مجموع الفتاوى/المجلد الثامن/سئل عن العبد هل يقدر أن يفعل الطاعة إذا أراد أم لا
سئل عن العبد هل يقدر أن يفعل الطاعة إذا أراد أم لا
[عدل]وسئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى عن العبد، هل يقدر أن يفعل الطاعة إذا أراد أم لا؟ وإذا أراد أن يترك المعصية يكون قادرًا على تركها أم لا؟ وإذا فعل الخير نسبه إلى الله، وإذا فعل الشر نسبه إلى نفسه؟
فأجاب:
الحمد لله، نعم إذا أراد العبد الطاعة التي أوجبها الله عليه إرادة جازمة كان قادرًا عليها، وكذلك إذا أراد ترك المعصية التي حرمت عليه إرادة جازمة كان قادرًا على ذلك، وهذا مما اتفق عليه المسلمون وسائر أهل الملل، حتى أئمة الجبرية، بل هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وإنما ينازع في ذلك بعض غلاة الجبرية الذين يقولون: إن الأمر الممتنع لذاته واقع فى الشريعة، ويحتجون بأمره أبا لهب بأنه يؤمن بما يستلزم عدم إيمانه. وهذا القول خلاف ما أجمع عليه أئمة الإسلام، كالأئمة الأربعة وغيرهم، وأئمة الحديث والتصوف وغيرهم، وخلاف ما أجمع عليه أئمة الكلام من أهل النفي والإثبات.
فأما إجماع المعتزلة، ونحوهم على ذلك فظاهر، وكذلك أئمة المتكلمين المثبتة: كأبي محمد بن كلاب، وأبي العباس القلانسي، وأبي الحسن الأشعري، والقاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي بكر بن فورك، وأبي إسحاق الإسفرائيني، والأستاذ أبي المعالي الجويني، وأبي حامد الغزالي، وكذلك أبو عبد الله محمد بن كرام وأصحابه: كابن الهيصم، وسائر متكلمي أصحاب أبي حنيفة: كأبي منصور الماتريدي، وغيره وأمثال هؤلاء كلهم متفقون. وقد حكى إجماع المسلمين على ذلك غير واحد، كأبي الحسن بن الزاغوني، وإنما نازع في ذلك بعضهم، واتبعه أبو عبد الله الرازي.
واحتجاجهم بقصة أبي لهب حجة باطلة، فإن الله أمر أبا لهب بالإيمان قبل أن تنزل السورة، فلما أصر وعاند استحق الوعيد، كما استحق قوم نوح حين قيل له: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} 1، وحين استحق الوعيد أخبر الله بالوعيد الذي يلحقه، ولم يكن حينئذ مأمورًا أمرًا يطلب به منه ذلك، والشريعة طافحة بأن الأفعال المأمور بها مشروطة بالاستطاعة والقدرة، كما قال النبي ﷺ لعمران بن حصين: «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب1».
وقد اتفق المسلمون على أن المصلي إذا عجز عن بعض واجباتها، كالقيام، أو القراءة أو الركوع، أو السجود، أو ستر العورة، أو استقبال القبلة، أو غير ذلك، سقط عنه ما عجز عنه. وإنما يجب عليه ما إذا أراد فعله إرادة جازمة أمكنه فعله، وكذلك الصيام اتفقوا على أنه يسقط بالعجز عن مثل: الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة؛ الذين يعجزون عنه أداء وقضاء. وإنما تنازعوا هل على مثل ذلك الفدية بالإطعام؟ فأوجبها الجمهور: كأبي حنيفة والشافعي وأحمد، ولم يوجبها مالك، وكذلك الحج: فإنهم أجمعوا على أنه لا يجب على العاجز عنه وقد قال تعالى: {وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 2 وقد تنازعوا: هل الاستطاعة مجرد وجود المال؟ كما هو مذهب الشافعي وأحمد، أو مجرد القدرة ولو بالبدن كما هو مذهب مالك؟ أو لابد منهما كمذهب أبي حنيفة؟ والأولون يوجبون على المغصوب أن يستنيب بماله، بخلاف الآخرين.
بل مما ينبغي أن يعرف أن الاستطاعة الشرعية المشروطة في الأمر والنهي، لم يكتف الشارع فيها بمجرد المكنة ولو مع الضرر، بل متى كان العبد قادرًا على الفعل مع ضرر يلحقه جعل كالعاجز في مواضع كثيرة من الشريعة: كالتطهر بالماء، والصيام في المرض، والقيام في الصلاة، وغير ذلك تحقيقًا لقوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} 3، ولقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 4، ولقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} 5 وفي الصحيح عن أنس عن النبي ﷺ أن الأعرابي لما بال في المسجد قال: «لا تزرموه أي لا تقطعوا عليه بوله فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين»، وكذلك في الصحيح أن النبي ﷺ قال لمعاذ وأبى موسى حين بعثهما إلى اليمن: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا»، وهذا وأمثاله في الشريعة أكثر من أن يحصر.
