النقب، والنقب ليس هو حركة أيديهم، بل هو جعل الشيء منقوبًا، فدل على أن ذلك النقب مقدور للعباد
وأيضا، فالقرآن دل على أن المفعولات الخارجة مصنوعة لهم، وما كان مصنوعًا لهم فهو مقدور بالضرورة والاتفاق، والمنازع يقول: ليس شيء خارجًا عن محل قدرتهم مصنوعًا لهم، وهذا خلاف القرآن، قال تعالى لنوح: {وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}، وقال: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} 35، وقد أخبر أن الفلك مخلوقة مع كونها مصنوعة لبني آدم، وجعلها من آياته، فقال: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} 36، {سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} 37، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} 38، وقال: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ. وَالله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 39
فجعل الأصنام منحوتة معمولة لهم، وأخبر أنه خالقهم، وخالق معمولهم فإن "ما" هاهنا بمعنى الذي، والمراد خلق ما تعملونه من الأصنام، وإذا كان خالقًا للمعمول وفيه أثر الفعل، دل على أنه خالق لأفعال العباد. وأما قول من قال: "ما" مصدرية، فضعيف جدًا
وقال تعالى: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} 40، وإنما دمر ما بنوه وعرشوه، فأما الأعراض التي قامت بهم، فتلك فنيت قبل أن يغرقوا، وقوله: {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} دليل على أن العروش مفعول لهم، هم فعلوا العرش الذي فيه، وهو التأليف، ومثل قوله: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} 41، يدل على أن المبني هم بنوه، حيث قال: {أَتَبْنُونَ}؟ وكذلك قوله: {وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا} 42، هو كقوله: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} 43، وقوله: {جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} 44، دل على أنهم جابوا الصخر، أي: قطعوه
ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 45، فأمر بقتلهم، والأمر إنما يكون بمقدور العبد، فدل على أن القتل مقدور له، وهو الفعل الذي يفعله في الشخص فيموت، وهو مثل الذبح، ومنه قوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} 46، وقوله: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} 47، وقوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} 48، يدل على أن الصيد مقتول للآدمي الذي قتله، بخلاف قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ الله قَتَلَهُمْ} 49، فإنه مثل قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله} 50، فإن قتلهم حصل بأمور خارجة عن قدرتهم، مثل إنزال الملائكة، وإلقاء الرعب في قلوبهم، وكذلك الرمي، لم يكن في قدرته أن التراب يصيب أعينهم كلهم، ويرعب قلوبهم، فالرمي الذي جعله الله خارجًا عن قدرة العبد المعتاد، هو الرمي الذي نفاه الله عنه
قال أبو عبيد: ما ظفرت أنت ولا أصبت، ولكن الله ظفرك وأيدك. وقال الزجاج: ما بلغ رميك كفًا من تراب، أو حصًا أن يملأ عيون ذلك الجيش الكثير، إنما الله تولى ذلك. وذكر ابن الأنباري: ما رميت قلوبهم بالرعب، إذ رميت وجوههم بالتراب. ولهذا كان هذا أمرًا خارجًا عن مقدوره، فكان من آيات نبوته
وقيل: بل الرب تعالى لا يقدر إلا على المخلوق المنفصل لا يقوم به فعل يقدر عليه، والعبد لا يقدر إلا على ما يقوم بذاته، لا يقدر على شيء منفصل عنه، وهذا قول الأشعري ومن وافقه من أتباع الأئمة: كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم
وقيل: إن العبد يقدر على هذا وهذا، والرب لا يقدر إلا على المنفصل وهو قول المعتزلة، وقيل: إن كليهما يقدر على ما يقوم به دون المنفصل، وما علمت أحدًا قال: كلاهما يقدر على المنفصل دون المتصل
المسألة الخامسة: أن القدرة هي قدرته على الفعل، والفعل نوعان: لازم، ومتعد، والنوعان في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 51، فالاستواء والإتيان والمجيء والنزول ونحو ذلك أفعال لازمة، لا تتعدى إلى مفعول؛ بل هي قائمة بالفاعل، والخلق والرزق والإماتة والإحياء والإعطاء والمنع، والهدى والنصر، والتنزيل ونحو ذلك، تتعدى إلى مفعول
والناس في هذين النوعين على ثلاثة أقوال:
منهم من لا يثبت فعلا قائما بالفاعل، لا لازمًا ولا متعديًا، أما اللازم فهو عنده منتفٍ، وأما المتعدى كالخلق فيقول: الخلق هو المخلوق، أو معنى غير المخلوق، وهذا قول الجهمية والمعتزلة، ومن اتبعهم كالأشعري ومتبعيه، وهذا أول قولي القاضي أبي يعلى، وقول ابن عقيل.
وكثير من المعتزلة يقولون: الخلق هو المخلوق. وآخرون يقولون: هو غيره، لكن يقولون: بأن الخلق له خلق آخر، كما يقوله مَعْمَر بن عَبَّاد، ويسمون أصحاب المعاني المتسلسلة. ومنهم من يقول: الخلق هو نفس الإرادة، كما يقوله من يقوله من بعض المعتزلة من أهل البصرة
والقول الثاني: أن الفعل المتعدي قائم بنفسه دون اللازم. فيقولون: الخلق قائم بنفسه ليس هو المخلوق. وهم على قولين:
منهم من جعل ذلك الفعل حادثًا
ومنهم من يجعله قديمًا، فيقول: التخليق والتكوين قديم أزلي. وهؤلاء منهم من يجعل عين التخليق شيئًا واحدًا هو قديم، والمخلوقين مادته؛ ولكنه قديم أزلي، ولا يثبتون نزولا قائمًا بنفسه، ولا استواء؛ لأن هذه حوادث وهذا قول الكُلابِيَّة الذين يقولون: فعله قديم مثل كلامه، كما قال أصحاب ابن خُزَيْمَة، وهو قول كثير من الحنفية والحنبلية والمالكية والشافعية، ومنهم من يجعل القديم هو النوع وأفراده حادثة، فعلى هذا القول يكون الفعل نفسه مقدورًا، وأما على قول من يجعله شيئًا معينًا، فهؤلاء إن قالوا: قديم، تناقضوا ولزمهم أن يكون القديم المعين مقدورًا، وإن قالوا: هو غير مقدور، تناقضوا؛ لأن الفعل يجب أن يكون مقدورًا، والله أعلم
والقول الثالث: إثبات الفعلين: اللازم والمتعدي كما دل عليه القرآن، فنقول: إنه كما أخبر عن نفسه: إنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، وهو قول السلف وأئمة السنة، وهو قول من يقول: إنه تقوم به الصفات الاختيارية كأصحاب أبي معاذ وزهير البابي وداود بن علي والكَرَّامِيَّة وغيرهم من الطوائف، وإن كانت الكرامية يقولون: بأن النزول والإتيان أفعال تقوم به، وهؤلاء يقولون: يقدر على أن يأتي ويجيء وينزل ويستوي، ونحو ذلك من الأفعال، كما أخبر عن نفسه، وهذا هو الكمال
وقد صرح أئمة هذا القول بأنه يتحرك، كما ذكر ذلك حرب الكَرْماني عن أهل السنة والجماعة، وسمى منهم: أحمد بن حنبل، وسعيد بن منصور، وإسحاق بن إبراهيم وغيرهم. وكذلك ذكره عثمان بن سعيد الدارمي عن أهل السنة، وجعل نفي الحركة عن الله عز وجل من أقوال الجهمية التي أنكرها السلف، وقال: كل حي متحرك، وما لا يتحرك فليس بحي. وقال بعضهم: إذا قال لك الجهمي: أنا كافر برب يتحرك، فقل: أنا مؤمن برب يفعل ما يشاء
وهؤلاء يقولون: من جعل هذه الأفعال غير ممكنة ولا مقدورة له، فقد جعله دون الجماد، فإن الجماد وإن كان لا يتحرك بنفسه فهو يقبل الحركة في الجملة. وهؤلاء يقولون: إنه تعالى لا يقبل ذلك بوجه ولا تمكنه الحركة، والحركة والفعل صفة كمال، كالعلم والقدرة والإرادة، فالذين ينفون تلك الصفات سلبوه صفات الكمال، فكذلك هؤلاء الكلابية
وأولئك نفاة الصفات إذا قيل لهم: لو لم يكن حيًا، عليمًا، سميعًا، بصيرًا، متكلمًا؛ للزم أن يكون ميتًا، جاهلا، أصم، أعمى، أخرس، وهذه نقائص يجب تنزيهه عنها، فإنه سبحانه قد خلق من هو حي سميع بصير متكلم عالم، قادر متحرك، فهو أولى بأن يكون كذلك، فإن كل كمال في المخلوق المعلول فهو من كمال الخالق الذي يسمونه علة فاعلية.