فمن قال: إن الله أمر العباد بما يعجزون عنه، إذا أرادوه إرادة جازمة فقد كذب على الله ورسوله، وهو من المفترين الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} 6، قال أبو قلابة: هذا لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة.
لكن مع قوله ذلك، فيجب أن تعلم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وإن الله خالق كل شيء فهو خالق العباد، وقدرتهم وإرادتهم وأفعالهم، فهو رب كل شيء ومليكه لا يكون شيء إلا بمشيئته، وإذنه وقضائه وقدره وقدرته، وفعله، وقد جاءت الإرادة في كتاب الله على نوعين:
أحدهما: الإرادة الدينية، كما قال تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} 7، {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} إلى قوله تعالى: {وَالله يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} 8، وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 9.
والثاني: الإرادة الكونية، كما قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدْ الله أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} 10، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} 11، وقال نوح: {وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ الله يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} 12، وقال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 13، وهذا التقسيم تقسيم شريف، وهو أيضا وارد في كتاب الله في الإذن والأمر، والكلمات والتحريم والحكم والقضاء، كما قد بيناه في غير هذا الموضع، وبمعرفته تندفع شبهات عظيمة.
ومن مواقع الشبهة ومثارات الغلط: تنازع الناس في القدرة هل يجب أن تكون مقارنة للفعل؟ أو يجب أن تكون متقدمة عليه؟ والتحقيق الذي عليه أئمة الفقهاء: أن الاستطاعة المشروطة في الأمر والنهي وهي التي تقدم الكلام فيها لا يجب أن تقارن الفعل، فإن الله إنما أوجب الحج على من استطاعه فمن لم يحج من هؤلاء كان عاصيًا باتفاق المسلمين، ولم يوجد في حقه استطاعة مقارنة، وكذلك سائر من عصى الله من المأمورين المنهيين، وجد في حقه الاستطاعة المشروطة في الأمر والنهي.
وأما المقارنة فإنما توجد في حق من فعل، والفاعل لابد أن يريد الفعل إرادة جازمة، وأن يكون قادرًا عليه، وإذا وجد ذلك في حقه وجب وجود الفعل. فمن قال: الاستطاعة هي المقارنة، فهي مجموع ما يحب من الفعل ويدخل في ذلك الإرادة وغيرها وعلى هذا الاصطلاح يقال: إذا لم يرد الفعل، فليس بقادر عليه، وقد تبين أن مثل هذا النزاع لفظي، فمن فسر عدم القدرة بذلك ظهر مقصوده، فإذا حقق الأمر وقيل: هل يكون العبد إذا أراد ما أمر به إرادة جازمة عاجزًا عنه، تبين الحق وظهر لكل أحد أنه إذا أراد ما أمر به لم يكن عاجزا، بل قادرًا عليه. وأن ما كان عاجزًا عنه إذا أراده فإن الله لم يكلفه إياه، فإن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، أي ما وسعته النفس.
ويجب أن يعلم العبد أن عمله من الحسنات هو بفضل الله ورحمته ومن نعمته، كما قال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لله الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا الله} 14، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الله حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ} 15، وقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ الله} 16، وقال: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} 17، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} 18.
وكذلك إضافة السيئات إلى نفسه، هو الذي ينبغي أن يفعله مع علمه، بأن الله خالق كل موجود، من الأعيان والصفات، والحركات، والسكنات، كما قال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} 19، وقال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} 20، وقال الخليل: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} 21، وقال لخاتم الرسل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} 22، وقد قال تعالى في حق من عذبهم: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ} 23، {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} 24، وأمثال هذا كثير في الكتاب والسنة.
وفي الحديث الصحيح الإلهي الذي رواه مسلم وغيره، عن أبى ذر عن النبي ﷺ فيما يروى عن ربه تعالى: «ياعبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، ياعبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم، ياعبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم. ياعبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. ياعبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته، لم ينقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص البحر إذ يغمس فيه المخيط غمسة واحدة. ياعبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».
فقد بين هذا الحديث، أن من وجد خيرًا بالعمل الصالح، فليحمد الله، فإنه هو الذي أنعم بذلك، وإن وجد غير ذلك إما شرًا له عقاب، وإما عبثًا لا فائدة فيه. فلا يلومن إلا نفسه، فإنه هو الذي ظلم نفسه، وكل حادث فبقدرة الله ومشيئته، وكذلك في سيد الاستغفار الذي رواه البخاري، وغيره عن شداد بن أوس عن النبي ﷺ أنه قال: «سيد الاستغفار، أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفرلي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة».
قوله: «أبوء لك بنعمتك علي» يتناول نعمته عليه من الحسنات، وغيرها، وقوله: "وأبوء بذنبي" اعتراف منه بذنبه. وهذه الطريقة هي طريقة المؤمنين. ومن عداهم ثلاثة أصناف: فإن القسمة رباعية.
قسم يجعلون أنفسهم هي الخالقة المحدثة للحسنات والسيئات، وإن نعمة الله الدينية على المؤمن والكافر سواء، وأنه لم يعط العبد إلا قدرة واحدة تصلح للضدين، وليس بيد الله هداية خص بها المؤمن، أو تطلب منه بقول العبد: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 25، وأنه لا يقدر على هداية ضال، ولا إضلال مهتد، فهؤلاء القدرية المجوسية.
وقسم يسلبون العبد اختياره وقدرته، ويجعلونه مجبورًا على حركاته من جنس حركات الجمادات، ويجعلون أفعاله الاختيارية والاضطرارية من نمط واحد حتى يقول أحدهم: إن جميع ما أمر الله به ورسوله فإنما هو أمر بما لا يقدر عليه، ولا يطيقه، فيسلبونه القدرة مطلقًا؛ إذ لا يثبتون له إلا قدرة واحدة مقارنة للفعل، ولا يجعلون للعاصي قدرة أصلا.
فهذه المقالات وأمثالها من مقالات الجبرية القدرية الذين أنكر قولهم كما أنكروا قول الأولين أئمة الهدى، مثل عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وسفيان بن سعيد الثوري، ومحمد بن الوليد الزبيدي، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن محمد بن حنبل وغيرهم.
فإن ضموا إلى ذلك إقامة العذر للعصاة بالقدر، وقالوا: إنهم معذورون لذلك لا يستحقون اللوم والعذاب، أو جعلوا عقوبتهم ظلمًا، فهؤلاء كفار، كما أن من أنكر علم الله القديم من غلاة القدرية فهوكافر.
وإن جعلوا ثبوت القدر موجبًا، لسقوط الأمر والنهي، والوعد والوعيد، كفعل المباحية فهؤلاء أكفر من اليهود والنصاري من جنس المشركين، الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ الله مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ. قُلْ فَلله الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 26، فإن هذا القول يستلزم طي بساط كل أمر ونهي وهذا مما يعلم بالاضطرار من العقل والدين، أنه يوجب الفساد في أمر الدنيا والمعاد.
وأما القسم الرابع: فهو شر الأقسام كما قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي. قال: أنت عند الطاعة قدري، وأنت عند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، فهؤلاء شر أتباع الشيطان، وليس هو مذهبًا لطائفة معروفة، ولكن هو حال عامة المحلولين عن الأمر والنهي، إن فعل طاعة أخذ يضيفها إلى نفسه ويعجب حتى يحبط عمله، وإن فعل معصية أخذ يعتذر بالقدر ويحتج بالقضاء، وتلك حجة داحضة، وعذر غير مقبول.
وتراه إذا أصابته مصيبة بفعل العباد أو غيرهم لا يستسلم للقدر، وتراه إذا ظلم نفسه أو غيره احتج بالقدر ويقول: العبد مسكين لا قادر ولا معذور ويقول:
ألقاه في البحر مكتوفًا وقال له ** إياك إياك أن تبتل بالماء
وإن ظلمه غيره ظلمًا دون ذلك أو توهم أنه ظلمه أحد، سعى في الانتقام من ذلك بأضعاف ذلك، ولا يعذر غيره بمثل ما عذر به نفسه من القدر، وهما سواء، فهذه الجمل يجب اعتقادها.
وأما الكلام على الحقيقة الموجبة لإضافة الذنوب إلى العبد مع عموم الخلق وفي سرد وقوع هذه الشرور، في القدر، وأنه مع ذلك لم يضف إلى الله في كتابه الأعلى أحد وجوه ثلاثة:
إما على طريق العموم، كقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 27.
وإما أن يضاف إلى السبب، كقوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} 28.
وإما أن يحذف الفاعل كقول الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} 29.
والكلام على أن أسماء الله الحسنى لابد أن تتضمن إضافة الخير، والشر داخل في مفعولاته، كقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} 30، وقوله: {اعْلَمُوا أَنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} 31، فتحريرهذه الحقائق الشريفة التي هي شرف الأولين والآخرين يحتاج إلى بسط وإطناب في غير هذا الجواب، والله الموفق للصواب، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ منه إلا إليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
هامش
- ↑ [هود: 36]
- ↑ [آل عمران: 97]
- ↑ [البقرة: 185]
- ↑ [الحج: 78]
- ↑ [المائدة: 6]
- ↑ [الأعراف: 125]
- ↑ [البقرة: 185]
- ↑ [النساء: 26، 27]
- ↑ [المائدة: 6]
- ↑ [الأنعام: 125]
- ↑ [ البقرة: 253]
- ↑ [هود: 34]
- ↑ [ يس: 82]
- ↑ [الأعراف: 43]
- ↑ [الحجرات: 7]
- ↑ [الزمر: 22]
- ↑ [الأنعام: 122]
- ↑ [الشورى: 52]
- ↑ [الأعراف: 23]
- ↑ [القصص: 16]
- ↑ [الشعراء: 82]
- ↑ [محمد: 19]
- ↑ [الزخرف: 76]
- ↑ [الأعراف: 5]
- ↑ [الفاتحة: 6]
- ↑ [الأنعام: 148، 149]
- ↑ [الأنعام: 102، الرعد: 16، الزمر: 62، غافر: 62]
- ↑ [الفلق: 2]
- ↑ [الجن: 10]
- ↑ [الحجر: 49، 50]
- ↑ [المائدة: 98]