وأيضا، فالقديم الواجب بنفسه أكمل من المحدث، فيمتنع أن يختص الناقص بالكمال. قالوا: وأما الجماد فلا يسمي حيًا ولا ميتًا. وقد ذكرنا في غير موضع الجواب عن هذه بأجوبة:
أحدها: أن قولهم: إن الجماد لا يسمى حيًا، وإنما يسمى ميتًا ما كان قابلا للحياة: هو اصطلاح، وإلا فالقرآن قد سمى الجماد ميتًا في غير موضع، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} الآية 52، فسمى الأصنام أمواتًا وهي حجارة، وقال: {وَآيَةٌ لَهُمْ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} 53
الوجه الثاني: لا نسلم امتناع قبول هذه الحياة، بل الرب تعالى قد جعل الجمادات قابلة للحياة، ولا يمتنع قبولها لها، فإن الله تعالى قد جعل عصى موسى حية تسعى، فدل على أن الخشب يمكن أن يكون حيوانًا، وموسى لما اغتسل جعل ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه، وقد أحيا الله الحوت المشوي الذي كان معه ومع فتاه، وقد سبح الحصا والطعام سبح وهو يؤكل وكان حجر يسلم على النبي ﷺ، وحن الجذع، والجبال سبحت مع داود، ونظائر هذا كثيرة، وقد قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} 54
الوجه الثالث: أن يقال: هب أنه لا يوصف بالموت إلا ما قبل الحياة، فمعلوم أن ما قبل الحياة أكمل ممن لا يقبلها، فالجنين في بطن أمه قبل أن ينفخ فيه الروح أكمل من الحجر، وقد قال تعالى: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} 55، فالجنين يمكن أن يصير حيًا في العادة، ناطقًا نطقًا يسمعه الإنسان السماع المعتاد، فهو أكمل من الحجر والتراب
وأيضا، فيقال لهم: رب العالمين إما أن يقبل الاتصاف بالحياة والعلم ونحو ذلك، وإما ألا يقبل، فإن لم يقبل ذلك ولم يتصف به، كان دون الأعمى الأصم الأبكم، وإن قبلها ولم يتصف بها، كان ما يتصف بها أكمل منه، فجعلوه دون الإنسان والبهائم، وهكذا يقال لهم في أنواع الفعل القائم به كالإتيان، والمجىء، والنزول، وجنس الحركة: إما أن يقبل ذلك وإما ألا يقبله، فإن لم يقبله، كانت الأجسام التي تقبل الحركة ولم تتحرك أكمل منه، وإن قبل ذلك ولم يفعله، كان ما يتحرك أكمل منه، فإن الحركة كمال للمتحرك، ومعلوم أن من يمكنه أن يتحرك بنفسه أكمل ممن لا يمكنه التحرك، وما يقبل الحركة أكمل ممن لا يقبلها
والنفاة عمدتهم أنه لو قبل الحركة لم يخل منها، ويلزم وجود حوادث لا تتناهى، ثم ادعوا نفي ذلك وفي نفيه نقائص لا تتناهى، والمثبتون لذلك يقولون: هذا هو الكمال، كما قال السلف: لم يزل الله متكلمًا إذا شاء، كما قال ذلك ابن المبارك، وأحمد بن حنبل وغيرهما. وذكر البخاري عن نعيم بن حماد أنه قال: الحي هو الفعال، وما ليس بفعال فليس بحي. وقد عرف بطلان قول الجهمية وغيرهم بامتناع دوام الفعل والحوادث، كما قد بسط في غير هذا الموضع
والمقصود هاهنا، أن هؤلاء لا يجعلونه قادرًا على هذه الأفعال، وهي أصل الفعل، فلا يكون على شيء قدير على قولهم، بل ولا على شيء، وقد قال: {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهٌِ} 56. قال ابن عباس في رواية الوالبي عنه: هذه في الكفار، فأما من آمن أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره
وذكروا في قوله: {مَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ} 57، ما عرفوه حق معرفته، وما عظموه حق عظمته، وما وصفوه حق صفته، وهذه الكلمة ذكرها الله في ثلاثة مواضع: في الرد على المعطلة، وعلى المشركين، وعلى من أنكر إنزال شيء على البشر، فقال في الأنعام: {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ الله عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} 58، وقال في الحج: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله} إلى قوله تعالى: {مَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 59، وقال في الزمر: {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 60
وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود: أن حبرًا من اليهود قال للنبي ﷺ: يا محمد، إن الله يوم القيامة يجعل السموات على إصبع، والأرض على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثَّرَى وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن، ويقول: أنا الملك. قال: فضحك رسول الله ﷺ تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ} الآية. وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ ثم يقول: أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟»، وكذلك في الصحيحين من حديث ابن عمر: »يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟«، وفي لفظ لمسلم قال: «يأخذ الجبار تبارك وتعالى سمواته وأرضه بيديه جميعًا، فجعل يقبضهما ويبسطهما، ثم يقول: أنا الملك، أنا الجبار، وأنا الملك، أين الجبارون؟وأين المتكبرون؟ !» ويميل رسول الله ﷺ عن يمينه وعن شماله حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله ﷺ
وفي السنن: عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قمت مع رسول الله ﷺ ليلة فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ، قال: ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه: «سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة»، ثم يسجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة. رواه أبو داود والنسائي والترمذي في الشمائل. فقال في هذا الحديث: «سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة». وهذه الأربعة نوزع الرب فيها، كما قال: «أين الملوك؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟»، وقال عز وجل: «العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته»
ونفاة الصفات ما قدروا الله حق قدره، فإنه عندهم لا يمسك شيئًا ولا يقبضه ولا يطويه، بل كل ذلك ممتنع عليه، ولا يقدر على شيء من ذلك، وهم أيضا في الحقيقة يقولون: ما أنزل الله على بشر من شيء لوجهين:
أحدهما: أن الإنزال إنما يكون من علو، والله تعالى عندهم ليس في العلو، فلم ينزل منه شيء، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} 61، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} 62 إلى غير ذلك، وقولهم: إنه خلقه في مخلوق، ونزل منه باطل؛ لأنه قال: {مٍنّزَّلِ مٌَن رَّبٌَكّ} ولم يجئ هذا في غير القرآن، والحديد ذكر أنه أنزله مطلقًا، ولم يقل: منه، وهو منزل من الجبال، والمطر أنزل من السماء، والمراد: أنه أنزله من السحاب، وهو المزْن، كما ذكر ذلك في قوله: {أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ} 63
والثاني: أنه لو كان من مخلوق لكان صفة له وكلاما له، فإن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل؛ ولأن الله لا يتصف بالمخلوقات، ولو اتصف بذلك لاتصف بأنه مصوت إذا خلق الأصوات، ومتحرك إذا خلق الحركات في غيره، إلى غير ذلك، إلى أن قال: فقد تبين أن الجهمية ما قدروا الله حق قدره، وإنهم داخلون في هذه الآية، وإنهم لم يثبتوا قدرته لا على فعل ولا على الكلام بمشيئته، ولا علي نزوله، ولا على إنزاله منه شيئًا، فهم من أبعد الناس عن التصديق بقدرة الله، وأنه على كل شيء قدير، وإذا لم يكن قديرًا لم يكن قويًا، ويلزمهم أنه لم يخلق شيئًا، فيلزمهم الدخول في قوله: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. مَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 64
فهم ينفون حقيقة قدرته في الأزل، وحقيقة قولهم: إنه صار قادرًا بعد أن لم يكن، والقدرة التي يثبتونها لا حقيقة لها
وهذا أصل مهم، من تصوره عرف حقيقة الأقوال الباطلة، وما يلزمها من اللوازم، وعرف الحق الذي دل عليه صحيح المنقول، وصريح المعقول، لا سيما في هذه الأصول التي هي أصول كل الأصول، والضالون فيها لما ضيعوا الأصول حرموا الوصول، وقد تبين أنه كلما تحققت الحقائق، وأعطى النظر والاستدلال حقه من التمام؛ كان ما دل عليه القرآن هو الحق، وهو الموافق للمعقول الصريح الذي لم يشتبه بغيره مما يسمى معقولا، وهو مشتبه مختلط، كما قال مجاهد في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا} 65، قال: هم أهل البدع والشبهات، فهم في أمور مبتدعة في الشرع، مشتبهة في العقل
والصواب: هو ما كان موافقًا للشرع مبينًا في العقل، فإن الله سبحانه أخبر أن القرآن منزل منه، وأنه تنزيل منه، وأنه كلامه، وأنه قوله، وأنه كفر من قال: إنه قول البشر، وأخبر أنه قول رسول كريم من الملائكة ورسول كريم من البشر، والرسول يتضمن المرسل، فبين أن كلا من الرسولين بلغه، لم يحدث هو منه شيئًا، وأخبر أنه جعله قرآنًا عربيًا، وقال عما ينزل منه جديدًا بعد نزول غيره قديمًا: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} 66، وأخبر أن للكلام المعين وقتًا معينًا، كما قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَامُوسَى}67، وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} 68
والذين قالوا: إنه مخلوق، ليس معهم حجة إلا ما يدل على أنه تكلم بمشيئته وقدرته، وهذا حق، لكن ضموا إلى ذلك أن ما كان بمشيئته لا يقوم بذاته، فغلطوا ولبسوا الحق بالباطل، فضموا ما نطق به القرآن الموافق للشرع والعقل إلى ما أحدثوه من البدع والشبهات
وكذلك الذين قالوا: إنه قديم، ليس معهم إلا ما يدل على أنه قائم بذاته، لكن ضموا إلى ذلك أن ما يقوم بذاته لا يكون بمشيئته وقدرته، فأخطؤوا في ذلك ولبسوا الحق بالباطل، وأولئك فسروا قوله: {جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 69، بأنه جعله بائنًا عنه مخلوقًا، وقالوا: جعل بمعنى: خلق، وهؤلاء قالوا: جعلناه: سميناه، كما في قوله: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثًا} 70، وهذا إنما يقال فيمن اعتقد في الشيء صفة حقًا أو باطلا إذا كانت الصفة خفية، فيقال: أخبرعنه بكذا، وكون القرآن عربيًا أمر ظاهر لا يحتاج إلى الإخبار، ثم كل من أخبر بأنه عربي فقد جعله عربيًا بهذا الاعتبار، والرب تعالى اختص بجعله عربيًا، فإنه هو الذي تكلم به وأنزله، فجعله قرآنًا عربيًا بفعل قام بنفسه وهو تكلم به، واختاره لأن يتكلم به عربيًا عن غير ذلك من الألسنة باللسان العربي وأنزله به
ولهذا قال أحمد: الجعل من الله قد يكون خلقًا وقد يكون غير خلق، فالجعل فعل، والفعل قد يكون متعديًا إلى مفعول مباين له؛ كالخلق، وقد يكون الفعل لازمًا وإن كان له مفعول في اللغة كان مفعوله قائمًا بالفعل؛ مثل التكلم، فإن التكلم فعل يقوم بالمتكلم والكلام نفسه قائم بالمتكلم، فهو سبحانه جعله قرآنًا عربيًا، فالجعل قائم به والقرآن العربي قائم به، فإن الكلام يتضمن شيئين: يتضمن فعلا؛ هو التكلم، والحروف المنظومة والأصوات الحاصلة بذلك الفعل؛ ولهذا يجعل القول تارة نوعًا من الفعل، وتارة قسيمًا للفعل، كما قد بسطت هذه الأمور في غير هذا الموضع، والله أعلم
وقد ذكرت في غير هذا الموضع: أنه ما احتج أحد بدليل سمعي أو عقلي على باطل، إلا وذلك الدليل إذا أعطى حقه وميز ما يدل عليه مما لا يدل؛ تبين أنه يدل على فساد قول المبطل المحتج به، وأنه دليل لأهل الحق، وأن الأدلة الصحيحة لا يكون مدلولها إلا حقا، والحق لا يتناقض، بل يصدق بعضه بعضًا، والله أعلم
المسألة السادسة: دوام كونه قادرًا في الأزل والأبد، فإنه قادر ولا يزال قادرًا على ما يشاؤه بمشيئته، فلم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء، وهذا قول السلف والأئمة كابن المبارك وأحمد
إلى أن قال: وفي صحيح البخاري تعليقًا عن سعيد بن جبير؛ أن رجلا سأل ابن عباس عن قوله: {وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا} 71، {وَكَانَ الله عَزِيزًا حَكِيمًا} 72، {وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا}73، فكأنه كان فمضى، فقال ابن عباس: قوله: {وَكَانَ الله}، {وَكَانَ الله} فإنه يجل نفسه عن ذلك، وسمى نفسه بذلك لم يجله أحد غيره، وكان أي: لم يزل كذلك. رواه عبد بن حميد في تفسيره مسندًا موصولا، ورواه ابن المنذر أيضا في تفسيره، وهذا لفظ رواية عبد
والمقصود هنا التنبيه على تنازع الناس في مسألة القدرة. وفي الحقيقة أنه من لم يقل بقول السلف فإنه لا يثبت لله قدرة، ولا يثبته قادرًا، فالجهمية ومن اتبعهم، والمعتزلة والقدرية المجبرة والنافية، حقيقة قولهم: إنه ليس قادرًا وليس له الملك، فإن الملك إما أن يكون هو القدرة، أو المقدور، أو كلاهما، وعلى كل تقدير فلابد من القدرة، فمن لم يثبت له القدرة حقيقة لم يثبت له ملكًا، كما لا يثبتون له حمدًا
إلى أن قال: وأيضا فالقديم الأزلي: القيوم الصمد الواجب الوجود بنفسه، الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، أحق بالكمال من الممكن المحدث المفتقر، فيمتنع أن يكون هذا قادرًا على الكلام والفعل، والقيوم الصمد ليس قادرًا على الفعل والكلام، إلى أن قال:
والمقصود هنا أنه سبحانه عدل لا يظلم وعدله إحسان إلى خلقه، فكل ما خلقه فهو إحسان إلى عباده؛ ولهذا كان مستحقًا للحمد على كل حال؛ ولهذا ذكر في سورة النجم أنواعًا من مقدوراته، ثم قال: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} 74، فدل على أن هذه الأنعم مثل إهلاك الأمم المكذبة للرسل، فإن في ذلك من الدلالة على قدرته وحكمته ونعمته على المؤمنين ونصره للرسل، وتحقيق ما جاؤوا به، وأن السعادة في متابعتهم والشقاوة في مخالفتهم ما هو من أعظم النعم
وكذلك ما ذكره في سورة الرحمن، وكل مخلوق هو من آلائه من وجوه: منها أنه يستدل به عليه وعلى توحيده وقدرته وغير ذلك، وأنه يحصل به الإيمان والعلم وذكر الرب. وهذه النعمة أفضل ما أنعم الله به على عباده في الدنيا، وكل مخلوق يعين عليها ويدل عليها، هذا مع ما في المخلوقات من المنافع لعباده غير الاستدلال بها، فإنه سبحانه يقول: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 75 ؛ لما يذكر ما يذكره من الآية، وقال: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى}، والآلاء: هي النعم، والنعم كلها من آياته الدالة على نفسه المقدسة ووحدانيته ونعوته ومعاني أسمائه، فهي آلاء آيات، وكل ما كان من آلائه فهو من آياته، وهذا ظاهر، وكذلك كل ما كان من آياته فهو من آلائه، فإنه يتضمن التعريف والهداية والدلالة على الرب تعالى وقدرته وحكمته ورحمته ودينه، والهدى أفضل النعم.
وأيضا، ففيها نعم ومنافع لعباده غير الاستدلال، كما في خلق الشمس والقمر والسحاب والمطر والحيوان والنبات، فإن هذه كلها من آياته، وفيها نعم عظيمة على عباده غير الاستدلال، فهي توجب الشكر لما فيها من النعم، وتوجب التذكر لما فيها من الدلالة، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} 76، وقال: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} 77، فإن العبد يدعوه إلى عبادة الله داعي الشكر وداعي العلم، فإنه يشهد نعم الله عليه، وذاك داع إلى شكرها، وقد جبلت النفوس علي حب من أحسن إليها، والله تعالى هو المنعم المحسن الذي ما بالعباد من نعمة فمنه وحده، كما في الحديث: «من قال إذا أصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فقد أدى شكر ذلك اليوم، ومن قال ذلك إذا أمسى فقد أدى شكر تلك الليلة»0 رواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس، وفي حديث آخر: «من قال: الحمد لله ربي لا أشرك به شيئًا أشهد أن لا إله إلا الله»
وقد ذم سبحانه من كفر بعد إيمانه كما قال: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}الآية 78، فهذا في كشف الضر، وفي النعم قال: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 79، أي: شكركم، وشكر ما رزقكم الله، ونصيبكم تجعلونه تكذيبًا وهو الاستسقاء بالأنواء، كما ثبت في حديث ابن عباس الصحيح قال: مطر الناس على عهد رسول الله ﷺ، فقال ﷺ: «أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر»، قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد صدق نَوْء كذا وكذا، قال: فنزلت هذه الآية: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} حتى بلغ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 80 رواه مسلم
وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ: «ما أنزل من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين، ينزل الله الغَيْث فيقول: الكوكب كذا وكذا»، وفي لفظ له: «بكوكب كذا وكذا»، وفي الصحيحين عن زيد بن خالد الجُهَنِيّ قال: صلى بنا رسول الله ﷺ صلاة الصبح على إثر سَمَاء كانت من الليل، قال: «أتدرون ماذا قال ربكم؟». قالوا: الله ورسوله أعلم ! قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مُطِرْنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بِنَوْءِ كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب»، وهذا كثير جدًا في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره، ويشركه به، قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقًا
ولهذا قرن الشكر بالتوحيد في الفاتحة وغيرها؛ أولها شكر، وأوسطها توحيد، وفي الخطب المشروعة لابد فيها من تحميد وتوحيد، وهذان هما ركن في كل خطاب، ثم بعد ذلك يذكر المتكلم من مقصوده ما يناسب من الأمر والنهي والترغيب والترهيب، وغير ذلك
وقوله: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد»، يتضمن التوحيد والتحميد، وكذلك كان يقول عقب الصلاة: «لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون»، وهو سبحانه يفتتح خطابه بالحمد ويختم الأمور بالحمد، وأول ما خلق آدم كان أول شيء أنطقه به الحمد، فإنه عطس فأنطقه بقوله: الحمد لله، فقال له: يرحمك ربك يا آدم! وكان أول ما تكلم به الحمد، وأول ما سمعه الرحمة
وهو يختم الأمور بالحمد كقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} 81، {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} 82، {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} 83، وهو سبحانه: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 84
والتوحيد أول الدين وآخره، فأول ما دعا إليه الرسول ﷺ شهادة أن لا إله إلا الله، وقال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله»، وقال لمعاذ: «إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله»، وختم الأمر بالتوحيد فقال في الصحيح من رواية مسلم عن عثمان: «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة»، وفي الحديث الصحيح من رواية مسلم عن أبي هريرة: «لَقِّنُوا موتاكم لا إله إلا الله»، وفي السنن من حديث معاذ: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة»، وفي المسند«إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حين الموت إلا وجد روحه لها روحًا»، وهي الكلمة التي عرضها على عمه عند الموت
فهو سبحانه جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، فيتذكر الآيات المثبتة للعلم والإيمان، فإذا عرف آلاء الله شكره على آلائه، وكلاهما متلازمان، فالآيات والآلاء متلازمان، ما كان من الآلاء فهو من الآيات، وما كان من الآيات فهو من الآلاء، وكذلك الشكر والتذكر متلازمان، فإن الشاكر إنما يشكر بحمده، وطاعته، وفعل ما أمر به، وذلك إنما يكون بتذكر ما تدل عليه آياته من أسمائه وممادحه، ومن أمره ونهيه، فيثنى عليه بالخير، ويطاع في الأمر هذا هو الشكر، ولابد فيهما من التذكر، والمتذكر إذا تذكر آياته عرف ما فيها من النعمة والإحسان، فآياته تعم المخلوقات كلها، وهي خير ونعم وإحسان.
فكل ما خلقه سبحانه فهو نعمة على عباده، وهو خير، وهو سبحانه بيده الخير، والخير بيديه، وفي دعاء القنوت«ونثني عليك الخير كله»، وفي دعاء الاستفتاح: «والخير بيديك، والشر ليس إليك»
وكل ما خلقه الله فله فيه حكمة، كما قال: {صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} 85، وقال: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} 86، وهو سبحانه غني عن العالمين، فالحكمة تتضمن شيئين:
أحدهما: حكمة تعود إليه يحبها ويرضاها
والثاني: إلى عباده، هي نعمة عليهم يفرحون بها ويلتذون بها، وهذا في المأمورات وفي المخلوقات
أما في المأمورات، فإن الطاعة هو يحبها ويرضاها، ويفرح بتوبة التائب أعظم فرح يعرفه الناس، فهو يفرح أعظم مما يفرح الفاقد لزاده وراحلته في الأرض المهلكة إذا وجدها بعد اليأس، كما أنه يغار أعظم من غيرة العباد، وغيرته أن يأتي العبد ما حرم عليه، فهو يغار إذا فعل العبد ما نهاه، ويفرح إذا تاب ورجع إلى ما أمره به، والطاعة عاقبتها سعادة الدنيا والآخرة، وذلك مما يفرح به العبد المطيع، فكان فيما أمر به من الطاعات عاقبته حميدة تعود إليه وإلى عباده، ففيها حكمة له ورحمة لعباده، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍُ. تُؤْمِنُونَ بِالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ} 87
ففي الجهاد عاقبة محمودة للناس في الدنيا يحبونها، وهي النصر والفتح، وفي الآخرة الجنة، وفيه النجاة من النار، وقد قال في أول السورة: {إِنَّ الله يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} 88، فهو يحب ذلك، ففيه حكمة عائدة إلى الله تعالى، وفيه رحمة للعباد، وهي ما يصل إليهم من النعمة في الدنيا والآخرة، هكذا سائر ما أمر به، وكذلك ما خلقه خلقه لحكمة تعود إليه يحبها، وخلقه لرحمة بالعباد ينتفعون بها
والناس لما تكلموا في علة الخلق وحكمته؛ تكلم كل قوم بحسب علمهم، فأصابوا وجهًا من الحق، وخفى عليهم وجوه أخرى
وهكذا عامة ما تنازع فيه الناس، يكون مع هؤلاء بعض الحق، وقد تركوا بعضه وكذلك مع الآخرين، ولا يشتبه على الناس الباطل المحض، بل لابد أن يشاب بشيء من الحق؛ فلهذا لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، فإنهم هم الذين آمنوا بالحق كله، وصدقوا كل طائفة فيما قالوه من الحق، فهم جاؤوا بالصدق وصدقوا به فلا يختلفون
ولأهل الكلام هنا ثلاثة أقوال لثلاث طوائف مشهورة، وقد وافق كل طائفة ناس من أصحاب الأئمة الأربعة، أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد:
القول الأول: قول من نفى الحكمة وقالوا: هذا يفضي إلى الحاجة، فقالوا: يفعل ما يشاء لا لحكمة، فأثبتوا له القدرة والمشيئة، وإنه يفعل ما يشاء. وهذا تعظيم، ونفوا الحكمة لظنهم أنها تستلزم الحاجة، وهذا قول الأشعري وأصحابه ومن وافقهم؛ كالقاضي أبي يَعْلَى وابن الزاغوني والجُوَيْني والباجي ونحوهم، وهذا القول في الأصل قول جَهْم ابن صفوان ومن اتبعه من المجبرة
والفلاسفة لهم قول أبعد من هذا، وهو: أن ما يقع من عذاب النفوس وغير ذلك من الضرر لا يمكن دفعه، فإنهم يقولون: إنه موجب بذاته، وكل ما يقع هو من لوازم ذاته. ولو قالوا: إنه موجب بمشيئته وقدرته لما يفعله لكانوا قد أصابوا، وقد قالوا أيضا: الشر يقع في العالم مغلوبًا مع الخير في الوجود، وهذا صحيح؛ لكن هذا يستلزم أن يكون الخالق قد خلق لحكمة معلومة تسلم ولا تعد، وإلا فمع انتفاء هذين يبقى الكلام ضائعًا، ففي قول كل طائفة نوع من الحق ونوع من الباطل، فهذه أربعة أقوال
والقول الخامس، قول الأئمة، وهو أن له حكمة في كل ما خلق، بل له في ذلك حكمة ورحمة
والقول الثاني أي: من الثلاثة التي لأهل الكلام: أنه يخلق ويأمر لحكمة تعود إلى العباد، وهو نفعهم والإحسان إليهم، فلم يخلق، ولم يأمر إلا لذلك، وهذا قول المعتزلة وغيرهم، ثم من هؤلاء من تكلم في تفصيل الحكمة، فأنكر القدر، ووضع لربه شرعًا بالتعديل والتجويز، وهذا قول القدرية. ومنهم من أقر بالقدر وقال: لله حكمة خفيت علينا. وهذا قول ابن عقيل وغيره من المثبتين للقدر، فهم يوافقون المعتزلة على إثبات حكمة ترجع إلى المخلوق لكن يقرون مع ذلك بالقدر
والقول الثالث: قول من أثبت حكمة تعود إلى الرب، لكن بحسب علمه، فقالوا: خلقهم ليعبدوه ويحمدوه ويثنوا عليه ويمجدوه، وهم من خلقه لذلك، وهم من وجد منه ذلك فهو مخلوق لذلك، وهم المؤمنون، ومن لم يوجد منه ذلك فليس مخلوقًا له. قالوا: وهذه حكمة مقصودة وهي واقعة، بخلاف الحكمة التي أثبتتها المعتزلة، فإنهم أثبتوا حكمة هي نفع العباد، ثم قالوا: خلق من علم أنه لا ينتفع بالخلق بل يتضرر به، فتناقضوا، ونحن أثبتنا حكمة علم أنها تقع فوقعت، وهي معرفة عباده المؤمنين به، وحمدهم له، وثناؤهم عليه، وتمجيدهم له، وهذا واقع من المؤمنين.
قالوا: وقد يخلق من يتضرر بالخلق لنفع الآخرين، وفعل الشر القليل لأجل الخير الكثير حكمة، كإنزال المطر لنفع العباد وإن تضمن ضررًا لبعض الناس. قالوا: وفي خلق الكفار وتعذيبهم اعتبار للمؤمنين، وجهاد ومصالح. وهذا القول اختيار القاضي أبي حازم ابن القاضي أبي يعلى، ذكره في كتابه 89 الذي صنفه على كتاب محمد بن الهَيْصَم الكَرّامِيّ.
قالوا: وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 90 هو مخصوص بمن وقعت منه العبادة، وهذا قول طائفة من السلف والخلف. قالوا: والمراد بذلك من وجدت منه العبادة، فهو مخلوق لها، ومن لم توجد منه فليس مخلوقًا لها. وعن سعيد بن المسَيَّب قال: ما خلقت من يعبدني إلا ليعبدني، وكذلك قال الضحاك والفراء وابن قتيبة وهذا قول خاص بأهل طاعته قال الضحاك: هي للمؤمنين، وهذا قول الكَرَّامِيَّة، كما ذكره محمد بن الهيصم، قال: ويدل عليه قوله قبل ذلك: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} 91، ثم قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 92 أي: هؤلاء المؤمنين الذين تنفعهم الذكرى.
قالوا: وهي غاية مقصودة واقعة، فإن العبادة وقعت من المؤمنين، وهذا القول اختيار أبي بكر بن الطيب، والقاضي أبي يعلى وغيرهما ممن يقول: إنه لا يفعل لعلة، قالوا واللفظ للقاضي أبي يعلى: هذا بمعنى الخصوص لا العموم؛ لأن البُلْه والأطفال والمجانين لا يدخلون تحت الخطاب، وإن كانوا من الإنس، وكذلك الكفار يخرجون من هذا بدليل قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ} الآية 93، فمن خلق للشقاء ولجهنم لم يخلق للعبادة.
قلت: قول هؤلاء الكرامية ومن وافقهم، وإن كان أرجح من قول الجهمية والمعتزلة، فيما أثبتوه من حكمة الله، وقولهم في تفسير الآية، وإن وافقوا فيه بعض السلف، فهو قول ضعيف مخالف لقول الجمهور، ولما تدل عليه الآية، فإن قصد العموم ظاهر في الآية، وبين بيانًا لا يحتمل النقيض؛ إذ لو كان المراد المؤمنين فقط لم يكن فرق بينهم وبين الملائكة، فإن الجميع قد فعلوا ما خلقوا له، ولم يذكر الإنس والجن عمومًا، ولم تذكر الملائكة، مع أن الطاعة والعبادة وقعت من الملائكة دون كثير من الإنس والجن.
وأيضا، فإن سياق الآية يقتضي أن هذا ذم وتوبيخ لمن لم يعبد الله منهم؛ لأن الله خلقه لشيء فلم يفعل ما خلق له؛ ولهذا عقبها بقوله: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} 94، فإثبات العبادة ونفي هذا يبين أنه خلقهم للعبادة، ولم يرد منهم ما يريده السادة من عبيدهم من الإعانة لهم بالرزق والإطعام، ولهذا قال بعد ذلك: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا} أي: نصيبا {مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} 95 أى: المتقدمين من الكفار، أي: نصيبًا من العذاب، وهذا وعيد لمن لم يعبده من الإنس والجن، فذكر هذا الوعيد عقيب هذه الآية من أولها إلى آخرها يتضمن وعيد من لم يعبده.
وذكر عقابه لهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى في أولها: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} إلى قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ. وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} 96، ثم ذكر قوله: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ. يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} 97، ثم ذكر وعيد الآخرة بقوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ. يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ. يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} 98، ثم ذكر وعده للمؤمنين فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} إلى قوله: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ. وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ. فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} 99، ثم ذكر قصص من آمن فنفعه إيمانه، ومن كفر فعذبه بكفره، فذكر قصة إبراهيم ولوط وقومه وعذابهم، ثم قال: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ. وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} 100، أي: في قصة موسى آية أيضا هذا قول الأكثرين، ومنهم من لم يذكر غيره كأبي الفرج، وقيل: هو عطف على قوله: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ}، {وَفِي مُوسَى} وهو ضعيف؛ لأن قصة فرعون وعاد هي من جنس قوم لوط، فيها ذكر الأنبياء ومن اتبعهم ومن خالفهم، يدل بها على إثبات النبوة، وعاقبة المطيعين والعصاة.
وأما قوله: {وَفِي الْأَرْضِ}، {وَفِي أَنفُسِكُمْ}، فتلك آيات على الصانع جل جلاله، وقد تقدمت؛ ولأنه لا يفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بمثل هذا الكلام الكثير، مع أن قبله لا يصلح العطف عليه، وهو قوله: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} ثم قال: {وَفِي عَادٍ}، {وَفِي ثَمُودَ ّ}، ثم ذكر أنه بني السماء بأيد، وفرش الأرض، وخلق من كل شيء زوجين لعلكم تذكرون، فلما بين الآيات الدالة على ما يجب من الإيمان وعبادته، أمر بذلك، فقال: {فَفِرُّوا إِلَى الله إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ. وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ} الآية 101، ثم بين أن هؤلاء المكذبين من جنس من قبلهم ليتأسى الرسول والمؤمنون ويصبروا على ما ينالهم من أذى الكفار، فقال: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} 102.
فهذا كله يتضمن أمر الإنس والجن بعبادته وطاعته وطاعة رسله، واستحقاق من يفعل العقوبة في الدنيا والآخرة، فإذا قال بعد ذلك: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} 103 ؛ كان هذا مناسبًا لما تقدم، مؤتلفًا معه، أي: هؤلاء الذين أمرتهم، إنما خلقتهم لعبادتي ما أريد منهم غير ذلك، لا رزقًا ولا طعامًا.
فإذا قيل: لم يرد بذلك إلا المؤمنين، كان هذا مناقضًا لما تقدم يعني في السورة وصار هذا كالعذر لمن لا يعبده ممن ذمه الله ووبخه، وغايته يقول: أنت لم تخلقني لعبادتك وطاعتك، ولو خلقتني لها لكنت عابدًا، وإنما خلقت هؤلاء فقط لعبادتك، وأنا خلقتني لأكفر بك وأشرك بك، وأكذب رسلك، وأعبد الشيطان وأطيعه، وقد فعلت ما خلقتني له كما فعل أولئك المؤمنون ما خلقتهم له، فلا ذنب لي، ولا أستحق العقوبة، فهذا وأمثاله مما يلزم أصحاب هذا القول، وكلام الله منزه عن هذا، وهم إنما قالوا هذا؛ لأن الله تعالى فعال لما يريد، قالوا: فلو كان أراد منهم أن يطيعوه؛ لجعلهم مطيعين، كما جعل المؤمنين.
والقدرية يقولون: لم يرد من هؤلاء ولا هؤلاء إلا الطاعة، لكن هو لم يجعل لا هؤلاء ولا هؤلاء مطيعين، بل الإرادة بمعنى الأمر يأمر بها الطائفتين، فهؤلاء عبدوه بأن أحدثوا إرادتهم وطاعتهم، وهؤلاء عصوه بأن أحدثوا إرادتهم ومعصيتهم.
وأولئك علموا فساد قول القدرية من جهة أن الله خالق كل شيء، وربه ومليكه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه إلا ما شاءه، ولا يكون في ملكه شيء إلا بقدرته وخلقه ومشيئته، كما دل على ذلك السمع والعقل، وهذا مذهب الصحابة قاطبة، وأئمة المسلمين وجمهورهم، وهو مذهب أهل السنة؛ فلأجل هذا عدل أولئك في تفسير الآية إلى الخصوص، فإنهم لم يمكنهم الجمع بين الإيمان بالقدر، وبين أن يكون خلقهم لعبادته، فلم تقع منهم العبادة له، وقالوا: من ذرأه لجهنم لم يخلقه لعبادته، فمن قال: خلق الخلق ليعبده المؤمنون منهم، سلك هذا المسلك.
وأما نفاة الحكمة، كالأشعري وأتباعه كالقاضي أبي بكر وأبي يعلي وغيرهم، فهؤلاء أصلهم: أن الله لا يخلق شيئًا لشيء، فلم يخلق أحدًا لا لعبادة ولا لغيرها، وعندهم ليس في القرآن لام كي، لكن قد يقولون: في القرآن لام العاقبة، كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} 104، وكذلك يقولون في قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ} 105 يعنون: كان عاقبة هؤلاء جهنم، وعاقبة المؤمنين العبادة، من غير أن يكون الخالق قصد أن يخلقهم لا لهذا ولا لهذا، ولكن أراد خلق كل ما خلقه، لا لشيء آخر، فهذا قولهم، وهو ضعيف لوجوه:
أحدها: أن لام العاقبة التي لم يقصد فيها الفعل لأجل العاقبة، إنما تكون من جاهل أو عاجز، فالجاهل كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} لم يعلم فرعون بهذه العاقبة، والعاجز كقولهم: لِدُوا للموت، وابنوا للخراب، فإنهم يعلمون هذه العاقبة، لكنهم عاجزون عن دفعها، والله تعالى عليم قدير، فلا يقال: إن فعله كفعل الجاهل العاجز.
الثاني: أن الله أراد هذه الغاية بالاتفاق، فالعبادة التي خلق الخلق لأجلها هي مرادة له بالاتفاق، وهم يسلمون أن الله أرادها، وحيث تكون اللام للعاقبة لا يكون الفاعل أراد العاقبة، وهؤلاء يقولون: خلقهم وأراد أفعالهم، وأراد عقابهم عليها، فكل ما وقع فهو مراد له ولكنه عندهم لا يفعل مرادًا لمراد أصلا؛ لأن الفعل للعلة يستلزم الحاجة، وهذا ضعيف بين الضعف، وأهل الخصوص قالوا مثل هذا الجواب.
وطائفة أخرى قالوا: هي على العموم لكن المراد بالعبادة تعبيده لهم، وقهره لهم، ونفوذ قدرته ومشيئته فيهم، وأنه أصارهم إلى ما خلقهم له، من السعادة والشقاوة، هذا جواب زيد بن أسلم وطائفة، وهذا القول الثاني في تفسير الآية.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن جُرَيْج، عن زيد بن أسلم في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 106 قال: جَبَلَهُم على الشقاوة والسعادة، وقال وَهْبُ بن مُنَبه: جبلهم على الطاعة، وجبلهم على المعصية، وهذا يشبه قول من قال في تفسير قول النبي ﷺ: «كل مولود يولد على الفطرة»، أي: على ما كتب له من سعادة وشقاوة، كما قال ذلك طائفة؛ منهم: ابن المبارك وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، وقد قيل لمالك: أهل القدر يحتجون علينا بهذا الحديث، فقال: احتجوا عليهم بآخره، وهو قوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين»، وهذا الجواب يصلح أن يجاب به من أنكر العلم، كما كان على ذلك طائفة من القدماء وهم المعروفون بالقدرية في لغة مالك.
إلى أن قال: ومن فسر هذه الآية بأن المراد ب {يَعْبُدُونِ}: هو ما جبلهم عليه، وما قدره عليهم من السعادة والشقاوة، وإن ذلك هو معنى الحديث، فإن هؤلاء جعلوا معني {يَعْبُدُونِ} بمعنى: يستسلمون لمشيئتي وقدرتي، فيكونون مُعَبَّدِينَ مُذَلَّلِين؛كي يجرى عليهم حكمي ومشيئتي لا يخرجون عن قضائي وقدري، فهذا معنى صحيح في نفسه، وإن كانت القدرية تنكره، فبإنكارهم لذلك صاروا من أهل البدع، بل الله خالق كل شيء، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وفي استعاذة النبي ﷺ: «أعوذ بكلمات الله التامة التي لا يجاوزها برٌ ولا فاجرٌ من شر ما ذرأ وبرأ، وأعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده».
فكلماته التامة هي التي كون بها الأشياء كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 107، لا يجاوزها بر ولا فاجر، ولا يخرج أحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور، وهذا المعنى قد دل عليه القرآن في غير موضع، كقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} الآية 108، وقوله: {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله} 109، {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} 110، وقوله في السحر: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله} 111، {فَمَنْ يُرِدْ الله أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} 112 ونحو ذلك.
ولكن قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 113، لم يرد به هذا المعنى الذي ذهبوا إليه وحاموا حوله، من أن المخلوقات كلها تحت مشيئته وقهره وحكمه، فالمخلوقات كلها داخلة في هذا، لا يشذ منها شيء عن هذا، وقد قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنْ اعْبُدُونِي}الآية 114، وقوله: {وَاعْبُدُوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} 115، {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى الله} 116، {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى} 117 وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} 118.
فهذا ونحوه كثير في القرآن. لم يرد بعبادة الله إلا العبادة التي أمرت بها الرسل، وهي عبادته وحده لا شريك له، والمشركون لا يعبدون الله، بل يعبدون الشيطان وما يدعونه من دون الله، سواء عبدوا الملائكة أو الأنبياء والصالحين، أو التماثيل والأصنام المصنوعة، فهؤلاء المشركون قد عبدوا غير الله تعالي كما أخبر الله بذلك. فكيف يقال: إن جميع الإنس والجن عبدوا الله لكون قدر الله جاريًا عليهم؟ والفرق ظاهر بين عبادتهم إياه التي تحصل بإرادتهم واختيارهم وإخلاصهم الدين له وطاعة رسوله، وبين أن يعبدهم هو وينفذ فيهم مشيئته، وتكون عبادتهم لغيره: للشيطان وللأصنام من المقدور.
وهذا يشبه قول من يقول من المتأخرين: أنا كافر برب يعصى، فيجعل كل ما يقع طاعة، كما جعله هؤلاء عبادة لله تعالى لكونهم تحت المشيئة، وكان بعض شيوخهم يقول عن إبليس: إن كان عصى الأمر، فقد أطاع المشيئة، لكن هؤلاء مباحية، يسقطون الأمر.
وأما زيد بن أسلم، ووهب بن منبه، ونحوهم، فحاشاهم من مثل هذا، فإنهم كانوا من أعظم الناس تعظيمًا للأمر والنهي، والوعد والوعيد، ولكن قصدوا الرد على المكذبين بالقدر، القائلين: بأنه يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، وهؤلاء حقيقة قولهم: أنه لا يقدر على تعبيدهم، وتصريفهم تحت مشيئته، فأرادوا إبطال قول هؤلاء، ونعم ما أرادوا !لكن الكلام فيما أريد بالآية.
وقول أولئك الإباحية يشبه قول من قال: إن العارف إذا شهد المشيئة سقط عنه الملام، وأنه إذا شهد الحكم يعني المشيئة لم يستحسن ولم يستقبح سببه، ونحو هذا من أقوال هؤلاء الذين تشبه أقوالهم أقوال المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ الله مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} 119، كما قد بسط الكلام عليه، وبين أن إثبات القدر السابق حق، لكن ذلك هو الذي يصير العبد إليه، ليس هو الذي فطر عليه، كما قال النبي ﷺ: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدَانِهِ أو يُنصرَانِه أو يُمَجِّسَانِهِ، كما تُنْتِجُ البهيمة بهيمة جَمْعَاء، هل تحسون فيها من جَدْعَاء؟ ». فقد بين النبي ﷺ بمثل ضربه: أن البهيمة تولد سليمة ثم تُجْدَع، والجَدْع كان مقدرًا عليها، كذلك العبد يولد على الفطرة سليمًا، ثم يفسد بالتَّهَوّدِ والتنصير، وذلك كان مكتوبًا أن يكون.
وصاحب هذا القول إنما قاله ليبين ما خلقوا له، وقد قصد هذا طائفة فسروا العبادة بأمر واقع عام، وليست هي العبادة المأمور بها على ألسن الرسل، ففي تفسير ابن أبي طلحة المضاف إلى ابن عباس: إلا ليقروا بالعبودية طوعًا وكرهًا، وهذه العبودية كقوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} 120، وقوله: {وَلله يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} 121، وفسرت طائفة الكره بأنه جريان حكم القدر، فيكون كالقول قبله، والصحيح أنه انقيادهم لحكمه القدري بغير اختيارهم، كاستسلامهم عند المصائب، وانقيادهم لما يكرهون من أحكامه الشرعية، فكل أحد لابد له من انقياده لحكمه القدري والشرعي، فهذا معنى صحيح، قد بسط في غير هذا الموضع، لكن ليس هو العبادة.
وكذلك قال بعضهم: إلا ليخضعوا لي ويتذللوا، قالوا: ومعنى العبادة في اللغة: التذلل والانقياد، وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله تعالى متذلل لمشيئته، لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق.
وقد ذكر أبو الفرج قول ابن عباس هذا، قال: وبيان هذا قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} 122، وهذه الآية توافق من قال: إلا ليعرفون كما سيأتي وهؤلاء الذين أقروا بأن الله خالقهم لم يقروا بذلك كرهًا، بخلاف إسلامهم وخضوعهم له فإنه يكون كرهًا، وأما نفس الإقرار فهو فطري فطروا عليه، وبذلوه طوعًا.
وقيل: قول رابع: روى ابن أبي حاتم عن زائدة عن السُّدِّي: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 123 قال: خلقهم للعبادة، فمن العبادة عبادة تنفع، ومن العبادة عبادة لا تنفع {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله} 124 هذا منهم عبادة وليس ينفعهم مع شركهم، وهذا المعنى صحيح، لكن المشرك يعبد الشيطان، وما عدل به الله لا يعبد، ولا يسمى مجرد الإقرار بالصانع عبادة لله مع الشرك بالله، ولكن يقال كما قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 125 فإيمانهم بالخالق مقرون بشركهم به، وأما العبادة ففي الحديث: « يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه برىء، وهو كله للذي أشرك »، فعبادة المشركين وإن جعلوا بعضها لله لا يقبل منها شيئًا، بل كلها لمن أشركوه، فلا يكونون قد عبدوا الله سبحانه ومثل هذا قول من قال: إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء، دون النعمة والرخاء، بيانه في قوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 126.
وقيل: قول خامس: ذكره ابن أبي حاتم عن ابن جُرَيْج، قال: ليعرفون، قال: وروى عن قتادة، وذكره البغوي عن مجاهد. قال: وقال مجاهد: إلا ليعرفون. قال: وهذا قول حسن؛ لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده، ودليله قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله} 127، فيقال: هذا المعنى صحيح، وكونه إنما عرف بخلقهم يقتضى أن خلقهم شرط في معرفتهم، لا يقتضى أن يكون ما حصل لهم من المعرفة هو الغاية التي خلقوا لها، وهذا من جنس قول السدى، فإن هذا الإقرار العام هم مشركون فيه، كما قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} 128، لكن ليس هذا هو العبادة.
فهذه الأقوال الأربعة، قول من عرف أن الآية عامة، فأراد أن يفسرها بعبادة تعم الإنس والجن، واعتقد أنه إن فسرها بالعبادة المعروفة، وهي الطاعة لله والطاعة لرسله، لزم أن تكون واقعة منهم، ولم تقع، فأراد أن يفسرها بعبادة واقعة، وظن أنه إذا فسرها بعبادة لم تقع لزمه قول القدرية، وأنه خلقهم لعبادته فعصوه بغير مشيئته وغير قدرته، ففروا من قول القدرية وهم معذورون في هذا الفرار، لكن فسرها بما لم يرد بها، كما يصيب كثير من الناس في الآيات التي يحتج أهل البدع بظاهرها، كاحتجاج الرافضة بقوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} 129 على مسح ظهر القدمين، فترى المخالفين لهم يذكرون أقوالا ضعيفة، هذا يقول: مجرورًا بالمجاورة، كقوله: جُحْر ضَبّ خَرِب، ونحو هذا من الأقوال الضعيفة، وكذلك ما قالوه في قوله: «فحج آدم موسى» وأمثال ذلك.
والقول السادس وإن كان أبو الفرج لم يذكر فيها إلا أربعة أقوال وهو الذي عليه جمهور المسلمين: أن الله خلقهم لعبادته وهو فعل ما أمروا به؛ ولهذا يوجد المسلمون قديمًا وحديثًا يحتجون بهذه الآية على هذا المعنى، حتى في وعظهم وتذكيرهم وحكاياتهم، كما في حكاية إبراهيم بن أدهم: ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت؛ وفي حديث إسرائيلي: يابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكَفَّلتُ برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فُتَّكَ فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء. وهذا هو المأثور عن أمير المؤمنين علي بن أبى طالب، وغيره من السلف، فذكروا عن علي بن أبي طالب أنه قال: إلا لآمرهم أن يعبدون، وأدعوهم إلى عبادتي.
قالوا: ويؤيده قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ} 130، وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ} 131، وهذا اختيار الزجاج وغيره، وهذا هو المعروف عن مجاهد بالإسناد الثابت، قال ابن أبي حاتم: ثنا أبو سعيد الأشج، ثنا أبو أسامة عن شِبْل، عن ابن أبي نجِيح، عن مجاهد: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 132: لآمرهم وأنهاهم، كذلك روى عن الرَّبِيع بن أنس قال: ما خلقتهما إلا للعبادة.
ويدل على هذا مثل قوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} 133، يعنى: لا يؤمر ولا ينهى، وقوله: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} 134، أي: لولا عبادتكم، وقوله: {مَا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} 135، وقوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} إلى قوله: {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} 136، وقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} الآيات 137 وما بعدها، وقالت الجن لما سمعوا القرآن: {يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي الله وَآمِنُوا بِهِ} الآية 138، وما بعدها، وقالت الجن: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} الآية 139 وما بعدها.
وقد قال في القرآن في غير موضع: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ} 140، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} 141، فقد أمرهم بما خلقهم له وأرسل الرسل إلى الإنس والجن، ومحمد أرسل إلى الثقلين، وقرأ القرآن على الجن، وقد روى أنه لما قرأ عليهم سورة الرحمن وجعل يقرأ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 142 يقولون: ولا بشيء من آلائك ربنا نُكَذِّب فلك الحمد. فهذا هو المعنى الذي قصد بالآية قطعًا، وهو الذي تفهمه جماهير المسلمين، ويحتجون بالآية عليه، ويعترفون بأنه الله خلقهم ليعبدوه، لا ليضيعوا حقه، وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل أن النبي ﷺ قال له: «يا معاذ، أتدري ما حق الله على عباده؟». قال: الله ورسوله أعلم، قال: « فإن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟». قلت: الله ورسوله أعلم، قال: « فإن حقهم عليه ألا يعذبهم »، وفي المسند عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال: « بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم».
ثم للناس على هذا القول قولان:
قول أهل السنة المثبتة للقدر، وقول نفاته، فصارت الأقوال في الآية سبعة، وفي الحكمة خمسة.
فأما أهل السنة المثبتون للقدر فيقولون: قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونٍِِِِ} 143، لا يستلزم وقوع العبادة منهم، كما قال أصحاب هذه الأقوال المتقدمة، ولا يستلزم نفي المقدور أن يكون في ملكه ما لا يشاء أو يشاء مالا يكون، كما قالت القدرية، فهؤلاء يقولون: لم يقع ما خلقهم له لكونه يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، أولئك قالوا: إذا كان ما يشاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فما لم يقع لم يشأه، فما لم يقع من العبادة لم يشأها، وهذا معنى صحيح، ثم قالوا: وما خلقهم له فلابد أن يشاء أن يخلقه، فلما لم يشأه أن يخلق هذا لم يخلقهم له.
فالطائفتان أصل غلطهم ظنهم أن ما خلقهم له يشاء وقوعه، وأولئك يقولون: يشاء أن يخلقه، وهؤلاء يقولون: يشاء وقوعه منهم، بمعنى: يأمرهم به، وما عندهم أن له مشيئة في أفعال العباد غير الأمر، وهم يعصون أمره؛ فلهذا قالوا: يكون ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون، كما يقولون: يفعلون ما نهاهم عنه، ويتركون ما أمرهم به، وهذا المعنى صحيح إذا أريد الأمر الشرعي؛ لكن القدرية النفاة لا يقولون: إنه شاء إلا بمعنى أمر، فعندهم ما ليس طاعة من أفعال العباد ما لا يشاؤه فإنه لا يخلقه عندهم، وإذا لم يخلقه لم يشأه، فإنه ما شاء أن يخلقه خلقه باتفاق المسلمين.
والقدرية لا تنازع في هذا، لا ينازعون في أنه ما شاء أن يفعله هو فعله، وأنه قادر على أن يفعل ما يشاء أن يفعله، لكن عندهم أن أفعال العباد لا تدخل في خلقه، ولا في قدرته، ولا في مشيئته، ولا في مشيئته أن يفعل، لكن المشيئة المتعلقة بها بمعنى الأمر فقط، فيقولون: خلقهم لعبادته أن يفعلوها هم، وقد أمرهم بها، فإذا لم يفعلوها كان ذلك بمنزلة عصيان أمره.
وأما المثبتون للقدر فيقولون: إنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو سبحانه خالق كل شيء{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} 144، {وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقْتَتَلُوا} 145، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} 146 وأمثال ذلك، فإذا خلقهم للعبادة المأمور بها ولم يفعلوها لم يكن قد شاء أن تكون؛ إذ لو شاء أن تكون لكونها، لكن أمرهم بها، وأحب أن يفعلوها، ورضى أن يفعلوها، وأراد أن يفعلوها، إرادة شرعية تضمنها أمره بالعبادة.
ومن هنا يتبين معنى الآية، فإن قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 147، يشبه قوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا الله عَلَى مَا هَدَاكُمْ} 148، وقوله: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا الله عَلَى مَا هَدَاكُمْ} 149، وقوله: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} 150، وقوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 151، وقوله: {الله الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} الآية 152، وكذلك قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله} 153 فهو لم يرسله إلا ليطاع، ثم قد يطاع وقد يعصى.
وكذلك ما خلقهم إلا للعبادة، ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون، ومثل هذا كثير في القرآن، يبين أنه فعل ما فعل ليكبروه وليعدلوا، ولا يظلموا، وليعلموا ما هو متصف به، وغيره مما أمر الله به العباد، وأحبه لهم ورضيه منهم، وفيه سعادتهم وكمالهم وصلاحهم وفلاحهم إذا فعلوه، ثم منهم من يفعل ذلك ومنهم من لا يفعله.
وهو سبحانه لم يقل: إنه فعل الأول ليفعل هو الثاني، ولا ليفعل بهم الثاني، فلم يذكر أنه خلقهم ليجعلهم هم عابدين، فإن ما فعله من الأسباب لما يفعله هو من الغايات يجب أن يفعله لا محالة، ويمتنع أن يفعل أمرًا ليفعل أمرًا ثانيًا ولا يفعل الأمر الثاني، ولكن ذكر أنه فعل الأول ليفعلوا هم الثاني، فيكونون هم الفاعلين له فيحصل بفعلهم سعادتهم، وما يحبه ويرضاه لهم، فيحصل ما يحبه هو وما يحبونه هم، كما تقدم أن كل ما خلقه وأمر به غايته محبوبة لله ولعباده، وفيه حكمة له، وفيه رحمة لعباده.
فهذا الذي خلقهم له لو فعلوه لكان فيه ما يحبه وما يحبونه، ولكن لم يفعلوه فاستحقوا ما يستحقه العاصي المخالف لأمره، التارك فعل ما خلق لأجله من عذاب الدنيا والآخرة، وهو سبحانه قد شاء أن تكون العبادة ممن فعلها، فجعلهم عابدين مسلمين بمشيئته وهداه لهم، وتحبيبه إليهم الإيمان، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ الله حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ} 154، فهؤلاء أراد العبادة منهم خلقًا وأمرًا أمرهم بها، وخلقًا جعلهم فاعلين.
والصنف الثاني لم يشأ هو أن يخلقهم عابدين، وإن كان قد أمرهم بالعبادة، والله سبحانه أعلم.
هامش
- ↑ [الحديد: 2]
- ↑ [يس: 82]
- ↑ [القيامة: 4]
- ↑ [الأنعام: 65]
- ↑ [هاتان أهون]
- ↑ [المؤمنون: 18]
- ↑ [الواقعة: 68-82]
- ↑ [السجدة: 13]
- ↑ [يونس: 99]
- ↑ [البقرة: 253]
- ↑ [يس: 81]
- ↑ [القيامة: 40]
- ↑ [القيامة: 4]
- ↑ [ق: 16]
- ↑ [البلد: 5]
- ↑ [الزخرف: 41]
- ↑ [ق: 45]
- ↑ [الغاشية: 22]
- ↑ [الأنبياء: 87]
- ↑ [المرسلات: 20 23]
- ↑ [التغابن: 16]
- ↑ [المجادلة: 4]
- ↑ [التوبة: 24]
- ↑ [الفتح: . 2021]
- ↑ [القلم: 2532]
- ↑ [يونس: 24]
- ↑ [يونس: 24]
- ↑ [القلم: 25]
- ↑ [إبراهيم: 18]
- ↑ [النحل: 75]
- ↑ [المائدة: 25]
- ↑ [يس: 71]
- ↑ [الزخرف: 31]
- ↑ [الكهف: 97]
- ↑ [هود: 37، 38]
- ↑ [يس: 41]
- ↑ [الحج: 65]
- ↑ [الزخرف: 12]
- ↑ [الصافات: 95، 96]
- ↑ [الأعراف: 137]
- ↑ [الشعراء: 128]
- ↑ [الشعراء: 149]
- ↑ [الصافات: 95]
- ↑ [الفجر: 9]
- ↑ [التوبة: 5]
- ↑ [المائدة: 3]
- ↑ [المائدة: 95]
- ↑ [المائدة: 95]
- ↑ [الأنفال: 17]
- ↑ [الأنفال: 17]
- ↑ [الحديد: 4]
- ↑ [النحل: 20، 21]
- ↑ [يس: 33]
- ↑ [الإسراء: 44]
- ↑ [البقرة: 28]
- ↑ [الزمر: 67]
- ↑ [الحج: 74]
- ↑ [الأنعام: 91]
- ↑ [الآيتان: 73، 74]
- ↑ [الآية: 67]
- ↑ [الأنعام: 114]
- ↑ [الزمر: 1، الجاثية: 2، الأحقاف: 2]
- ↑ [الواقعة: 69]
- ↑ [الحج: 73، 74 ]
- ↑ [الأنعام: 159]
- ↑ [الأنبياء: 2]
- ↑ [طه: 11]
- ↑ [الأعراف: 11]
- ↑ [الزخرف: 3]
- ↑ [الزخرف: 19]
- ↑ [الأحزاب: 73]
- ↑ [الفتح: 7]
- ↑ [النساء: 134]
- ↑ [النجم: 55]
- ↑ [الرحمن: 13]
- ↑ [الفرقان: 62]
- ↑ [ق: 8]
- ↑ [الأنعام: 63]
- ↑ [الواقعة: 82]
- ↑ [الواقعة: 75 82]
- ↑ [الزمر: 75]
- ↑ [الأنعام: 45]
- ↑ [يونس: 10]
- ↑ [القصص: 70]
- ↑ [النمل: 88]
- ↑ [السجدة: 7]
- ↑ [الصف: 10-13]
- ↑ [الصف: 4]
- ↑ [أصول الدين]
- ↑ [الذاريات: 56]
- ↑ [الذاريات: 54]
- ↑ [الذاريات: 56]
- ↑ [الأعراف: 179]
- ↑ [الذاريات: 57]
- ↑ [الذاريات: 59]
- ↑ [الذاريات: 1، 6]
- ↑ [الذاريات: 8، 9]
- ↑ [الذاريات: 10، 13]
- ↑ [الذاريات: 15-23]
- ↑ [الذاريات: 37، 38]
- ↑ [الذاريات: 50، 51]
- ↑ [الذاريات: 52، 53]
- ↑ [الذاريات: 56، 57]
- ↑ [القصص: 8]
- ↑ [الأعراف: 179]
- ↑ [الذاريات: 56]
- ↑ [يس: 82]
- ↑ [الأعراف: 179]
- ↑ [الأنعام: 111]
- ↑ [الحج: 70]
- ↑ [البقرة: 102]
- ↑ [الأنعام: 125]
- ↑ [الذاريات: 56]
- ↑ [يس: 60، 61]
- ↑ [النساء: 36]
- ↑ [الزمر: 17]
- ↑ [الزمر: 3]
- ↑ [يونس: 18]
- ↑ [الأنعام: 148]
- ↑ [آل عمران: 83]
- ↑ [الرعد: 15]
- ↑ [الزخرف: 87]
- ↑ [الذاريات: 56]
- ↑ [الزمر: 38]
- ↑ [يوسف: 106]
- ↑ [العنكبوت: 65]
- ↑ [الزمر: 38]
- ↑ [الأعراف: 172]
- ↑ [المائدة: 6]
- ↑ [البينة: 5]
- ↑ [التوبة: 31]
- ↑ [الذاريات: 56]
- ↑ [القيامة: 36]
- ↑ [الفرقان: 77]
- ↑ [النساء: 147]
- ↑ [الأنعام: 130، 131]
- ↑ [يس: 60، 61]
- ↑ [الأحقاف: 30، 31]
- ↑ [الجن: 14]
- ↑ [البقرة: 21]
- ↑ [الحج: 1]
- ↑ [الرحمن: 13]
- ↑ [الذاريات: 56]
- ↑ [هود: 118]
- ↑ [البقرة: 253]
- ↑ [الأنعام: 112]
- ↑ [الذاريات: 56]
- ↑ [البقرة: 185]
- ↑ [الحج: 37]
- ↑ [الحشر: 7]
- ↑ [المائدة: 97]
- ↑ [الطلاق: 12]
- ↑ [النساء: 64]
- ↑ [الحجرات: 7]